آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 12:49 ص

حُدُودٌ أَمْ صُدُودٌ؟ حدث وحديث… 8

عبد الله أمان

قبل أسبوع تحديدًا، وبعد فترة الزوال، ذهبت برفقة العائلة، وثلة مِن الأحفاد الصغار للتنزه والاستجمام في أحد الكورنيشات القريبة المجاورة مِن المنزل، فأعددنا، بهمة ونشاط، ما يلزم الرحلة المنتظرة مِن مُختلف أَطباق الطعام اللازمة، وبعض اللعب البلاستيكية، التي لا يَستغني الأطفال عن اللهو واللعب بها… والملفت في الأَمر، أنه فور وصولنا إِلى صدر المكان، وبعد أِن فرشنا بساطنا، كان في مقدمة "أَتيكيت" استقبالنا ثلاث قِطط بيضاء نظيفة سمينة؛ وبعد الاستراحة لهنيهة، قمنا بإعداد وصَف أَطباق وجبة الغداء، وجلسنا حول السفرة في حلقة مستديرة، فما كان من القطط الثلاث إِلَّا أَن جلسن القُرفصاء، بأدب واحتشام، في صف مستقيم مواجه لنا؛ بارتقاب نصيبهن المنتظر مِن بَقايا الطعام، بمسافة متر ونصف المتر تقريبًا، ولم تهاجم، أَو تسطو، عُدوانًا وتسلطًا، على السفرة، رغم انتشار رائحة الطعام النفاذة، ومداعبتها، بحَثٍ وحَفزٍ، وإِغرائها بشدة، لخلايا مَجاس حاسة الشم المرهَفة، عند القطط الجائعة؛ ولم تنصاع إِلى مُثيرات، ومُحفزات، ومُغريات الجوع القهري الفسيولوجي الظاهرة عِندهن… وكأَن القطط الوديعة مُتماشية، وواعية، ومُطبقة لأَحدث تعليمات وتنظيمات أُطر التباعد الاجتماعي المُوصَى بها، في عصر جائحة كورونا المشهود!

هذا، وبعد مرور أُسبوع كامل على وَميض عدسة ”فلاش“ التموضُع، المثير الأَخاذ، والملفت للانتباه، الذي أِظهره الموقف الحسِّي المثالي المتأدِب للقطط الوديعة الأَليفة، والمستحوذ بقبضته، الصارمة العنيدة، على مساحة نابضة في غور محفزات أَعماق تلافيف، وخلايا الدماغ المرهفة المستقبلة… وكيف لي أَن أَنسى واَتناسى وأَتغافل عن ذلك الموقف الحيواني، المُتألق المُتأَنق، في أَجمل جلسة وديعة، وأَرق اّدب جَم؟!… وإِذا كانت بديهية حواس الحيوان الأَعجم - بديدن طبيعته المُلهَمَة - قد فهِم، وقيَّم، وقدَّر الحدود؛ وكلَّف نفسه، تصبرًا؛ وأَكسبها تجلدًا، عن وَهْم وظَن الصدود القاسيين، بالتقيد الذاتي والاحترام المحض الآني، ولم ينح منحى الصدود عنها، بوعي وحاضر إدراك قائمين ظاهرين، فما بال الإِنسان، المتميز بتمام تفكيره، وكمال ذكائه، وصفاء بصيرته… الذي يَكسِر ويَشطر نُظم القواعد، ويضرب بها عُرض الحائط، بتجاهل واضح، وتغافل فاضح؛ ويبعثِر ويدمِّر مُتعمدًا مْترصدًا، استقامة رَص الحدود المحددة، بتجبرٍ وتكبرٍ؛ ويتخذ مُتطاولًا مُتعاليًا، موقف الشاطر المَاكر المُتبختِر، بمِعول تصلفٍ، وإِزميل تعجرفِ؛ وينحو، قاصدًا عازمًا، إلى منحدر منحى موقف الصد المُتردد المُترصد؛ ويتتبع ذاهبًا، بتهور وطيش، أُسلوب، حَماقة، وسَفاهة الرد ”المتجنِّد المتعنِّد“؟!… هذا، ولعل أِبجديات وأَولويات الحدود الناصعة الواضحة، وأَوليات وقفات مناحي الصمود الملزمة الضابطة، وامتلاك ميكانيكية التصرف الحكيم الرصين معروفة ومعلومة ومبجَّلة، بقضها وقضيضها، عند بني البشر قاطبة، على تعدد مِللهم، واختلاف أَلوانهم، وتباين نِحلهم… فهناك مسافات تقديرية ذاتية اجتماعية، يحُسن بنا أَن ندركها، ونتركها، ونلتزم بمد ومط وافر ظلالها، وانتشار أَفيائها الظليلة، عند أَعز وأَجل لقاءاتنا الحميمة، بمَقام أَقاربنا النجباء، وجَمع أَرحامنا الفضلاء، وثُلة أصحابنا الأَعزاء، وصُحبة جيراننا الأَوفياء، وبالآخربن مِن حولنا… بيد أَنَّ هناك مَواقف - مُحرجة مَقبولة - تجبرنا على كسر وبتر قوائم تلك المُحدِّدَات الاجتماعية المتعارفة المعتادة، كالسفر بمعية وسائل النقل السائدة المعروفة، وسط الكَثرة الكاثِرة مِن المسافرين، في آن واحد!

وتتجلى مَسألة الحدود المحددة؛ وتتباعد مرحلة المسافات المقننة، بين كُتل الأجرام السماوية السيارة، وتتجسد وتتحدد مواقع النجوم؛ وتُرسم حدود المراقى؛ وتُتبدد وتُسدد الفواصل بين سائر وساري التخوم الكونية؛ وتنأى، بأسرارها الكونية، في مَنظومات كَوكبات مُتشتِّتَة، في بطون وذيول ”كبسولات“ عظمي حُبلى مِن أَضخم الوحدات المدارية الفلكية، وأَعظم الأجرام العملاقة الكونية، بدقة ربانية عالية، لا تدركها حَوَاس وحَدَس العقول؛ ولاترمقها حِدة الأَبصار والبصائر؛ أَو ترصدها وتحددها قُوة أَحدث التلسكوبات العصرية... يصرِّفها، ويتصرَّف في كُنهها وجوهرها الخالق الجبار، حيث يَشاء ويَختار، لا مُضاد له في حُكمه، ولا مُشابه له في مُلكه، ولا نَظير له في مَشيئته المتعالية، حيث ينشئ نشأَتها الكبرى؛ ويُجري فلكها الدوار، متى شاء، بعظيم قدرته القادرة؛ ويُسيِّر مَجراها، أَنَّى أَراد، بعظمة ملكوتة الظافرة؛ فتذُل لكبريائه أَكبر مخلوقاته؛ وتخضَع لعُلوه أَصغر موجوداته؛ فتتصاغَر وتتقزَّم جميعها، فردًا فردً، اطلبًا في واسع رحمته، ومتسع رأفته، وفائق حكمته؛ ويضمها، تحننًا وشفقةً، تحت جناحي بديع تدبيره، بتفرده الأَوحد المطلق، وكامل وَحدانية سلطته القادرة القاهرة المقتدرة؛ فيسود نسق التوازن، وتُدبر سُبل ونُظم الكون المتناسق؛ وتتسع دائرة التناغم المُستدامة في آفاق بِقاع، وجَنَبات وأَصقاع المشارق مع سائر رَكب أَماثل ونظائر مثيلاتها العظمى، في قِوام وعماد رحيب بون المغارب!

هذا. وفي معظم سياقات أَحدث الأَبحاث، وأَجَد نطاقات جديد أَبجديات، ومستجدات الدراسات الطبية، ومكتشفات علم وظائف الأعضاء الداخلية، وما يساندهما مِن أَبحاث جانبية للإصابات الجسيمة؛ ومعاينة العلل والأَعراض التشويهية لهشاشة النسيج العظمي، وضمور النسيج العضلي، مِن تقارب واحتكاك وتآكل والتفاف الفَقَرات في بِنية الغظارِيف ومُرونة المفَاصل الرئيسة، خاصة في مرحلة عمرية متقدمة مِن سن الشيخوخة؛ مما يتسبب ويترتب في حُدوث ونشوء نوبات مِن الآلام المنتكسة المزمنة؛ وبروز مَوجات مِن الأَوجاع الروماتيزمية المتكررة العُضال!... بيد أنَّ مظاهر التباعد، ووجود السعة بين حواف عظام المفاصل الرئيسة، يظهران ويخبران عن صحة وسلامة ومرونة صِحية، تَتلاشى وتُمحى مَعها جملة الاعتلالات والشكاوَى المتكررة مِن قائمة الآلام المحسوسة المؤرِّقة!

وعلى منابر أَسمى صُعْدَان المداولات السياسية، وأَعلى أَسنِمة المعاملات الإِنسانية، وأَنمى مُرتكزات العلاقات الدولية التنظيمية القائمة بين مختلف الدول… هناك تُنسج ونُحرر محاور ومرتكزات ونظم ”تواصلية - تفاهمية“ وتُرسم وتُمنهج خرائط حدودية منهجية مفصلية، واضحة الحدود، مُلغِية مساحة الأَبعاد، ومُبطِلة متاهات الصدود، ومُحدِّدة أُطر المعالم والمراسم؛ تتيح للدول المتعاضدة المتعاونة، والكتل المتقاربة المتفاهمة، المزيد مِن آفاق التفاهم وفرص التلاؤم؛ وحُزم السديد مِن مَواثيق ومصالحات الاحترام والالتزام؛ وتوفر فرص الإئتلاف والانسجام؛ وتُؤسس، بمحاور وأُطر حِوارية وِدية عُليا، بوادر التقارب المأمول؛ وتوسع وتنوع مساحات حُبلى، وآفاق ممارسات قيادية مُثلى لسائر الحقوق الإِنسانية؛ وتضفي، بشد الهمم، وضمان الذمم، وَسَاعة وفَسَاحة انتهاج كامل الحريات المصيرية و”الأَيديولوجية“... بعيدًا عن مناهج وأَساليب وممارسات التدخلات الجائرة، وبنود التبعات الصاغرة، بمنأَى مُستقل، ورأي مُكتمل، عن إثارة وإهاجة النزعات القمعية السافرة؛ وبمعزل مُنفصل عن تأجيج شأو وشأن شرر وضرر المنازعات الطائشة… والوصول الظافر الآمِن إِلى ضِفاف مَحاج نقيضاتها: صب وسك ريع قوائم وأُطر تلك المكاسب والمغانم الذاتية، وكسب أَرصدة المعاملات الإِنسانية الراقية السامية، في فيء مسالك محددة مقننة، برَغبة الوِرد وبُغية الوُرود الذاتيتين، لا بهيمنة النفوذ، وسيطرة الصدود العاتيتين؛ وبعيدًا عن مُمارسات أَقسَى وأغلَظ الضغوط الظالمة، وبدلًا عن ذلك: صب وسكب شفافية مساعي الجهود الخيرة، في طَي ولَي مَنظومات جهود مساعٍ واضحة، ومَصفوفات بنود أُُطر توافقية - تفاهمية؛ ليَسود السلام المُسالم؛ ويِعم الوئام المُتناغم؛ وتتنامى أَمداد موجات نشوة الانتعاش العام؛ وتنتشر أَسمى لغات الود المتقارب؛ وتندى أَجمل لكنات التفاهم المشترك، بين بني البشر قاطبة، بغض النظر عن اختلاف مَنابع الثقاقات؛ وتشتت أُصول المشارب؛ وتنوع رُؤى المذاهب؛ وتعدد وُجهات التطلعات؛ وتدفق سَيل وافر مِن زخم المطالب المجيدة؛ وازدياد نمو حاضر مَن أَرصدة المساعي الحميدة… عنديدٍ يحلو لسكان الكوكب الأُنسِي الزاهر ارتقاء قِمة العِمارة؛ وبُلوغ ذَروة أَسنِمة الازدهار؛ وتَحقيق أَعلى صَفقات المكَاسب الجوهرية؛ وتمكين أَرقى وأَفخم المطَالب الذاتية؛ وإِحراز أَزكى وأَنقى التطلعات الوطنية؛ وتوثيق عُرى التضامن، وتوطيد أَواصر التكافل؛ وقطف ثِمار التسامح، وجني ربع الوِفاق الأُممي الألمعي المأمول، على حدٍ سواء، قلبًا وقالبًا!

وفي علم أُصول العِمارة المتطور، وفن التشييد العمراني المتقدم، هناك مرتكزات، وأُسس، ونُظم، وضَوابط حُدودية، لا يمكن تغافلها، والصدود النافر عنها، بأي حال مِن الأَحوال؛ ضَمانًا وصِيانةً وحِفاظًا على سلامة أَمن الإِنسان، وأُصول المال العام، وسائر الممتلكات الخاصة والعامة!… وعند الحديث الشائق عن أُصول وفنيات البناء الشامخ، ومِثاليات التعمير الرائدة، لا مَفر ولا مَهزب مِن أُن تُعد وتُحدد، وتُخطط وتُنظم، وتُرتب أُصول وقواعد المخططات البنائية الإِنشائية الأَساسية؛ ومثلها أساسيات البُنى التحتية، بأساليب علمية، وخطط مدروسة، ونماذج وأَنظمة هندسية ومعمارية محسوبة الدقة؛ ومعروفة التحمُّل؛ ومحددة العمر الزمني الافتراضي، وكذلك جمالية الإخراج النهائي، وأَخذ الموافقات النظامية؛ والحصول على التراخيص الرسمية المطلوبة اللازمة، بكامل ضوئها الأَخضر الهادئ!… موضحة كافة الحدود الفنية، والمبادئ البنائية المعمارية، بعلم مدروس، ومعرفة، وخبرة، ومهارة ميدانية، وحسن تدبير وتخطيط رائدين؛ يضمن سَلامة الإِنشاء؛ ويصون جَودة خطط التعمير؛ ويبرز جُمالية عصرية، مواكبة ومنسجمة مع أَحدث مَسحات التقدم الععمراني المعاصر، وأَرقى صَيحات المد الحضاري المتسارعة؛ ويتماشى - مظهرًا وجوهرًا - إِخراجها الداخلي والخارجي، كمًا وكيفًا، مع التطلعات الناهضة، لآفاق ومقاصد مستقبل مشرق زاهر واعد!

وزيادة على التمثيل المتعدد، والتعرية المتجذرة، والهيكلة التشخيصية، والدلالة الوظيفية، لقِوام ولُباب المصطلحين المتآلفين المستضافين «الحدود والصدود»، يحلو لي، بلباقة ولياقة، أَن أَشيد بمناقبهما الدلالية الترب، ومذاقاتهما الوظيفية الفنية الواعدة؛ وأُمجِّد بعَفَوية طرائق ومجالات استخدامهما السلِس؛ علاوة على ذلك، تراني سَعِدت كثيرًا بتناولهما المتدرج السهل؛ وأَنِست جَذلانًا بترافقهما الودود، تباعًا؛ وبهجت مُتهللًا مستبشرًا بتواردهما المحمود، رسمًا وفهمًا، ببن الفينة والأُخرى، في حَبكة السطور المنظورة لنظم ديباجة خاطرتي المتواضعة… وعليه، أَتقدم مُلتمسًا جَادًا، مِن سَماحة هيئات المجامع اللغوية الماجدة الناهضة المعاصرة، بتمرير وقُبول المُفردتين مَعًا، في قالب سالك واحد، بكامل دلالاتهما التمثيلية المتعددة؛ واستضافتهما، بجميع شواهدهما الوظيفية النوعية، في غُرة حاشية صفحة مُشرقة، في مَتن المُعجم اللغوي الحديث؛ واقترح راغبًا تائقًا، في إمكانية اسنخدامهما السالك معًا، في عَضُد المنهج اللغوي؛ وفي لُب مَتن مُفردات ودَلالات وصِياغات وسِياقات منهج علمي النفس والاجتماع؛ وفي أَوج وذَروة صِهاء المخططات الزرقاء لفن العمِارة المتنامي؛ وفي نواصي سُطور مَطويات علم السياسة المعاصر المتجدد؛ وفي الأَبحاث والمُمارسات العلاجية الطبية؛ وفي مناهج الاقتصاد، وبنود الإِنفاق العام… وما توفيقي إِلا بالله العلي الخبير، إِياه نسأَل، وهو المجيب القدير!