تجليات العاطفة في ديوان زكي السالم
تميزه لغته الشاعرية الجزلة، ديوان «نبض» الذي لملم خمسة وعشرين قصيدة للشاعر زكي السالم، قدمها بأسلوب اتسم بالرهافة والعذوبة والعاطفة «المدوزنة»، ظهرت في عدة تجليات، تفردت كل واحدة فيها بهيئة جميلة وبهاء متفرد وحس شفيف، فقد ابتدأها بإهداءٍ نابض بالشعور ونغمة واثقة، قائلًا:
أهديكَ منْ وهجِ القَصَائدِ نبضَهَا
ومِنَ البَيَانِ بِدرَّهِ المنْثُورِ
هَذا فؤاديَ إنْ يرُقْ لكَ عَزْفُهُ
فهوَ الحَيَاةُ بأحرُفٍ وسُطُورِ
ثم أبدع في «ثلاثيات من حانة العشق» بتصوير مشاهدٍ متفاوتة النبض؛ يقول:
ألا يا حُبَّي الغافي، على أنّاتِه ذَنبي
أتيتُكَ دَمعةً ثَكلى بما ضيعتُ من حُبَّي
أزحْ من صدريَ الغدّارِ بعضَ خيانةِ القلبِ
هنا حضور جليّ لعاطفة مغمورة لا يُسمع إلا أنينها إثر حرقة في الأعماق كمناجاة ذاتية، قُدمت بأسلوبٍ واقع ومحموم ومكُثف بمصطلحات مركبة تزيد الشحنات العاطفية وهي «حبي الغافي» «دمعة ثكلى» «ضيعت من حبي» «صدري الغدار» «خيانة القلب». كذلك ظهر الربط بين المجردات كأحاسيس «حبي» «أناته ««الغدار» «خيانة» والماديات كرموز للعاطفة مثل: «دمعة ««صدري» «القلب».
ثم يقول:
إذا ما جِئتِني تمشينَ في استحيائكِ المُغري
وعثرةِ خَطوكِ الهمجيَّ بين تأوّدِ الخَصرِ
أخافُ تهورَ الفستانِ حين يمرُ بالصدرِ
فيستعرض بلاغة الإيجاز الشعري بوصفه مشهدًا كاملًا بحرفية منتقاة، يبدأها بنعومة وصفية هادئة - في الشطر الأول - تتصاعد حتى تبلغ ذروتها الانفعالية - في الشطر الثالث، وفيها ينساب التدرج العاطفي من مرحلة اللا ملموس - شعور الحياء - إلى الملموس - تهتك جدران الفستان عبر لمسة جسدية مباشرة -.
بعد ذلك، يقول:
على شفتيكِ نفحُ الشوقِ صبَّ بلهفةٍ بوحهْ
فأيقظَ ميتَ إحساسٍ وأودعَ جدبَهُ دوحه ْ
رعتْ شفتاكِ هذا البوحَ لكنْ ما رعتْ نفحهْ
يستنطق الشاعر صمت العاطفة وشحوب موسمها، إثر نفحات مُشتاقة هطلت لتُحيي روحًا مات إحساسها طويلًا، وهنا يبرز الشاعر قوة الكلمة وأثرها متمثلًا بالبوح المصبوب بتركيز عال. قُدمت هذه المقطوعة كتشبيه ضمني، منح الإحساس صفة الموت والحياة، كما أنه وظف التجسيد توظيفًا ذكيًا مؤثرًا يُحرك مشاعر المتلقي ويُشعره بوقع الكلمة على الروح المتصحرة.
وفي موضع آخر؛ يتجلى الحب كحالة إيمانية تأصلت في ضمير الشاعر منذ فجر تاريخ العشق، يقول:
عشقتُكِ منذُ فجرِ العشقِ لم أكفرْ بملتِهِ
وصغتكِ فيه محرابًا أولي شطرَ قبلتهِ
وحين قلاكِ ربُّ الحبَّ.. أغراني بردتِهِ
وهنا اختار الشاعر السالم وصف «رب الحب «بانتقائية عالية فلم يقل «رب الجمال «أو «رب الحُسن «أو غيرهما، يقينًا بأن للحب ربٌ يقذفه في قلوب العشاق بمشيئة علوية فكأنما سُلبت قدرة البشري على التحكم. إجمالًا صاغت هذه المقطوعة الثلاثية مفهوم الحب في ضمير الشاعر، حيث الأزلية والديمومة والنمو، وهي إشارة لحالة عاطفية ناضجة ترتبط بالمحبوب ارتباطًا ذاتيًا وتعلقًا روحيًا لا يهدده مرور الزمن ولا تحركه إغراءات الحياة ليحيد عن قبلته الأولى.
أما في قصيدة «ما للحب أعذار» تتجلى حالة عاطفية صفراء وهي موت الحب وتلاشي آخر نبضاته، يقول:
لُمي شتاتكِ.. ما للبعدِ أعذارُ
فما تبقى بقلبي منكِ معشارُ
لُمي شتاتكِ.. فالحب الذي هدأت
فيه ضمائرنا، لاقاهُ إعصارُ
يصوّر الشاعر موت المعشار الأخير في قلبه تجاه الحبيبة، مُعترفًا بماضي هذا الحب الذي خلق استقرارًا عاطفيًا وهدوءً نفسيًا في حينه، لكنه لم يثبت في أرضه، بل تبعثر بفعل الريح والأعاصير، وهنا تحديدًا إيمائه لاعتبار الحب علاقة إنسانية لابد من ترسيخها كيلا تهزمها تقلبات الطبيعة وظروف الإنسان المتغيرة.
ثم تتصاعد حدة النغمة الشعرية بتصاعد الحوار والتساؤلات الاستنكارية، تأكيدًا على قرار القطيعة الذي تم اتخاذه بعد سلسلة من الكدمات والجروح والصدوع العاطفية، وقد استعمل الشاعر تشبيهات بليغة، فشبه الاضطراب العاطفي والحيرة الداخلية بالعواصف التي تضرب القلب - رمز العاطفة والشعور - أما القلب فشبهه بالصلصال الذي يسهل عجنه وتشكيله وتفكيكه وإعادة بناءه في لحظة واحدة، استنكارًا لأوهام المحبوبة وتلاعبها المتقلب، يقول:
ماذا تَظنَّينَ قلبي فِي عواصِفِه
صَلصالةً مِثلما تبغين يَختاَرُ؟
عدتِ وما عادتِ الأشواقُ تدفعُني
إليكِ، بل عاد يُغريني بكِ الثَّارُ
هل تذكرينَ دموعي كيف أحرقها
صدُّ وردُّ وتهديدٌ وإنذارُ؟
وقدم احتفاءً أخويًا في ذكرى صداقة عشرينية؛ بقصيدة تجلى فيها حُب الصديق وكأنه حبيب، تفرد بملازمته للنفس، يقول:
ودخلتَ في نَفسي فكُنتَ شَهِيقَها
وطردتَ كُلَّ مُنافِسٍ بِزَفيرِي
ثم جاءت قصيدة «كبرياء» كنبضة حوارية تكشف على مكانة المحبوب ووقع شعره بين طوفان من الشعر والشعراء.
يقول:
حسناءُ طوقكِ الجمالُ بسحرهِ
فعلامَ تستجدين مدحةَ شاعرِ
فتجيب:
ما هزَّني المدَّاحُ حيث عيونُهم
ما أبصرتْ حتى وميضَ أظافري
بل هزَّني منكَ الثناءُ وإنمّا
يُرجى الثناءُ من الخبيرِ الماهرِ.