آخر تحديث: 12 / 5 / 2024م - 10:13 م

اهتمام الإسلام بعامل الزمن: الأشهر الثلاثة أنموذجا

هناك علاقة كبيرة بين الزمن وبين العبادة، ولقد اهتم الإسلام كما جاء عن النبي ﷺ وأهل بيته الأطهار بالزمن، وحث على العبادة في أوقات معينة، هي من مواطن استجابة الدعاء، نحو:

  • يوم الجمعة وليلة الجمعة.
  • آخر ساعة في نهار الجمعة.
  • الثلث الأخير من الليل.
  • أول يوم من رجب، ويوم النصف منه وليلة النصف منه، وليلة المبعث ويومها.
  • ليلة النصف من شهر شعبان.
  • شهر رمضان وليالي القدر فيه.
  • ليلة عرفة ويومها.
  • ليالي العيدين ويومي العيدين.

إن النفس بحاجة إلى تهيئة كي تنال حظا وافرا من عطاء الله سبحانه وتعالى، وتعتبر الأشهر الثلاثة - رجب وشعبان ورمضان - من أشهر التهيئة والتعبئة الروحية، يرفعها إلى درجات عالية في عالم التكامل.

لا يمكن لطالب أهمل المذاكرة طيلة العام أن يحرز درجة التفوق والتميز بمذاكرته ليلة الامتحان، وكذلك الحال في الأمور العبادية.

إن الأشهر الثلاثة - رجب وشعبان ورمضان - تمثل دورة سلوكية تربوية تعمل على صقل الروح وتهذيبها وتنقيتها مما يعلق بها من أدران الهوى، والسمو بها نحو معارج التكامل.

في هذه الأشهر دورات مختلفة: كل يوم وكل ليلة تعتبر دورة صغيرة.

تكون هذه الدورات مكثفة في أيام معينة من هذه الأشهر، نحو أول ليلة من رجب، وليلة النصف من رجب ويوم النصف، ويوم المبعث وليلته، وليلة النصف من شعبان، الخ...

الهدف من هذه الدورات الصغيرة والمكثفة هو زيادة الاستعداد والتهيئة الروحية لاستقبال الجوائز الكبرى التي أعدها الله للراغبين في شهر رمضان، حيث تصل هذه الجوائز ذروتها في ليلة القدر العظمى.

غير أنه ينبغي أن نشير إلى أن العمل في ليلة القدر وحده لا يكفي للحصول على جوائز عظمى.

لو عمل المرء في ليلة القدر فقط، سيكون حظه من العطاء الإلهي أقل من حظ أولئك الذين استعدوا للحصول على هذه الجوائز الإلهية قبل شهر رمضان بفترة، حيث استثمروا أيام رجب وشعبان، في تصفية أرواحهم كي تكون مهيئة لنيل ما هو أعظم وأعلى من الجوائز الإلهية.

إن البرنامج العبادي المتنوع في شهري رجب وشعبان هو فرصة ذهبية ينبغي للإنسان أن يستثمرها ففيها سعادته الحقة.

هنالك برامج عبادية متنوعة تشمل قراءة القرآن الكريم، والصوم والصلاة والدعاء والأذكار الصغيرة، والإتيان بالعمرة، وزيارات المعصومين، وردت عن الرسول الأعظم وأهل بيته ، وفي الالتزام بها خير للإنسان.

هذه الدورة التربوية الإيمانية المكثفة التي تبدأ في شهر رجب وتنتهي في شهر رمضان، تضع الإنسان المؤمن في قلب الصراط المستقيم، الذي أشار إليه القرآن الكريم:

﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الفاتحة: 6

وقد أورد العلامة الطباطبائي في الميزان بعض الروايات الواردة عن المعصومين:

وفي المعاني، عن الصادق : في معنى قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم يعني أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدي إلى محبتك، والمبلغ إلى جنتك، والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك وفي المعاني، أيضا عن علي : في الآية، يعني، أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا.

وفي المعاني، أيضا عن علي : في معنى صراط الذين الآية: أي: قولوا: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك، لا بالمال والصحة، فإنهم قد يكونون كفارا أو فساقا، قال: وهم الذين قال الله: ”و من يطع الله والرسول - فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم - من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا“.

إن البرامج العبادية المتنوعة التي أشار إليها الرسول وأهل بيته ، تحقق هذه المعاني المشار إليها في هذه الأحاديث.

الاهتمام بالأعمال المستحبة هي ذكر لله سبحانه وتعالى.

يركز كثير من الناس على الأعمال الواجبة، وترك المحرم.

هذا جميل، وينبغي أن يهتم به الإنسان، لكنه لا ينبغي للإنسان أن يحصر نشاطه العبادي في فعل الواجب وترك المحرم فقط، بل عليه أن يتجاوز ذلك إلى فعل المستحب وترك المكروه.

إن الأحكام الشرعية لا تنحصر في واجب ومحرم فقط، بل هي خمسة: الوجوب، والندب، والتحريم، والكراهة، والإباحة.

إن المستحب هو ما رَغَّبَ الشارعُ الناسَ بإتيانه، فيثاب الإنسان إذا ما أتى به، لكن لا يعاقب لو تركه، ولكن الإنسان يخسر شيئا كثيرا من الكمالات الروحية إذا لم يهتم بالمستحبات.

والمكروه هو كل عمل رَغَّبَ الشارعُ الناسَ في تركه فَوَعَدَ بالثواب لتركه، لكن لم يتوعَّد بالعقاب على فعله، ولكن الإنسان قد يخسر بعض الكمالات الروحية، في حال تكراره لفعل المكروه.

إن أشهر رجب وشعبان ورمضان ملأى بكثير من المستحبات، التي لو اجتهد الإنسان في أدائها فإنه سيصل إلى مراتب عالية من التكامل الروحي، وهذا يؤهله لأن يحصل على مزيد من فيوضات الله سبحانه وتعالى.

كل عمل مستحب يفعله الإنسان بصدق وإخلاص، يرفع من درجات التكامل الروحي لديه، ويعمل على تصفية روحه مما يعلق بها من شوائب، تحرمها من الحصول على ألطاف الله سبحانه وتعالى.

مدوامة الإنسان على الاستغفار وقراءة التوحيد هي ذكر لله تعالى، وكلما كان الإنسان أكثر ذكرًا لله سبحانه وتعالى، كان أقرب إليه الله تعالى، قال الله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمنوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيًرً - سورة الأحزاب/ 41

دعت هذه الآية الشريفة إلى ذكر الله بلا حد ولا قيد، ذلك لأن الذكر خير على كل حال، فالذاكر لله تعالى لا مجال لإبليس إليه.

إن مجال العبادة المتنوع من صلاة وصوم ودعاء واستغفار وقراءة قرآن في هذه الأشهر الثلاثة هو من معاني ذكر الله سبحانه وتعالى، ولذا نجد برامج يومية وأسبوعية، نهارية وليلية في هذه الأشهر لتكثيف الذكر، الذي يؤدي في النهاية إلى حصول الإنسان على مزيد من الكمالات الروحية.

نحن بشر، ونحن عرضة للتراجع إلى الوراء، بسبب الميل نحو الشهوات واللذائذ.

نحن بحاجة ماسة إلى رصيد قوي يزودنا بالصبر، ويقوي من أنفسنا إزاء إغراءات الشهوات، كي نصل إلى مراتب أعلى وأعلى وأعلى من الكمالات الروحية.

إن مداومتنا على الذكر تنتشلنا من سبات الغفلة، وتدفعنا نحو الأمام وتعمق من درجة قربنا من الله سبحانه وتعالى.

إن الحاجة إلى المستحبات كبيرة جدا، ولا ينبغي أن يحصر الإنسان نشاطه العبادي في فعل الواجب وترك الحرام فقط.

إن هذا البرنامج العبادي المكثف خلال هذه الأشهر الثلاثة - رجب وشعبان ورمضان - هو بناء إلهي متقن يهدف إلى علاج النفس من الأمراض التي تعتريها بسبب غفلتها عن حضور الله سبحانه وتعالى.

عندما يغفل الإنسان فإن خط عودته إلى الله تعالى قريب جدا، كما ورد عن الإمام السجاد :

”وَاَنَّ الِراحِلَ إليك قَريبُ الْمَسافَةِ، وإنك لا تَحْتَجِبُ عَنْ خَلْقِكَ إلاّ أن تَحْجُبَهُمُ الأعمال دُونَكَ..“

إننا غافلون عنه سبحانه وتعالى، وما علينا إلاّ الالتفات إليه عزّ وجلّ لنكون قريبين منه، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد.

كي يصل الإنسان إلى الله، فإنه بحاجة إلى ما يعبر عنه بزاد الراحل، وهذا الزاد يعتمد وجوده على قوة إرادة الشخص على أداء العمل العبادي.

كما عبر عن ذلك الإمام السجاد :

”وقد علمت أن أفضل زاد الراحل إليك عزم إرادة وقد ناجاك بعزم الإرادة قلبي..“

لقد بين القرآن أن التقوى هي خير زاد:

﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى - سورة البقرة/ 197

إن حرص الإنسان على الاستغفار اليومي ومداومته على الدعاء والأذكار، يقوي من شعوره بحضور الله سبحانه وتعالى، وهذا يقوي جانب التقوى لديه، وإذا قوي جانب التقوى لدى الإنسان، كان أكثر استعدادا لتلقي الفيوضات الإلهية، التي ترفعه أكثر وأكثر في عالم التكامل الروحي.

الإنسان غير الشرعي هو الإنسان الذي لا يلتزم بأداء الواجبات، ولا ينتهي عن المحرمات، والإنسان الشرعي هو الذي ينظم سلوكه وفق ما يتطلبه الشر ضمن سلم تكاملي نحو عالم الإفاضات الربانية.

عندما يعمل الإنسان بالواجبات ويترك المحرمات ولكنه يترك المستحبات ويرتكب المكروهات، فإن هذا الإنسان ظاهرا ملتزم بأوامر الشرع، ولكن عندما يهتم الإنسان بأداء الواجبات ويترك المحرمات ويعمل المهم من المستحبات، فإنه حينئذ يكون ذا سلوك أكثر انطباقاً من سابقه على الشرع.

ثم يتسامى الإنسان في عالم الكمال ليصل إلى درجة عالية، يكون ملتزما فيها بعمل الواجبات واجتناب المحرمات ولا يترك مستحبًا ولا يفعل مكروهًا، بل لا يفعل مباحاً أيضًا، وذلك بأن يجعل كل عمل مباح عملاً مستحبًا من خلال الإتيان به بنية القربة إلى الله تعالى، وإن هذا السير لا حدّ له لأن الكمالات التي يتطلع إليها الإنسان لا حدّ لها.

استشاري طب أطفال وحساسية