أم جاسم
«1»
كانا جالسين في «الخباز» المخبز العربي يتبادلان أطراف الحديث...
سأله: حجي صالح متى ستقلع عن التدخين؟! ألا ترى أن في هذه العادة هدر للصحة فهو يؤثر في الجهاز التنفسي، والقلب والشرايين، والجهاز التناسلي، والجهاز المناعي، والجلد، والعيون، كما يزيد من خطر الإصابة بأنواع مختلفة من السرطانات، إضافة إلى أنه هدر للمال.
أجابه مبتسمًا: يا أستاذ علي.. التدخين تمسك بي ولا يمكن أن يتخلى عني... لقد قطعته لمدة شهرين ولكنه ظل يطاردني.. لم ييأس من العودة... حتى استسلمت له وها هو يلازمني منذ 40 سنة.
في هذه الأثناء قطع حديثهما صوت طفل في العاشرة من عمره... سأل الخباز: مختار... أعطني خبز بنصف ريال.
ظل واقفًا لحظات حتى سلمه الخبز... وذهب.
نظر إليه الأستاذ علي وخاطب الخباز ما هذا النظام... كيف تعطي هذا الطفل خبزًا ونحن هنا منذ 20 دقيقة؟!
أجابه مختار الخباز: هذا النظام.. من يريد خبزا بنصف ريال فإن له الأسبقية...
قال الأستاذ علي ولكن هذه فوضى وليس من شر أكبر من الفوضى.
قال الحجي صالح: لا تزعج نفسك دع الأمور تمشي بطبيعتها وعفويتها... أنت شخصية مثقفة لا تدع هذه الحوادث تأخذ من تفكيرك...
«2»
لحظات حتى جاءت عجوز وخاطبت الخباز مختار... أريد خبزا بريالين...
أجابها مختار لحظة ماما..
نظر مختار للأستاذ علي وقال هذه ماما أم جاسم كبيرة في السن.. ولا تستطيع الانتظار طويلا... هل تسمح أعطيها الخبز.... حتى لا نعمل فوضى..
التفت الأستاذ علي للحاج صالح وخاطبه: هذا نظام عجيب!
ضحك الحاج صالح وقال ليس عجيبا.. ولكن هذا المتعارف عليه في أي مخبز.
أخذت أم جاسم الخبز وذهبت..
وبسبب الهواء سقط رغيف على الأرض... تناولته أم جاسم ونظفت التراب عنه..
كان الأستاذ علي ينظر إليها.... توجه للحاج صالح... وسأله:
لماذا لا يحضر أحد أبناءها لشراء الخبز.. هذا عقوق...
هل تعرف هذه العجوز؟!
أجابه الحاج صالح: نعم أعرفها... فهي تسكن مع ابنها في ذلك البيت...
أشار إليه...
البيت المضروب حجر... ذلك البيت...
سأله الأستاذ علي ولماذا لا يحضر ولدها أو أحد أحفادها...
أجابه الحاج صالح: لا أعلم... فهي تحضر في كل يوم في نفس الموعد....
قال الأستاذ علي: لقد شممت رائحة طيبة من تلك العجوز ذكرتني برائحة جدتي التي توفيت منذ 20 عاماً...
نظر إليه الحاج صالح وفي عينه دمعة: نعم وهي نفس رائحة زوجتي التي توفيت منذ خمس سنوات... هذه رائحة جيل الطيبين... رائحة الطهارة والمحبة والإيمان...
في هذه الأثناء جاءت طفلة تبلغ من العمر 8 سنوات... وقالت ريد خبزا بنصف ريال
خاطبها الحاج صالح هلا فاطمة كيف حالك... وكيف حال البابا...
أجابته الحمد لله...
قال لها الحاج صالح سلمي عليه...
أجابته إن شاء الله
أخذت الخبز وذهبت...
قال الأستاذ علي متعجبا: ومن هي هذه الطفلة أيضا.. أنت تعرفها؟!
أجابه ضاحكا: هذه فاطمة أخت حسن...
قال الأستاذ علي ومن هو حسن؟!
ضحك الحاج صالح وقال الذي جاء منذ لحظات واشترى خبرًا بنصف ريال.
«3»
استمر الأستاذ علي بالتردد على هذا المخبز رغم ما به من «فوضى» إلا أنه أراد التعرف أكثر على أحوال الناس فهو باحث اجتماعي ويرغب في معرفة عادات الناس وطرق التعامل مع مختلف الفئات العمرية....
استمرت أم جاسم بالحضور يوميا في نفس الوقت...
ذات يوم قال الأستاذ علي للحاج صالح: هل تعرف هذه العائلة جيدا؟
أجابه: نعم..
قال الأستاذ علي أريد أن أزورهم وأتعرف على العلاقات الأسرية داخل العائلة... هل يمكنك أن تقدم لي هذه الخدمة؟
قال الحاج صالح: عرفت هدفك... الأمر بسيط يمكنني أن أرتب لك موعدا مع ابنها... فهم جيراني..
تم تحديد موعد الزيارة
ذهب الأستاذ علي مع الحاج صالح لمنزل أم جاسم... وهناك استقبلهم جاسم أحسن استقبال...
قال الحاج صالح: كيف حال الوالدة؟
أجابه جاسم أنها بخير وصحة وعافية
قال الحاج صالح هل يمكنني السلام عليها..
أجابه جاسم: نعم يمكنك ذلك فأنت جارنا والوالدة تعرفك معرفة تامة وهي سعيدة بزيارتك لنا.
توجه الحاج صالح مع جاسم لمقابلة أم جاسم.
خاطبها: كيف حالك حجية أم جاسم؟
أجابته: أهلا بالحجي صالح... لماذا قطعت زيارتنا... رحم الله أم مهدي... كانت تواصلنا بالزيارة اليومية... رحمها الله هم السابقون ونحن اللاحقون...
قال الحاج صالح: أطال الله في عمرك حجية أم جاسم... وربي يعطيك الصحة والعافية..
«4»
عاد الحاج صالح مع جاسم إلى الأستاذ علي
قال جاسم: لقد أخبرني الحاج صالح أنك باحث اجتماعي... فأهلا وسهلا بك...
قال الأستاذ علي: أريد أن أتعرف على الحالة الاجتماعية للوالدة، ومهارات التواصل معكم، وعلاقات الأطفال معها، كما أود معرفة الحالة الذهنية عند الوالدة... حيث أنى أراها بشكل يومي تحضر للمخبز العربي وتشتري الخبز... ألا ترى أن ذلك يسبب لها تعبًا وربما تضل الطريق إلى البيت؟!
قال جاسم: الحمد لله صحة الوالدة ممتازة وهي قوية الذاكرة.
ولكن دعني أخبرك بما يجول في خاطرك وكما يظن البعض أنني أقسو على والدتي عند ذهابها للمخبز.. ولكن ولله الحمد فأنا كما يقول ربنا: ”وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا“ مريم «32»
الوالدة أم جاسم هي التي تذهب للمخبز بإرادتها... فهي تريد أن تعمل شيئا إيجابيًا في يومها... تريد أن تشاركنا في حياتنا... والدتي تحب الحركة ورؤية الناس...
لا تقلق أستاذنا العزيز... أم جاسم... هي سراج البيت الذي ينير كل ركن من أركانه، يشع بالبركة في كل مكان. وعلاقتنا مع الوالدة هي علاقة البر والمحبة...
نظر الأستاذ علي للحاج صالح وقال:
لا داعي لإكمال البحث...
فأم جاسم هي بركة اجتماعية... وهي نبع عطاء مهما تقدم بها العمر...