آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

العصا السحرية

عبد الله الناصر

بعد شهر من تدمير قنبلة نووية مدينة هيروشيما بالكامل، جمع معلم طلابه وبدأ بتدريسهم فوق ركام مدرستهم، وقف بشموخ وقال «سننهض من جديد، سنبني تاريخا، ونصنع مستقبلا، يعتقدون أنهم أضعفونا بتدمير الأرض، نستطيع إحياءها من جديد، أنتم قوة الوطن الحقيقية تستطيعون تحويل التراب المحروق إلى حديقة خضراء ساحرة الجمال. عندما تتغير عقولكم وترسمون أحلامكم وتسعون نحوها بكل قوة.

لم تنهض اليابان بتفوق درجات طلابها، ولا بكثرة الدروس وساعات الدراسة، ارتقت لأنها تملك العشرات من مثل هذا المعلم فبنوا جيلا تعلم الإيمان بقدراته، محبا لأحلامه ووطنه، وجاهزا لإعداد مسارات النجاح للوصول لها بكل صبر وتحدٍّ، مؤمنين بالنجاح لا الفشل.

لنكن صادقين هل نملك مثل هذا المعلم في مدارسنا؟ كم واحد منا تمنى أن يحظى أولاده بهكذا تعليم؟ كم نملك من معلم يربي قبل أن يعلم؟

في مدرسة الأوجام المتوسطة، مدرس لم يرد أن يكون عادياً في أداء عمله، يسعى لجعل كل طالب متميز بحد ذاته، ليس لكون اسمه في لوحة شرف الأوائل، بل بتحفيزه بالثقة بنفسه واكتشاف قدراته التي ستحقق لهم المعجزات.

لم يقس تطور عمله بكم ما يكسبه من راتب، ولا بانتهاء دروسه، يسعد كلما ساند طلابه حد النهاية مهما كانت ظروفهم، يشجع الضعيف، أب لليتيم، ملهم للموهوبين، محب للجميع.

يحاول جعل رحلة التعليم. رحلة علم ونمو ومتعة، يستغل كل الفرص المتاحة بالمدرسة ولا يبخل بالعطاء من نفسه لخدمة الطلاب وتكريمهم كأنهم أبناءه ليراهم يسيرون نحو الأفضل دائماً.

هو قائد لا يحمل عصا، سلاحه الاحتواء والطيبة، كنحلة ذؤوبة لم يمل من عمله، يملك ذكاء اجتماعيا وقدرة على الإقناع، يجهله أغلب أولياء الأمور لأن عطاءه ذو طابع الخفاء والمصداقية، كان سبب نجاح قصص جميلة للكثير من الطلبة خلال سنوات، ما أروع أن تكون إنسانا محفزا وملهما وبصمة لا تنسى في ذاكرة طلابك حد أنهم لا يتوقفون عن المرور لزيارته بعد تخرجهم وتبادل الود والتقدير والعرفان والاحترام له.

تحدى حالة الأنانية وقرر أن يكون إنسانيا ويخرج من دائرة الذات في فكره واهتمامه، بأسلوب رائع، وبرامج وأنشطة إبداعية، أخرج للنور مواهب طلابية مخفية.

هذا الحديث هو حق وواجب للمدرس الفاضل «محمد بن وهب آل محمود» الذي لامس قلوب أبنائنا عن قرب، تحمل مسؤوليات ليست بمهمامه، إرادته تعمل بالوعود لا بالكلام الزائف. حمل رسائل سامية على عاتقه وتجاوز عطاءه حدود مهنته بكثير فيستحق لقبا أكبر من «معلم».

الكلام يطول ولا يمكن للسطور الصغيرة أن تغطي عطاءه وتاريخه، شكراً لك لأنك أحببت أبناءنا، فلولاك لما كان أبناؤنا بهذا العزم والنجاح. شكراً لخلق طالب مميز بدلاً من خائف، شكرًا لتعليمهم أن الفشل لا يعني النهاية بل البداية، شكراً لكونك متسعا راحة بقلبك الذي يسع الجميع، شكراً لكل جهودك وعطاءاتك اللامنتهية.

كم نملك من معلمين يرفع لهم قبعة الإعجاب، يعلمون لطلابنا رؤية ذواتهم وطموحهم ويخرجون منهم ما يكون أفضل استثمارات الوطن … كم منهم مجهولين لا يذكر اسمهم؟؟ كم منهم لم يقدم لهم الشكر والتقدير؟؟؟

متى سنبدأ في شكر يليق لهؤلاء الأبطال؟ متى سيرسم الفنانون لوحات تكريم لهم، ويهدي الشعراء أبيات مدح فيهم؟ متى سننشر صورهم فخرا وعرفان لجهودهم، وتكتب الصحف عن إنجازاتهم؟

شكرا وتقديرا لكل المعلمين المبدعين، نطمح لمعرفتهم جميعا، لنصفق لهم إعجابا.

هناك من يختار أن يكون معلماً يؤدي واجبه العملي فقط، ينتهي ذكره حال تقاعده، وهناك من يختار أن يترك اسمه في قلوب طلابه قبل عقولهم، هؤلاء لن ينقطع ذكرهم، سيدعو الطلاب لهم في كل نجاح يصلون له بحياتهم ومستقبلهم وهذا الخير الذي يزرعه المعلمون والنجاح الحقيقي لعملهم.

حتى اليوم، ومن بعد سنوات مرت، تقبع بذاكرتي صرخات إهانة مدرس جعلني أكره مادته، وفي نفس الذاكرة عشقت الفن بإيمان مدرس أخر قال لي بكل ثقة أن مستقبلي سيكون باهرا، أعتقد أن الأغلب يحمل بذاكرته المشهدين أيضا.

لكننا للأسف بخلنا بالتعبير عن الشكر لمن علّمنا أننا الأفضل، وأنا اليوم أدعو الجميع مهما كانت أعمارهم

بالتفنن بذكر هؤلاء المعلمين النادرين، لا نريدهم مخفيين عنا، لنتشارك في الافتخار بهم والامتنان لكونهم جزءا منا.

أنا أؤمن أن المرء يتأثر بالشخصيات أكثر من المواعظ والحكم، والأستاذ محمد كان قنبلة تهدم كل المنحنيات الخاطئة ويبني بعدها طرقا صحيحة لطلابه، يتغلل في تفكير الطلاب بأخلاقه وصدق محبته وحسن تأنقه ليكن لهم قدوة وحافزا.

في كل مدرسة هناك معلم كالقنبلة، يقدم إلى أبنائنا امتحانات تقديرها ليس الدرجات بل الطموح والتغيير والإرادة، فمني لهم تحية وإجلال، وشكر من عميق القلب، آمل في أن يتقبلوا شكري هذا لهم حتى لو جهلت أسماءهم.

تمكن معلم بعصا سحرية ممتدة من قلبه إلى طلابه، من كتابة مستقبل جديد لليابان غير خرائط القوى لتكن اليوم من أقوى دول العالم، وكتابة المستقبل ليس بالشيء السهل. وبمثل هذه العصا رسم الأستاذ محمد وهب مستقبل طلابه بالتفاؤل والتحدي واليقين بالقدرات، سؤالي لكل مدرس يقرأ هذه الأسطر ولكل من يجلس بمقاعد الجامعات ليتخرج معلما للأجيال هل تملكون هذه العصا؟؟