آخر تحديث: 2 / 5 / 2024م - 1:07 ص

حَنَّةُ أَهْلِ الزَّرَانِيْقِ

ناجي وهب الفرج *

زرنوقلَمْ يَكُنْ لِيَدَعُنَا الْمَاضِي نَعَيْشُ يَوْمَنَا الَّذي نَحْنُ فِيْهِ، بَلْ يَسْتَحِثُّنَا [1]  حَثًّا لِلْرُكُونِ [2]  إليهِ مُسَيَّرِيْنَ فِي ذَلِكَ لا مخيرين، ثَمَةَ مَا يَشِدُّنَا لأهْلِ الْبَسَاطَةِ وَالنَّقَاءِ؛ أَهْلُ الزَّرَانِيْقِ [3]  والْحَوَارِي [4]  والسكك [5]  الضَّيِّقَةِ، هَوَائُهُمْ نَقِيٌّ كَنَقَاءِ سَرَائِرِهِمْ [6] ، تَشِمُّ مِنْهُ رَوَائِحَ امْتَزَجَتْ فِيْهَا فَوَاحُ [7]  الْوَرْدِ الجُّورِي [8]  مَعَ شجر الحناء [9]  السَّائِدَةِ وَ الْمُنْتَشِرَةِ عَلَى امْتدَادِ بَسَاتِيْنِ الوَّاحَةِ الزَّاخِرَةِ بِعُيُونِهَا الْنَبَّاعَةِ؛ وَالَّتِي رَسَمَتْ هذه الينابيع بِدَوَرِهَا فَصْلَ بَدِءِ حَيَاةٍ زَانَهَا لِيْنُ وَرُقِيُّ الطِّبَاعِ وَهَزِيْمَةِ جَفَافٍ وتَصَّحُرٍ خَانِقٍ مُطْبِقٍ حَوْلِهَا.

سُكُوْنُ لَيْلِ أَهْلِ زَرَانِيْقِ الوَّاحَةِ مُخْتَلِفٌ، فَفِي هُدُوْءِ شِتَائِهِمْ مَا يُطْلُقُ الْعِنَانُ [10]  لِسَاكِنِيْهَا لِتَلَّمُّسِ الدِّفءِ والْلَمَّةِ [11]  وَالاسْتَئَنَاسِ [12]  فِيمَا بَيْنَهُمْ، عَلَى الْعَكْسِ مِنْ صَبَاحِهِمْ الَّذي يَعُجُّ بِالْحَيَوْيَةِ والنشاط يَرَوْنَ وُيُؤْمِنُوْنَ فِيمَا قَالَهُ نَبِيُّهُمْ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وآله عِمَادً لَهُمْ وَنِبَرَاسًا يَهْتَدُوْنَ بِهِ فِي كَافَةِ مَنَاحِي حَيَاتِهِمْ ”بارك الله لأُمَّتِي فِي بُكُوْرِهَا [13] “، ويَحُثُّ الْآبَاءُ أَوَلَادَّهَمْ بِقَوْلِهُمْ ”مَنْ أصْبَحَ أفْلَحَ“؛ كَلِمَاتٌ يُرَدّدُهَا الْآبَاءُ وَيُوَجِّهُونهَا لأبْنَائِهِمْ لِشَحْذِ [14]  الْهِمَمِ والتَّرْغِيْبِ فِي الْعَمَلِ، جَاعِلَةً مِنْهُمْ مِمَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ فِي تَحَمّلِ مَسْؤولِيةِ مَا يُوْكَلُ إليهِمْ مِنْ مَهَامٍ؛ تَجْعَلَهُمْ قَادِرِيْنَ عَلَى تَأسِيْسِ وَفَتْحِ وَتَكْوِيْنِ أُسَرٍ جَدِيدةٍ؛ لَمْ يَحْتَجْ ذلك من الْآبَاءِ زِيَادةً فِي نَيْلِ الْمَزِيْدِ مِنْ الشَّهَادَاتِ والدرجات الْعَلْمِيَّةِ، بِقَدَرِ مَا كَانَ تَطْبِيْقًا وثَبَاتًا فِي أَنْ مَا يَتُمُ تَعَلُّمُهُ يأخذ طَابِعَ التَّطْبِيْقِ الْفَعْلِيِّ الَّذي يَنْتَهِجُوْنَهُ وَلَا يَحِيْدُونَ عَنْهُ.

بِيُوْتهُمْ بَسِيْطَةٌ وَضَيِّقَّةٌ بِمَقَايْيسِ زَمَانِنَا هَذَا؛ لِدَرَجَةٍ لَا يُمْكَنُ تَخَيِّلُ أَنَّ مِثْلَ تِلْكَ الدَّرْوَازَةِ [15] ، كَيْفَ كَانَتْ صَالِحَةً لِلّدِخُوْلِ والخروج مِنْهَا؟!

وَكَيْفَ لِهَذِهِ الْغُرَفِ والْمَجَالْسِ أَنْ تَحويَّ هَذَا الْعَدَدِ مِنْ الْمَوجُودِينَ! إلا سِعَةُ بَالٍ وطِيْبِ نَفْسٍ وَبَسَاطَةِ سَلِيْقَةٍ [16] ؛ بَعِيْدةٌ كُلَ الْبُعْدِ عَنْ التَّكَلُفِ وَالْمُبَالَغَاتِ، عِنْدَهُمْ أَرْيَحِيِّةُ [17]  ”الجُّوْدُ [18]  مِنْ المُّوْجُوْدِ“.

وَسَائِلُ التَّسْلِيَةِ عِنْدَ أطْفَالِ تِلْكَ الْحُقْبَةِ [19]  بَسيطَةٌ ومحدودة؛ فَهُمْ مُنْشَغِلِيْنَ بِالدَّراسَةِ وَالْلعِبِ الْمَيْدَانِيِّ بَعْدَهَا طِيْلَةَ النَّهَارِ يُلْهِيْهُمْ كُلُّ ذَلِكَ وَيَسْتَهْلِكَ مِنْ طَاقَتِهِمْ، وَ مَا يَأتِي أولُ الْلَيْلِ إلَا وَهُمْ يَحْتَاجُوْنَ لِتَنَاوْلِ وَجْبَةِ الْعَشَاءِ نَتِيْجَةَ لِمَا بَذَلُوهُ مِنْ جُهْدٍ، ويَخْلِدُوْنَ [20]  للنَّوُمِ بَعْدَهَا؛ يُصَاحِبُ ذَلِكَ عَادَةً سَمَاعَهُمْ لِسَوَالِيْفِ [21]  الْجَدَّاتِ الْمُؤنِسَةِ [22]  لَهُمْ فِي لَيْلِهِمْ الطَّويْلِ.

تُقْنِعُهُمْ الْفِكْرَةُ الْبَسِيطَةُ، وتتطاول أعْنَاقَهُمْ وَتَتَعَطَشُ لِسَمَاعِ المَوْعِظَةِ [23] ، تَهْفُو [24]  قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله في كلِّ حِيْنٍ.

مَلَابِسُهُمْ بَسِيطَةٌ بِبَسَاطَةِ نفوسهم؛ فَمَا تمَ ارْتِدَائَهُ بالأمْسِ يَلبَسُوْنَهُ الْيَّومَ أو حَتَّى غَدٍ؛ لِقْلَةِ ذَاتِ الْيَدِ عند الكثير مِنْهُمْ، مَوَائدَهُمْ تَخْلوَ مِنْ تنََوعِ الطَّعَامِ وأصْنَافِهِ الْمُخْتَلِفَةِ.

وَتِيْرَةُ صَوْتِ الأمَّهَاتِ لَهَا كَيْفِيْةٌ وَمَحَنَّةٌ [25]  مُمَيَّزَةٌ عِندَ نُطْقِهَمْ بالْكَلِمَاتِ فِي نِهَايْةِ الْجُمَلِ، وَحَنَّةُ مَدِّ الأسْمَاءِ عِنْدَ نِدَائهُمْ بأسْمَاءِ الأولادِ والْبَنَاتِ؛ تَخْتَزِلُ الْكَمَ الْوَافْرَ مِنْ الْعَطْفِ وَ الطِّيبَةِ التي امْتَلَأتْ بهِ قلوبُ أُمَّهَاتِ وَ جَدَاتِ ذَلِكَ الزَّمَانِ.

وَعِنْدَمَا نَذْكَرُ حَالَهَمْ وَ مَا كَانُوا عَلِيْهِ مِنْ ضَنْكِ [26]  الْعِيْشِ وضعف الْحَالِ، نَقُولُ: مَا أحوجنَا الْيَّوْمَ أَنْ نتَذكَّرَ نِعَمَ اللِهِ عَلَيْنَا الَّتِي لَا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، إنَّمَا تُحْفَظُ النِّعَمُ وَتَزْدَادُ بالشُّكْرِ لَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ خيرٍ.

قالَ جلَّ جَلاَلهُ فِي كِتَابِهِ الْمُنزَّلِ: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رََبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]

 


[1]  حَثَّثَهُ على العَمَلِ: حَثَّهُ، حَضَّهُ عَلَيْهِ، أَغْراهُ بِهِ.
[2]  الرُّكون: الاِسْتِسْلام، الْمَيْل.
[3]  الزرنوق «الجمع: زرانيق» هو طريق أو ممر متعرج ضيق عُرِف في العمارة الخليجية. أغلبها تكون ذات نهايات مسدودة. تفصل الزرانيق البيوت المتقاربة والمنازل التراثية القديمة، كما تشكل الزرانيق قنواتهوائية يمر فيها النسيم ويُلطّف الجو، يغلب على الزرانيق أن تكون تحت ظل الأشجار أو أحد البيوت.
[4]  الحَارةُ: حيّ، محلّة متّصلة المنازل، مدخل ضيِّق لمجموعة من المنازل.
[5]  السكة: الطريق أو الزقاق.
[6]  السّريرَةُ: ما يُكتَمُ ويُسَرّ. والجمع: سَرائِرُ.
[7]  فَوّاح: صيغة مبالغة من فاحَ: قويّ الرائحة عِطْر فوّاح.
[8]  الورد الدمشقي أو كما يعر باسمه الشائع الورد الجوري أو الورد المحمدي سميت بهذا الاسم في الغرب لأن الغرب عرفها أثناء حملاته على بلاد الشام، وليس لأن أصل الوردة من بلاد الشام، وذلك لأنها وردة مهجنة وليست أصيلة.
[9]  شجيرة حولية أو معمرة تعمر حوالي ثلاث سنوات وقد تمتد إلى عشرة، مستديمة الخضرة، غزيرة التفريع، يصل طولها إلى ثلاثة أمتار، ومن أصناف الحناء البلدي، والشامي، والبغدادي، والشائكة.
[10]  العِنَانُ: سَيْرُ اللَّجام الذي تُمسَكُ به الدابَّة.
[11]  اللَّمَّةُ: الناسُ المجتمعون.
[12]  الألفة.
[13]  البركة في البُكور.
[14]  شَحَذَ هِمَّتَهُ: نَشَّطَهَا، قَوَّاهَا، أَثَارَهَا. شَحَذَ ذِهْنَهُ.
[15]  معنى كلمة «الدروازة» هو الباب الكبير للمنزل ويوجد فيه «الفرخة» هي الباب الصغير الذي يكون داخل الدروازة
[16]  السَّلِيقَةُ: طبيعة، سَجِيّة، فِطرة.
[17]  الأرْيَحِيَّةُ: الارتياح للندَى والنشاط إلى المعروف، خَصْلةٌ تجعل الإنسانَ يرتاح إلى بذل العطاء والأفعال الحميدة.
[18]  الجُودُ: «عند الأَخلاقيّين»: صفة تحمل صاحبها على بذل ما ينبغي من الخير لِغَيْر عِوَض.
[19]  الحِقْبةُ من الدَّهر: المدة لا وقت لها أَو السنة والجمع: حِقَبٌ، وحُقُوبٌ.
[20]  أَخْلَدَ إلى الرَّاحَةِ وَالهُدُوءِ: مالَ، رَكَنَ.
[21]  السَّوَالِيْف: قَصَصٌ وأخبار.
[22]  الْمُؤنِسَةِ: المسلية.
[23]  المَوْعِظَةُ: عِظَة؛ ما يُوعَظ به من قَوْل أو فعْل وتذكير بالواجبات ودعوة إلى السّيرة الصّالحة: القول الرقيق.
[24]  تَهْفُو: تشتاق وترغب.
[25]  مَحَنَّةٌ: محبة.
[26]  يَعيشُ حَياةَ ضَنْكٍ: ضَيْقٍ، طه آية 124 وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً «قرآن».
نائب رئيس مجلس إدارة جمعية العوامية الخيرية للخدمات الاجتماعية