حَنَّةُ أَهْلِ الزَّرَانِيْقِ
لَمْ يَكُنْ لِيَدَعُنَا الْمَاضِي نَعَيْشُ يَوْمَنَا الَّذي نَحْنُ فِيْهِ، بَلْ يَسْتَحِثُّنَا [1] حَثًّا لِلْرُكُونِ [2] إليهِ مُسَيَّرِيْنَ فِي ذَلِكَ لا مخيرين، ثَمَةَ مَا يَشِدُّنَا لأهْلِ الْبَسَاطَةِ وَالنَّقَاءِ؛ أَهْلُ الزَّرَانِيْقِ [3] والْحَوَارِي [4] والسكك [5] الضَّيِّقَةِ، هَوَائُهُمْ نَقِيٌّ كَنَقَاءِ سَرَائِرِهِمْ [6] ، تَشِمُّ مِنْهُ رَوَائِحَ امْتَزَجَتْ فِيْهَا فَوَاحُ [7] الْوَرْدِ الجُّورِي [8] مَعَ شجر الحناء [9] السَّائِدَةِ وَ الْمُنْتَشِرَةِ عَلَى امْتدَادِ بَسَاتِيْنِ الوَّاحَةِ الزَّاخِرَةِ بِعُيُونِهَا الْنَبَّاعَةِ؛ وَالَّتِي رَسَمَتْ هذه الينابيع بِدَوَرِهَا فَصْلَ بَدِءِ حَيَاةٍ زَانَهَا لِيْنُ وَرُقِيُّ الطِّبَاعِ وَهَزِيْمَةِ جَفَافٍ وتَصَّحُرٍ خَانِقٍ مُطْبِقٍ حَوْلِهَا.
سُكُوْنُ لَيْلِ أَهْلِ زَرَانِيْقِ الوَّاحَةِ مُخْتَلِفٌ، فَفِي هُدُوْءِ شِتَائِهِمْ مَا يُطْلُقُ الْعِنَانُ [10] لِسَاكِنِيْهَا لِتَلَّمُّسِ الدِّفءِ والْلَمَّةِ [11] وَالاسْتَئَنَاسِ [12] فِيمَا بَيْنَهُمْ، عَلَى الْعَكْسِ مِنْ صَبَاحِهِمْ الَّذي يَعُجُّ بِالْحَيَوْيَةِ والنشاط يَرَوْنَ وُيُؤْمِنُوْنَ فِيمَا قَالَهُ نَبِيُّهُمْ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وآله عِمَادً لَهُمْ وَنِبَرَاسًا يَهْتَدُوْنَ بِهِ فِي كَافَةِ مَنَاحِي حَيَاتِهِمْ ”بارك الله لأُمَّتِي فِي بُكُوْرِهَا [13] “، ويَحُثُّ الْآبَاءُ أَوَلَادَّهَمْ بِقَوْلِهُمْ ”مَنْ أصْبَحَ أفْلَحَ“؛ كَلِمَاتٌ يُرَدّدُهَا الْآبَاءُ وَيُوَجِّهُونهَا لأبْنَائِهِمْ لِشَحْذِ [14] الْهِمَمِ والتَّرْغِيْبِ فِي الْعَمَلِ، جَاعِلَةً مِنْهُمْ مِمَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ فِي تَحَمّلِ مَسْؤولِيةِ مَا يُوْكَلُ إليهِمْ مِنْ مَهَامٍ؛ تَجْعَلَهُمْ قَادِرِيْنَ عَلَى تَأسِيْسِ وَفَتْحِ وَتَكْوِيْنِ أُسَرٍ جَدِيدةٍ؛ لَمْ يَحْتَجْ ذلك من الْآبَاءِ زِيَادةً فِي نَيْلِ الْمَزِيْدِ مِنْ الشَّهَادَاتِ والدرجات الْعَلْمِيَّةِ، بِقَدَرِ مَا كَانَ تَطْبِيْقًا وثَبَاتًا فِي أَنْ مَا يَتُمُ تَعَلُّمُهُ يأخذ طَابِعَ التَّطْبِيْقِ الْفَعْلِيِّ الَّذي يَنْتَهِجُوْنَهُ وَلَا يَحِيْدُونَ عَنْهُ.
بِيُوْتهُمْ بَسِيْطَةٌ وَضَيِّقَّةٌ بِمَقَايْيسِ زَمَانِنَا هَذَا؛ لِدَرَجَةٍ لَا يُمْكَنُ تَخَيِّلُ أَنَّ مِثْلَ تِلْكَ الدَّرْوَازَةِ [15] ، كَيْفَ كَانَتْ صَالِحَةً لِلّدِخُوْلِ والخروج مِنْهَا؟!
وَكَيْفَ لِهَذِهِ الْغُرَفِ والْمَجَالْسِ أَنْ تَحويَّ هَذَا الْعَدَدِ مِنْ الْمَوجُودِينَ! إلا سِعَةُ بَالٍ وطِيْبِ نَفْسٍ وَبَسَاطَةِ سَلِيْقَةٍ [16] ؛ بَعِيْدةٌ كُلَ الْبُعْدِ عَنْ التَّكَلُفِ وَالْمُبَالَغَاتِ، عِنْدَهُمْ أَرْيَحِيِّةُ [17] ”الجُّوْدُ [18] مِنْ المُّوْجُوْدِ“.
وَسَائِلُ التَّسْلِيَةِ عِنْدَ أطْفَالِ تِلْكَ الْحُقْبَةِ [19] بَسيطَةٌ ومحدودة؛ فَهُمْ مُنْشَغِلِيْنَ بِالدَّراسَةِ وَالْلعِبِ الْمَيْدَانِيِّ بَعْدَهَا طِيْلَةَ النَّهَارِ يُلْهِيْهُمْ كُلُّ ذَلِكَ وَيَسْتَهْلِكَ مِنْ طَاقَتِهِمْ، وَ مَا يَأتِي أولُ الْلَيْلِ إلَا وَهُمْ يَحْتَاجُوْنَ لِتَنَاوْلِ وَجْبَةِ الْعَشَاءِ نَتِيْجَةَ لِمَا بَذَلُوهُ مِنْ جُهْدٍ، ويَخْلِدُوْنَ [20] للنَّوُمِ بَعْدَهَا؛ يُصَاحِبُ ذَلِكَ عَادَةً سَمَاعَهُمْ لِسَوَالِيْفِ [21] الْجَدَّاتِ الْمُؤنِسَةِ [22] لَهُمْ فِي لَيْلِهِمْ الطَّويْلِ.
تُقْنِعُهُمْ الْفِكْرَةُ الْبَسِيطَةُ، وتتطاول أعْنَاقَهُمْ وَتَتَعَطَشُ لِسَمَاعِ المَوْعِظَةِ [23] ، تَهْفُو [24] قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله في كلِّ حِيْنٍ.
مَلَابِسُهُمْ بَسِيطَةٌ بِبَسَاطَةِ نفوسهم؛ فَمَا تمَ ارْتِدَائَهُ بالأمْسِ يَلبَسُوْنَهُ الْيَّومَ أو حَتَّى غَدٍ؛ لِقْلَةِ ذَاتِ الْيَدِ عند الكثير مِنْهُمْ، مَوَائدَهُمْ تَخْلوَ مِنْ تنََوعِ الطَّعَامِ وأصْنَافِهِ الْمُخْتَلِفَةِ.
وَتِيْرَةُ صَوْتِ الأمَّهَاتِ لَهَا كَيْفِيْةٌ وَمَحَنَّةٌ [25] مُمَيَّزَةٌ عِندَ نُطْقِهَمْ بالْكَلِمَاتِ فِي نِهَايْةِ الْجُمَلِ، وَحَنَّةُ مَدِّ الأسْمَاءِ عِنْدَ نِدَائهُمْ بأسْمَاءِ الأولادِ والْبَنَاتِ؛ تَخْتَزِلُ الْكَمَ الْوَافْرَ مِنْ الْعَطْفِ وَ الطِّيبَةِ التي امْتَلَأتْ بهِ قلوبُ أُمَّهَاتِ وَ جَدَاتِ ذَلِكَ الزَّمَانِ.
وَعِنْدَمَا نَذْكَرُ حَالَهَمْ وَ مَا كَانُوا عَلِيْهِ مِنْ ضَنْكِ [26] الْعِيْشِ وضعف الْحَالِ، نَقُولُ: مَا أحوجنَا الْيَّوْمَ أَنْ نتَذكَّرَ نِعَمَ اللِهِ عَلَيْنَا الَّتِي لَا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، إنَّمَا تُحْفَظُ النِّعَمُ وَتَزْدَادُ بالشُّكْرِ لَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ خيرٍ.
قالَ جلَّ جَلاَلهُ فِي كِتَابِهِ الْمُنزَّلِ: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رََبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]