الحِلْمُ؛ ضَابِطَةُ النَّفْسِ
جَبْلُ النفوسَ وتعويدها عَنْ الإمساكِ عَنْ الغضبِ؛ هي ضرورةٌ ملحةٌ تُملِيها مقتضياتٌ عدةٌ؛ مِنْهَا صحيةٌ حيثُ تشيرُ التقاريرُ الطبيةِ، إلى أنَّ الغضبَ والانفعالَ، يعتبرُ سبباً لأمراضِ السكري، وضغطِ الدم، وأمراضِ القلبِ، ولهذا فإنَّ أهمَ مَا يُوصي بهِ الأطباءُ هؤلاءَ المرضى، هو السيطرةُ عَلَى النفسِ، وعدمِ الانفعالِ، ونفسية بحيث تؤدي إلى إضعاف حالة التماسك الاجتماعي، حيث ينشغل أفراد المجتمع بمشاكلهم الجزئيةِ والثانويةِ، التي تُذْكِيهَا حالةُ التشنجِ، وفي غمرةِ كلِ ذلكَ تتلاشى الأهدافُ والطموحاتُ الكبيرةُ، التي كَانَ ينبغي أَنْ ينشغلَ الكلُ بها، فيتأخر تحقيقُ المجتمعِ للأهدافِ والمصالحِ العامةِ، بسببِ الانشغالِ بالخلافاتِ الهامشيةِ والتي تعكسُ أثارها لا محالةَ عَلَى تكوينِ وإنشاءِ علاقاتٍ غيرَ متزنةٍ بَيْنَ الفردِ ونسيجهِ الاجتماعي الذي يعيشُ فيهِ.
التوازنُ الانفعالي مطلبٌ رئيسٍ فِي إنجاحِ وتمريرِ كثيرٍ مِنْ المطالبِ المرادُ تحقيقها والوصولِ إليها، هذا يقودنا لنقفَ وقفةَ تأملٍ وفاحصٍ؛ لتناولَ مفردةَ ”الحِلْمِ“ من حيث المفهوم والعوامل التي تساعدُ عَلَى تنميتهِ وكذلكَ الأسبابُ التي تجعلُ مِنْ الحِلْمِ مفقودًا عند الكثيرِ مِنْ الناسِ.
يُعَّرف علماءُ اللغةِ ”الحِلْمَ“ بأنَّهُ مِنْ حَلُمَ، حِلْمَاً: أي تأنّى وسَكَنَ عندَ غضبٍ أو مكروهٍ مَعَ قدرةٍ وقوّةٍ، وكذلكَ صَفَح وعَقَل، والحِلْم: الأناةُ وضبطُ النفسِ، والعقلُ، وهو ضدُ الطيشِ، وجمعهُ أحلامٌ، ومرادفاتهُ اتّزنَ، احتملَ، جَلُدَ، صبرَ، عَقِلَ.
ويصطلحُ عَلَى الحِلْمِ عَلَى أنهُ ضبطُ النفسِ إزاءَ مُثيراتِ الغضبِ، وطُمَأْنِينَتُها بحيثُ لا يحركها الغضبُ بسهولةٍ ولا يزعجهُ المكروهُ بسرعةٍ، وهو الضدُ الحقيقي للغضبِ.
ويرى علماءُ الأخلاقِ على أنّ الحلمَ مِنْ أشرفِ الكمالاتِ، وأنّهُ دليلُ سمو النفسِ ورفعتها، والحِلْمُ يأتي كنتيجةٍ طبيعيةٍ لكظمِ الغيظِ، فمَنْ يعتادُ على كظمهِ للغيظِ تحدثُ لهُ ملكةُ الحِلْمِ، فقدْ وردَ عنْ أميرِ المؤمنينَ قولهُ: «اِكظمْ الغيظَ تَزدَدُ حِلما»
ومِنْ وجهةِ النظرةِ الفلسفيةِ فهي ترى أنَّ هُنَاكَ دوافعٌ وأسبابٌ تدفعُ الفردَ باتجاهِ التحلي بالحِلْمِ وأخرى تساهمُ فِي تقويتهِ مِنْهَا:
التسلطُ على النفسِ وضبطِ القوى والنوازعِ النّفسيةِ يتسببُ فِي أَنْ يصمدَ الإنسانُ أمامَ الأزماتِ فلا ينهارُ أمامها، وبالتالي لا يخضعُ أمامَ قوّةِ الغضبِ والانفعالِ.
علو الطبعِ وعلو الهمةِ وقوةِ الشخصيةِ تقوي فضيلةَ الحلم في الإنسانِ وتمنعهُ من الخضوع أمام الغضب.
الإيمانُ بِاللهِ تعالى والتوجهِ إلى التحلي بصفاتِ اللهِ ومنها الحِلم تقوي في داخلِ الإنسانِ هذهِ الفضيلةِ.
معرفةُ الآثارِ الإيجابيةِ لفضيلةِ الحِلمِ ونتائجها الحميدةِ على حياةِ الإنسانِ تدفعُ أيضًا نحوَ التحلي بهِ.
للحلمِ نتائجُ وآثارٌ كثيرةٌ أهمّها:
حبُ اللهِ تعالى للعبدِ فعن الإمام علي : «إذا أحبَّ اللّه عبداً زيّنه بالسكينة والحلم»
العزةُ وقوّةُ الشخصيةِ والشرفِ، لأنّ الناسَ يحكمونَ على قوةِ شخصيةِ الإنسانِ ورجحانِ عقله من خلال حلمه وضبطه لنفسه.
حفظُ الإنسانِ مِنْ أخطارِ الغضبِ التي قدْ تدمرُ حياتهِ وتجعلهُ نادمًا ما بقي منها.
نُصْرَة الحليم أمامَ الجاهلِ، فقد وردَ عن أميرِ المؤمنينَ : «إنّ أوّل عِوَضِ الحليم من خصلته أنّ الناسَ كلّهم أعوانهُ على خصمهِ»
قالَ تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً﴾ [الفرقان: 63]
قالَ الإمامُ علي «: إنّما الحلمُ كظمُ الغيظِ ومِلْكُ النفسِ»
وردَ عَنْ الرضا قولهُ: «لا يَكُونَ الرجلُ عابداً حتى يَكُونَ حليماً.»
سنعرضُ لبعضِ طرقِ تقويةِ الحِلْم وطرقِ السيطرةِ عَلَى الغضبِ، تأتي عَلَى محورينِ، هما المحورُ العلمي ويكونَ فِي التفكيرِ فِي رواياتِ كظمِ الغيظِ والحلمِ والعفوِ وثوابها
، وتذكرِ قدرةِ اللهِ وغضبهِ، والتفكيرِ في قبحِ صورتهِ عند الغضبِ بأنْ يتذكرَ صورةَ غيرهِ في حالةِ الغضبِ، أن يحدّث نفسه عاقبة العداوة والانتقام.
وأما الطرقُ العمليةُ لتقويةِ الحِلمِ وتفادي الغضب فتكونَ في قراءةِ الاستعاذةِ، وتغيير الحالة، بأنْ يجلسَ إن كان قائما، ويضطجع إنْ كَانَ جالسًا؛ فقدْ وردَ في بعضِ الرواياتِ أن الغضبَ مِنْ النارِ، ولا يُطفيء النارُ إلا الماءُ، وإلصاقُ الخدِ بالأرضِ فقد نقل عن رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم ”قوله:“ ألا إنّ الغضبَ جمرةٌ في قلب ابنِ آدمٍ ألا ترونَ إلى حمرةِ عينيهِ وانتفاخِ أوداجهِ فمَنْ وجدَ مِنْ ذلكَ شيئًا فليلصقَ خدّه ُبالأرضِ"
غايةُ ما يرمي لهُ الشارعُ المقدسُ مِنْ وراءِ التحلي بمثلِ هذهِ الصفاتِ هو الاتجاهُ نحوَ الكمالِ الذي يريدهُ الخالقُ لعبادهِ في أَنْ يكونوا فيهِ، ويسمو بهم للرفعةِ التي يُريدها الباري جلَّ وعلا لهمْ.