رُشْدُ أُنْسِ وِدَادٍ
يَتَدَفَقُ نَشَاطُ نِسْرِينِ بَعَدَ رُجُوعِهَا مِنْ الْمَدَرَسَةِ عَادَةً فِي حُبِّ مُلاَحَقَةِ أَخُوَتِهَا الّذِين يكْبِرُونهَا سِنًا وهُمَا حَامِدٌ وحُسَامٌ فِي حَدِيقَةِ مَنْزِلهُم الصَّغِيرَةِ والْبَسِيطَةِ جدًا التِّي يَتوزعُ فِيهَا بَعْضُ ورودِ المُحَمَدِي وأزهَار الرَّازقي تفوحُ وتَنْشرُ مِنْهَا الرَّوَائِحٌ الَّزَكِيةٌ النَّدِيةٌ، فجاءةً تُنَادِيهُم أُخْتُهْم الْكُبْرَى وِدَادٌ لِتَنَاوْلَ وَجْبَةِ الْغِذَاءِ؛ فَهُم يَأْكُلُونَ وَ يَلَعَّبُون ويَنَامُونَ مَعًا، يَتَسَامَرُون قَبْلَ نَوْمهُم، يَنْصِتُونَ وَ تَسْتَهْوِيهُم قَصَصُ جَدَتِهِمْ لأبِيْهِمْ جَيْدًا فِي كُلِّ لَيْلِةٍ. فِي بَيْتِهُم الصَّغِيرِ المْتَوَاضعِ، كُلُّ شِيءٍ مُرَتَبٍ فِيهِ يَسْهُلُ التَّعَامُلُ مَعَهُ وَ يَتَأَتَّى الْوصُولُ إلِيهِ. أُخْتُهْم الكُبْرَى وِدَادٌ تُشَارِكُ أُمَّهَا فِي تَعْلِيم وتَوِّجِيهِ تَرْبِيَةِ أَخُوَتِهَا. وِدْادٌ لَمْ تُكْمِلْ تَعْلِيمهَا الْجَامِعِيّ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ تَفَوَقِهَا الدِّرَاسِيّ، وَ آثَرَتْ البْقَاءَ مَعَ أُمِّهَا؛ لِمَا تُعَانِيهُ الأمُ مِنْ مَتَاعِبٍ صِحِّيَّةٍ مُزْمِنَةٍ أُصِيبَتْ بِهَا إِبّانَ حَمْلِها الْأخْيَرِ بأخِيهَا الْأَصْغَرِ رَائِدٍ؛ والَّتي كَانَتْ لَهُ أُخْتّهُ وِدَادًا بِمَثَابَةِ أُمًا ثانيةً.
تَعَرَّضَ والدَهُمْ هُوَ الآخَرُ لِمَتَاعِبَ صِحِّيَّةٍ أجْبَرَتْهُ عَلَى التَّقَاعُدِ الْمُبَكِّرِ مِنْ عَمَلِهِ.
كلُّ هَذِهِ الظُّرُوْفِ شَكَّلَتْ لـ وِدَادٍ ضَغَطًا لِكِي تؤجلَ دِرَاسَتِها وتَتَفَرَغَ لِرَعَايةِ أَبَوَّيْهَا وأَخُوَتِهَا وحَتَّى جَدَتِهَا الْكَبِيرَة فِي السِّنِّ.
لاَ تُفَوَتُ وِدَادٌ شَارِدَةً وَلاَ وَارِدَةً فِي بَيْتهُم، أَصْبَحَتْ الأمُ لَهُمْ، وَهِي الرَّاعِيَةُ لِشُؤُونِهِمْ جَمِيعاً..
أَخُوّهُم حُسَامٌ هُوَ الْوَلَدُ الأكبرُ بَيْنَ أخْوَتِهِ الذُّكُورِ حَامِدٍ ورائدٍ، حُسَامٌ متفوقٌ فِي دراستهِ وهمّهُ ومِقْيَاسهُ فِي الْحَيَاةِ فِي مَدَى مَا يُحَقِّقهُ مِنْ تَقَدُمٍ فِي دِرَاسَتِهِ، كلُّ طَلَبَاتِهِ تُصْبِحُ نَافْذَةً حَتَّى لَو كَانَ ذلكَ عَلَى حِسَابِ مَنْ حَوْلهِ.
إعتَادَ حُسَامٌ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ حَتَّى أنهُ يعتقدُ بأنَّ مَا طَلَبَ وَ رَغِبَ مِنْ أمُورٍ هِي حَقٌ مُكْتَسَبٌ لا يَجِبُ عَلَيهِ التَّنَازُلَ عَنْهَا.
حَامِدٌ الأخُ الأوسَطُ، نَادْرًا مَا تَرَاهُ مُهتَمًا باحْتَيَاجَاتِ وَ أحْوَالِ الْبَيْتِ فَهَوَ مُنْشَغِلٌ بالخْرُوجِْ مَعَ أصْحَابِهِ طِيلَةَ الْيومِ ولا يَعُودُ إلى الْمَنْزَلِ إلا آخْرَ اللَّيْلِ.
أمَا رَائِدٌ فَهَوَ مُتَعَلِقٌ بأُخْتهِ وِدَادٍ أكَْثرَ مِنْ أُمْهِ؛ حَتَّى إنْهُ لاَ يُفَرِّقُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأحْيَانِ بينَ أُمِّهِ وأُخْتهِ.
أما نِسْرينُ الأختُ الصَّغُرَى فَهِي فِي مُشَاكَسَةٍ دَائِمَةٍ مَعَ أَخُوَتِهَا حَامِدٍ وَ رَائِدٍ وَ خَاصَةً رَائِدٍ.
وَ بِحُكْمِ قِيَامِ وِدْادٍ بِشُؤونِ البْيتِ بِكُلَّ مَسْؤولِيَاتِهِ جَعَلَهَا تَطَّلِعُ عَلَى بَعْضِ مَا يختصُّ بِكَثيرٍ مِنْ الأمورِ الخَّاصةِ التِّي ترتبطُ بوالديها؛ مِمَا جعلَ حُسَامٌ تنتابهُ الْغِيرةُ، ويُثيرُ صِراعًا مُفْتَعَلًا مَعَ أُخْتِهِ وِدَادٍ فِي كَثِيْرٍمِنْ الأحْيَانِ بِسَبَبٍ وَ بِدُونِ سَبَبٍ.
وِدَادٌ عَاقْلَةٌ مُتَدَيْنَةٌ، تَعَرِفُ مَا لَهَا ومَا عَلِيْها، فَهِي خَيْرُ مُعِينٍ لإخُوتِهَا عَلَى عَملِ الخَيرِ واجتَنَابِ مَوَاطِنِ الشَّرِ.
كَانَتْ وِدَادًا دقيقةً في كلِّ تَفَاصِيلِ حَيَاتها؛ فَهِي تُحَافِظُ وتَحْرِصُ عَلَى أداءِ صَلَواتِهَا فِي أوقَاتِهَا، والْمحافظةِ عَلَى واجبَاتِهَا ومُنْفَتِحَةٍ عَلَى مَنْ حَوْلهَا مِنْ أقرباءٍ وجِيرَانٍ حَتَّى أضْحَتْ مَضْرِبَ الْمثلِ فِي الأدَبِ وحُسْنِ التَّعاملِ عِنْدَهم. أخذتْ أُختها نِسْرينُ مِنْ أُخْتِهَا وِدَادٍ الْكثيرَ مِنْ الصِّفَاتِ الْجَمِيلةِ.
فِي ذاتِ يومٍ طرقتْ الْبابَ جَارَتُهُمْ أمُ سَالِمٍ، أسْرَعَا نِسْرِينٌ وَ رَائِدٌ لِفْتحِ الْبابِ، سَألَتْهُمْ أمُ سَالِمٍ عَنْ أُمِهِم، وإذا بِأُمِ حُسَامٍ تَخْرَجُ مِنْ الْمَطَبخَِ مُرَحِبَةً بِجَارتِهَا التي عَادْةً مَا تَجْلِسُ مَعَهَا فِي أوقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ الْيومِ، لَكِنْ كانَ هذا الْيوم فِيهِ شَيْئًا مُخَتَلِفًا للأخُوْةِ وَهُمْ يَسَمَعُوْنَ أمَ سَالِمٍ تُرِيْدُ أَنْ تَخْطِبَ وِدَادًا لأبْنِها سَالِمٍ الْذي كَانَ يَعَمَلُ مُحَاسِبًا فِي أحْدِ المْتَاجِرِ القريبةِ مِنْ مَدِينَتِهِمْ. وَاعَدَتَّهَا أمُ حُسَامٍ خَيْرًا.
كَانَ ذلكَ بِمَرَأى ومَسْمعٍ مِنْ أَخُوَتِهَا الصَّغارِ الذينَ أحسّوا وللوَهْلَةِ الأولَى؛ بأنَّ هَذا الْغَرِيبَ سَيَنْتَزِعُ أُخْتَهُمْ مِنْهم، أجْهَشُوَا بالْبُكاءِ والرَّفْضِ.
لاَ لا يا أُمي! لا نُريدُ أحدًا أنْ يأخذَ أُخْتِنَا مِنَّا!
زرعتْ وِدَادٌ الأنْسَ والطَّمأنينةَ والتَّرْتِيبَ وَ النَّظامَ والْبسّمَةَ والحِلْمَ وَ الرَّأفة فِي أَخُوَتِهَا، لَمْ تكنْ وِدَادًا بالتِّي تَبحثُ عَنْ آخرِ صيحاتِ الْموضَةِ كَمَا هُوَ الحْالُ عِنْدَ الكثِيرِاتِ مِنْ بنَاتِ جِيلِها، لكنَّها تَأخْذُ الأمْرَ باعْتِدَالٍ بِدُونِ إفراطٍ ولا تَفْرِيطٍ.
تمتْ مَرَاسِيمُ الزَّفافِ بِبَسَاطةٍ شديدةٍ وَ حَسبَ الإمكاناتِ الْمُتَاحَةِ لِزوجِهَا سَالِمٍ؛ التِّي حَرِصَتْ وِدَادٌ ألا تَبْدأ حَيَاتِهَا الزَّوْجِيَّة بِدِيُونٍ تُثْقِلُ كَاهِلَ زَوْجِهَا.
فقدْ اخْتَارَتْ وِدَادٌ زَوجَهَا بعنايةٍ وتأملٍ ورويةٍ؛ اختارتْ مَنْ يخافُ اللهَ فِيهَا، فَهِي تَعِي وتُدْرِكُ إنَّ مَنْ لا يَخاَفُ اللهَ يُخَافُ مِنْهُ، وَ هَذَا أُسُّ الْحَيَاةِ الْزَوجِيةِ الثَّابتِ الَّذي لا يَهَزَّهُ طَارِئٌ أو عَارِضٌ.
طَبَعَتْ عَلَى بَيْتِهَا الْجَدِيدِ أُنْسَ رَاشِدَةٍ مُطْمَئِنَةٍ، غَمَرَتْهُ بالطَّهارةِ والنَّظَافْةِ والطَّمَأنِيْنَةِ..
وِدَادٌ تُدْرِكُ تَمَامًا وتُؤمِنُ إنَّ اللهَ لاَ يُضَيَّعُ أجرَ مَنْ أحْسَنَ عَمَلاً..
حُسَامٌ وحَامدٌ ورائدٌ ونِسْرِينُ يَجْتَمِعُوْنَ عَلَى حُبِهُمْ لَهَا، مَنْ يَزْرَعُ خَيرًا يَحْصِدُ خَيرًا طَالَ الزَّمَانُ أو قُصرُ سَوَاءً كَانَ داخلَ عَائِلتِهِ أو خَارِجِهَا..
هَكَذَا يُريْدُ اللهُ لَنَا ذلكَ فِي مُخَالَطَةِ النَّاسِ فِي أَنْ تَكَونَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتْنا بَكَوْا عَلَيْنا، وَإِنْ عِشْنا مَعَهَمْ حَنُّوا إِلَيْنَا.
فَهَذَا الْمَقْصَدُ وَ الْمَكْسَبُ.