آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 8:46 م

رحلة دون تخطيط مُسبق

ليلى الزاهر *

تلعثم لساني ولم أجرؤ على النطق بكلمة واحدة فقد كان المشهد أكبر من وصفه لكم عندما رأيته قد اقترب مني تذكرت قول الرسول الكريم ﷺ: شيئان يكرههما ابن آدم الموت وقلة المال؛

يكره الموت وفيه راحة المؤمن من الفتنة ويكره قلة المال وهي أقلّ للحساب.

حقيقة لم أكن على استعدادٍ تام لهذا اللقاء بملك الموت لكنني قبل سفري تذكرت أنني زرتُ الإمام الحسين زيارة حقيقية تخلو من الريب وقد أتممت جميع فروضي وتصالحتُ مع أخي الذي قطعني لأكثر من عشر سنوات لذلك عندما رأيت رُسل الله كان عندي بعض الزاد لهذا السفر الطويل الذي جاء فجأة دون تخطيط مُسبق.

إنهم قادمون!

ما هذا النور المحتشد الذي أراه أمامي؟!

لا بد أنهم ملائكة الله، إنّهم يحملون ثيابًا ناصعة البياض ذات رائحة عبقة، لم يسبق لي رؤية ذلك المنظر وهذا الحشد المهِيب، اقتربوا مني يتقدّمهم مَلَك الموت الذي جلس عند رأسي فقال لي:

يا عبدالله أبشر برضا الله عليك، ثم فُتحت لي شُقّة كبيرة رأيت بساتين وقصور وبحيرات زرقاء لم أرَ مثل جمالها في حياتي ثمّ رأيت مَلَك الموت مخاطبًا روحي: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوانه.

لقد شعرتُ بألم شديد يلفّ جسدي أصبحت ضعيفا جدا أحدهم كان بجواري أغمض عيني أنه ابني الكبير، كان يتمتم بكلمات لم أسمعه جيدا ربما كان يقول: «السلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين».

قلت في نفسي جزاك الله خيرا يا بني حديثك الطيب جعلني أشعر براحة عميقة.

رجوته أن يكمل حديثه، هيا تابع بني فأنا أشعر براحة عميقة تجتاح بدني المنهك، قل يا بني: «بسم الله وعلى ملة رسول الله، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» فإنها تبعث السكون والراحة في نفوس موتاكم.

لقد امتلأ المكان بالبكاء ومما أزعجني كثيرا دعاء أولادي على أنفسهم بالموت حزنا عليّ فهذا ابني الصغير أسمعه يبكي وينتحب ويقول: كم كنت أتمنى أن يأخذني الموت بدلا عنك يا أبتي.

ليتك يا بني تبعدهم عني فأنا بحاجة ماسة للدعاء لا للبكاء والعويل، اجعلهم يدعون لي بالمغفرة والرحمة فإن الملائكة حولي يؤمنون على ما تدعون به.

«قولوا خيرًا فإن الملائكة تُؤمّن على ما قال أهل بيت الميت»

تذكرت أنني في عداد الموتى الآن وهم لا يسمعون ما أقول، غير أنني سمعت ملك الموت يستنكر ما يقومون به فيقول: مِمَ هذا الجزع ومم هذا الفزع فوالله ما انتقصت لأحدٍ منكم عمرًا ولا ذهبت لأحد منكم برزق ولا ظلمت لأحد منكم شيئًا، وإن لي بكم عودة بعد عودة حتى لا أبقي منكم أحد.

وحمدتُ الله تعالى أنني وصلت للمغتسل ولا يوجد ما يعرقل مسيرتي فقد قمت بأداء حقوق الناس جميعها ولم يبقَ في ذمتي حق لأحدٍ فنفس المؤمن معلقة بدَينه حتى يُقضى عنه جميع ديونه.

ما زلت في بداية طريقي للحياة الجديدة فأنا لا أستطيع سرد جميع التفاصيل لأنه من الصعب استيعاب جميع ما يحدث لي.

لقد وصلت للتو لمكانِ إقامتي الجديد كنتُ أسعى جاهدًا لأن أمهّده بالخير والعمل الصالح فإقامتي سوف تطول فيه.

رافقتكم السلامة أبنائي، يوم لا ينفع مال وبنون إلّا من أتى الله بقلب سليم، أرجو ألاتنسوني. الله الله في ميتكم، في والدكم، لن ينقطع عملي بوصلكم حتى وإن كنت تحت التراب.

جزاك الله خيرًا يا بُني، هذا هو صوته سمعته يصلي صلاة ساعة الدفن هدية لي، وسيذكرني الليلة بصلاة الوحشة، لقد أوصيته بصلاة التسبيح أيضًا وبقراءة ما تيسر من كتاب ربي.

هذا هو الظلام يغطيني فجأة بعد أن أهالوا عليّ التراب وتركوني في هذا المكان الموحش، شعرتُ بضيق لا أتحدث مع أحد، سكون خيّم على المكان، أصغيت جيدا، تأملت من حولي.

هناك من يشقّ طريقه نحوي، لن أهرب منهم وكيف لي الهرب وهم أشعروني بالاطمئنان وآنسوا وحدتي.

أنا غريب في هذا المكان لكنهم شملوني بالرعاية والاهتمام ما هذا نور تساءلت في نفسي وأجابني ركوعي وسجودي الطويل بين يدي ربي وللحديث بقية....

فالرحلة لم تنتهِ بعد، هناك طريق طويل ولكن لن أمشيه بمفردي ولمثل هذا فليعمل العاملون.

أعرف أنني أطلتُ الحديث واستبقتُ الأحداث غير أنني فقط أردتُ أن أخبركم أن هذا السفر لا بد منه ومن لم يسافر اليوم سوف يسافر غدًا فتصدى لحياتك بما ينفعك ويُسهّل في الغد رحلتك فغالبا لا يُخطط الناسُ لمثل هذه الرحلات.