آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 11:58 م

سوق السمك الجديد في القطيف

زكي أبو السعود *

منذ مئات السنين، والقطيف كمدينة ساحلية، كان لها ميناءها الكبير الذي كانت ترسو فيه شتى انواع السفن المحملة بمختلف البضائع والسلع من الدول المجاورة ومن الهند والساحل الشرقي لإفريقيا، وبالمقابل كانت تشحن على هذه السفن منتجات القطيف الزراعية وبالذات البلح بحالاته «بسر، تمر، سلوق» وغير الزراعية. وفي حقبة تجارة اللؤلؤ الطبيعي كان ميناء القطيف من موانئ الخليج التي كانت تبحر منه سفن لصيد اللؤلؤ. وقبل بناء مرفأ الخبر كان المسافرون للبحرين ينطلقون منه وإليه. وبالإضافة لكل هذه الأنشطة كان ميناء القطيف والمرافئ الأخرى التابعة لها ترسو فيها قوارب صيد السمك بمختلف احجامها، التي كانت تغدي القطيف وفيما بعد مدن المنطقة الشرقية الحديثة بالأسماك الطازجة يومياً.

لم يكن صيد السمك لدى سكان القطيف مهنة حديثة، فقد عرفوها ومارسوها منذ الاف السنين وظلوا متمسكين بها حتى يومنا هذا. وهناك من الصيادين والباعة من توارثوا هذه المهنة أب عن جد، ولا زال بعض من أبنائهم متمسكين بها، ومحلاتهم في السوق معروفة وقائمة حتى يومنا هذا.

وفي سوق سمك القطيف القديمة كان المشترون من مختلف الاعمار بما في ذلك صغار السن، الذين كان أهاليهم يعتمدون عليهم في شراء السمك دون خوف من انهم سيتعرضون للغش أو بيعهم سمكا غير صالح، فلكون الباعة من أهل البلد فهم حريصون على سمعتهم ونزاهتهم في التعامل مع الجميع دون تفريق أو تمييز بين صغير أو كبير. وشخصيا وبحكم إني أكبر أبناء والديّ، وعمل ابي في شركة الارامكو يفرض غيابه عن البيت معظم أيام الأسبوع، فقد كنتُ المكلف بشراء السمك أو اللحم يوميا قبل أن تعم الكهرباء البلد ويقتني الناس الثلاجات ليخنزوا فيها اطعمتهم التي لا تحتفظ بصلاحيتها إلا من خلال التبريد، فكنت يوميا وقبل الذهاب للمدرسة أقوم بواجبي في الذهاب إلى السوق في موقعها بحي الشريعة لشراء الطعام. ولا أتذكر في يوم من الأيام ان وبختني امي لأني جلبت للبيت سمكاً غير صالح، أو إني عجزت عن شراء طعام غدائنا لأن المبلغ الذي اعطتني امي إياه لم يكفي لدفع قيمته، فقد كانت الأسعار تناسب كل الميزانيات، وهذه كانت احدى خصائص سوق القطيف، التي نمت وكبرت لتصبح واحدة من أكبر أسواق السمك في الخليج والأكبر في المملكة، يرتادها يوميا مئات المتسوقين بالمفرق والجملة من القطيف ومن خارجها.

مع كبر السوق وارتفاع حجم المبيعات فيها يوميا وبحكم بقائها في وسط المدينة، كان لا بد من نقلها من موقعها لموقع جديد أوسع وأكبر ولا يسبب ازعاجا لسكان الحي الذي تقع فيه السوق. وقد قامت البلدية ببناء سوقاً جديدة على الساحل بقرب المرفأ ليكون البديل المناسب للسوق القديمة، كي تحافظ السوق على مكانتها ومركزها التجاري وان تستمر كمصدر لعمل مئات السعوديين كما كانت من قبل. وظل مبنى السوق الجديدة قائما لبضع سنوات انتظاراً لمجيئ مستثمر، يقوم باستئجار كامل الموقع، ومن ثم يديره بطريقة تجارية تعود عليه بربح وفير. فبدلاً من ان تقوم البلدية بتأجير المحلات في السوق على تجار وباعة الأسماك كمرفق عام، كما اعتاد عليه الناس من قبل، بحيث تكون قيمة الايجار مبنية على المنفعة العامة وخدمة المواطنين والمقيمين، لجأت إلى هذه الطريقة للتخلص من مهام الاشراف ومراقبة وصيانة السوق، والتي كما هو معروف هي من مهمات البلديات منذ أن تأسست. وليس سراً أن المستثمر لم يدخل في هذا المشروع ليقدم خدمة عامة، بل ليجني من وراء ذلك عائدا مجزيا كأي مشروع استثماري، الذي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال فرض أسعار تأجير أعلى مما كانت البلدية تتقاضاه من مستأجري السوق سابقاً. وهذا الفرق في قيم الايجار سيتكفل بدفعه المشترون تلقائيا، مما سيؤثر على الأسعار التي شهدت ارتفاعات متلاحقة خلال السنوات الأخيرة، مما سيجعل بعض المشترين يفضلون الذهاب للأسواق الأخرى بحثا عن أسعار أقل. وإذا ما استمرت الأسعار في الارتفاع فشأنا أم ابينا ستفقد سوق القطيف جزءا من جاذبيتها المبنية على مجموعة من العوامل، منها بالطبع يأتي الأسعار بدرجة أولى، ومن ثم الخدمات التي يقدمها الباعة للمتسوقين، كتنظيف السمك وتقشير الربيان مباشرة من قبل الباعة أنفسهم، وتوصيله لسياراتهم وهذا ما يجعل المشتري يشعر بالاطمئنان والراحة لأنه يرى بأم عينيه كيف تنظف وتقطع بضاعته في وقت قصير نسبيا، فلا يتسبب ذلك في طول انتظاره. وبالذات هذه الخدمة تأتي في مقدمة الخدمات التي تميزت بها أسواق السمك في كل محافظة القطيف.

بعد طول انتظار منذ ان بنيت السوق الجديدة، تم في شهر يناير الماضي الانتقال اليها، وبدأت البلدية في تهديم المبنى القديم ليكون مواقف لسوق الخضار الجديدة، التي سبق وان كتبت مقالا عن ايجارات محلاتها في العام الماضي داعيا فيه عدم فرض ايجارات مرتفعة على المحلات كي لا يتضرر الباعة والمشترين. وكم أتمنى ان يكون ما كتبت قد وجد اداناً صاغية من قبل مسؤولي بلدية القطيف تجنباً لأي نتائج سلبية قد تحدث من وراء ذلك.

حين الذهاب لسوق السمك القطيف، يلفت انتباه زائرها غياب أي لوحات ارشادية عن موقعها، فالزائر من خارج القطيف لن يعرف موقعها ومداخله ما لم يرشده أحد، وهذا امر مستغرب، وليس معروف السبب هل هو عدم جاهزية هذه اللوحات حتى هذا الوقت؟ ام ان البلدية غير مهتمة بذلك؟ ولذا أتمنى ان ينظر إلى هذا الامر في وقت قريب.

حين زيارة السوق، لا يسعى الزائر الا ان يبدي اعجابه بمساحة السوق وتوزع محلاتها وحسن الموقع الذي بنيت عليه.

حينما ذهبت اليها مشترياً، اخبرني البائع بأنه لن يقطع السمك لي كما اعتاد على فعله من قبل، وعلي أخده لمكان آخر، فاجئني هذا الامر، فهذا خلاف لما كانت عليه السوق من قبل، وحينما ذهبت للمكان المخصص للتقطيع والتقشير وجدت ان هناك مكانين اثنين فقط لكامل السوق، وعلي الانتظار حتى يأتي دوري فقد كان هناك متسوقين آخرين قبلي، وغير ذلك علي أن ادفع رسوم مقابل ذلك، وهذا ايضاً امر مستحدث لم يكن متبعاً في السوق من قبل. الامر المستغرب ان السوق التي تحتوي على 86 محل موزعة على ثلاث ممرات كبيرة، ليس بها إلا محلين للتنظيف والتقشير محدودي المساحة، بحيث لا يمكن ان يعمل فيها كحد أقصى أكثر من أربعة عمال في وقت واحد. وغير مفهوم لدي لماذا لم يجعل المصمم في كل ممر في السوق محل لهذه المهمة، كي لا يرهق المشتري بنقل مشترياته لممر آخر في مرة واحدة، فمن غير المنطقي حينما يكون وزن البضاعة أكثر من عشرة كيلوغرامات، كالروبيان في موسمه، ان يحمل المشتري كل مشترياته لمحل التنظيف والتقشير عدة مرات، ومن ثم عليه ان يتركها مع المنظفين الذين لن يكون بمقدورهم خدمة العملاء في وقت قصير نتيجة لكثرة الزبائن في هذه الموسم.

كمشتري أرى ان المصمم لم يوفق في ذلك، وعلى البلدية أن تأخذ هذا العيب التصميمي في اعتبارها وتقوم بتصحيحه، أما بالسماح للباعة كما في السابق بتولي هذه المهمة وهذا هو الخيار الأفضل، أو بتخصيص محلات إضافية عند كل بوابة من بوابات السوق، بحيث يتم خدمة الزبائن في وقت اقصر، ودون ان يتسبب ذلك في تزاحم المشترين امام هذه المحلات، وفي تعبهم، خاصة أن من بينهم من هم كبار في السن ونساء لن يجدوا في طول الانتظار أو الذهاب والإياب عدة مرات سهلا عليهم.

إن معالجة مثل هذه الإشكالات التصميمة في حينها سيسهم في جعل التسوق في هذه السوق الجديدة عملية سهلة ومريحة خاصة حين الإبقاء على مستواها الحالي من النظافة، مما سيساعد السوق في الاحتفاظ ببعض من مكانتها وسمعتها الجيدة وجاذبيتها التي لا شك انها ستتأثر بما سيلحق بالأسعار من ارتفاعات إضافية. ولكن على أمل أن يستقطب الموقع «الذي من المفترض ان يكون سوقا مركزيا للحوم والدجاج ومطاعم للمأكولات البحرية» اعدادا أكثر من المتسوقين وان يكون السوق بمجمله معلما ناجحا تعتز به محافظة القطيف والمنطقة الشرقية بصورة عامة.

بكالوريوس في القانون الدولي، ودبلوم علوم مصرفية. مصرفي سابق، تولى عدة مناصب تنفيذية، آخرها المدير العام الإقليمي…