آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 2:11 ص

سراب الليل

فؤاد الجشي

في إحدى جلسات الأدب الجميلة وفي فضاء السّرد والرواية، أفصح صديقي عن قصة كانت من أروع ما سمعته بين الروايات. السّرد كان المحطة الأولى، حضور في رأيه وتوازنه، قصّ علينا القصة، أحد أهمّ الأشياء كانت التجلّي اللساني في العرض والصوت، والعلاقة الحميمية بالشخصية، أنتجت صوتًا ساردًا، يتلوّن طبقًا لما يقول، قادرًا على سلب العقول، التفتنا جميعًا نحوه فقال: ركّزوا معي.

كنتُ مدرسًا في إحدى المدارس الثانوية في المنطقة الشرقية، ولفت انتباهي شابٌّ نزيه، كان محاطًا بنظري بسبب ذكائه وأدبه المتميّز. في السنة الثالثة من المرحلة الدراسية، لم أجد له أثرًا في المدرسة، استقصيت الإدارة، أفادوا بأنه أنتقل إلى مدينة الخفجي مع عمّه الذي يعمل هناك أصلًا. بعد مضي السنوات التقى المدرس بذلك الشاب، أفاض عليه الشاب جُلّ احترامه لهذا المدرس، كما المعلم أيضًا.

السؤال الذي كان المعلم ينتظره: لماذا انتقلت إلى مدينة الخفجي؟ ابتسم الطالب قائلًا: كنت راغبًا أن أكون أكثر هدوءاً عند عمّي للحصول على المعدّل المطلوب لدراسة الطب في الجامعة، لكن هذه ليست القصة. وبعد برهة من الوقت مع المعلم وتبادل الأحاديث المسلّية قال الطالب: لقد حدّثت لي قصّة أثناء انتهاء الفصل الدراسي الأخير قبل عودتي إلى مدينة الأحساء! نظر المعلم إليه نظر الرجل للرجل، أمعن فيه جيّدًا قبل الجلوس في أحد المقاهي القريبة من الموقع.

اتصل أخي أحمد ذات يوم، ليخبرني بقرب زواجه في فصل الصيف. اقترح أن أذهب إلى الكويت في تلك الفترة، لشراء بعض الأثاث؛ للجودة والسّعر المناسب في ذلك الوقت. وعدَ بأنه سوف يتم تحويل المبلغ غدًا في أحد البنوك، بعد انتهاء الفصل الدراسي. في ساعات ذلك الصباح الباكر ذهبتُ إلى الكويت مع ابن عمّي بواسطة سيارة النقل الخاصة التي يملكها عمّي، وبعد انقضاء اليوم وشراء لوازم الأثاث عائدين إلى مدينة الخفجي بعد منتصف الليل، استأذنت عمّي مبتسمًا في مواصلة الطريق إلى الأحساء.

نظر إلى ابن أخيه يقول: القيادة في الليل ذات مخاطر جمة، يا بن أخي، حفاظًا على سلامتك، انتظر حتى الصباح. أنت تعلم سوء سفلتة وضيق الطريق والمسافة التي تبلغ 400 كيلومتر، عليك البقاء حتى الصباح. إصراره على السّفر ليلًا لم يكن مطمئنًا لعائلة عمّه جميعًا، فشلت جميع المحاولات لثنيه، إصراره كان أقوى من أن يتراجع عن قراره للسفر إلى مدينة الأحساء.

أغمض العمّ عينه الدّامعتين خوفًا من تلك الأشياء التي يراها في مخيّلته، قرأوا له دعاء السّفر والأدعية التي تحفظ سلامته أثناء الطريق. كان تلويحة الأيدي المودّعة من بعيد وهو يراها في المرآة أثارت دموعه. الطريق العام ذو مسارين فقط. الطريق موحش لخلوِّه من المرتادين في هذه السّاعة المتأخرة، ظلام حالك وليل أسود مخيف، كأنك على كوكب آخر. لا توجد إضاءة على جانبي الطريق، لا أرى شيئًا إلّا ما تكشفه أنوار السيارة، الطريق يعلو ويهبط، يتموّج ويطول، أضيئت الأنوار العالية على امتداد الطريق، بسبب الشتاء القارس، لا تستطيع أن تعقد صفقة مع الدّفء الذي تبحث عنه.

بدأت أشعر بالوحدة بعد مسير مسافة كافية. فكرة العودة إلى المكان الذي كنت فيه كانت تجتاحني كالإعصار، لكن مضيتُ قُدمًا دون النظر إلى الخلف. بدأت مشاعري تختلف أكثر مع بداية الطريق، الخوف من المجهول غير المبرّر بشأن شيءٍ لم يحدث بعد. تذكرت صورًا مخيفة وبدأت في نسج أسئلة كثيرة بلا إجابات، ماذا لو رأيت شخصًا على الطريق يحتاج لمساعدة؟ إجابات نصفها صامتة والنصف الآخر خائفة. فتحت المذياع على إذاعة القرآن الكريم لطرد الخوف وبثّ الطمأنينة في نفسي. بعد تلك الدقائق كانت المفاجأة! لم يتصوّر ما كان يفكر به عقلي، يراه الآن واقعًا أمامه، رأيت من بعيد ذلك المجهول في وسط الشارع يرفرف بكلتا يديه كأنه طائر صغير يحاول الإقلاع لأول مرّة في حياته.

تذكرت جدّتي حينما كانت تجمعنا بقصصها الشيّقة ونحن ننظر في حدقات عينيها الصّغيرتين، لنرى وقع قصصها علينا بأنّ الجنّ يسكنون الطرقات المظلمة، لا تخف، فقط استعذ بالله واقرأ آية الكرسي يحفظك الرّحمن من كلّ شر. قرارات سريعة مع تلك الدقيقة، قبل الوصول قرّرت عدم التوقف حتى لو تطلب الأمر قتله في وسط الطريق. أخفضت صوت المذياع، بدأت أسرع بالسّيارة مقرّرًا دهسه، إنه جان وليس بشرًا، لا، ربما إنسان، ماذا يفعل في وسط الطريق؟

قرّرت فجأة التوقف قبل عدّة أمتار لكي أدرك الحقيقة. ضغطت على المكابح بقوة وبشكل مفاجئ حتى آخر لحظة قبل دهسه. استعطت رؤية الدخان المتصاعد تخرج من بين الإطارات بعد التوقف، قصير لا يمتلك من مؤهلات الهيبة التي تدفعه لسلوك الشّرير، أضواء السيارة أمام عينيه، انتقل بصورة سريعة إلى الجانب الأيمن من السيارة ”الراكب“. ما زال الخوف يحمل أثقاله في ذعر أثناء التوقف. ضغطت على مفتاح باب الزجاج الأيمن قليلًا،

- ماذا تفعل هنا في وسط الطريق؟

- كنت مع أصدقائي في سيارتهم، اختلفت معهم ثم طردوني بسبب أنني غير مناسب لهم، أريد فقط الوصول إلى مدينة الدمام.

ضغطت على زر فتح الباب الأيمن، صعد واستقرّ وهو ينظر إلى الأمام، لم يتحدّث بكلمة واحدة أثناء الطريق. الخوف ما زال يداهمني، ربما في حركته اللّاإرادية بانقضاضه على فريسته، كان عليَّ الاستعداد للرّد عليه بكلّ سرعة في حالة حدوث شيء ما.

الزمن توقف بالنسبة لي، تذكرت رواية «الإنسان ذلك المجهول» لألكسي كارِل. إننا لا نفهم الإنسان ككل، فكلّ واحد منّا مكوّن من موكب من الأشباح، تسير في وسطها حقيقة مجهولة. السّاعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل، لوحة الطريق تشير إلى المسافة المتبقية 300 كيلومتر. شعرت بهدوئه المستمرّ، أدرت مفتاح التدفئة قليلًا لاستعادة حرارة جسمي الضائعة. بعد مسافة طويلة ما زلت أشعر بالضيق والخوف اللامعقول وهو في السّيارة بجانبي، أخيرًا ثغثغَ بصوت خافت، قال إنه نداء الطبيعة، لديّ حاجة للتبول، إذا سمحت.

كانت الفرصة المناسبة لطرد الخوف والهروب من الموقف، شعرت بتأنيب الضّمير؛ لأنني سوف أخدعه. توقفت عن تلك الفكرة، بعد هُنيئة، خرجت من السيارة بحثًا عنه لتأخره أكثر من دقائق، الخوف من الظلام والموت بدأ يتفاقم، سمعت صوت الكلاب من مسافة قريبة، كيف أناديه باسمه؟ صرخت بأعلى صوتي: ”يَل أخو“ عدّة مرّات، الهدوء يسيطر على المكان، إنه فظاعة الخطأ الذي اقترفته، كان يجب أن آخذ بنصيحة عمّي.

رفعت رأسي لأرى النجوم بجمالها ربما تساعدني على الخروج من هذا الرّعب الذي يحيط بي، قرّرت العودة إلى السيارة لمواصلة الطريق. شعرت باهتزاز في جسمي ورعشة في رأسي عندما رأيته جالسًا في السّيارة، صرخت صرخة صاخبة أمامه: كيف دخلت السّيارة؟ ومتى؟ ابتسم الراكب أمامي بهدوء، لم ينبس بكلمة واحدة، تحركت السّيارة والارتياب يعاودني من الرجل الجالس بجانبي، هدوء تام أثناء الطريق.

بين الفينة والفينة التفت إليه بنظرات الخوف، لكنّه لم يلتفت ولو مرّة. وجدته يطأطئ برأسه الغافي، جعلني أنتمي إلى راحتي بعض الشيء، لوحة الطريق المسافة المتبقية 100 كيلومتر إلى الدمام، الدقائق القريبة سوف تكون المخرج الفرعي لمدينة الدمام، عندما يغادر لن أنسى دقات القلب المتسارعة أثناء الطريق، وهنا ينتهي اللقاء.

بدأت تدريجيًا بالتوقف عند المخرج، وشعرت بأنّ حواسّه كانت متابعة للطريق، رفع يديه مودّعًا بدون كلمة تذكر. توقفت أمام محطة للتزود بالوقود، الساعة تشير إلى الثالثة إلّا ربع صباحًا، الوصول إلى الأحساء سوف يكون قبل الشروق. قبل التوجه إلى الشارع الرئيسي أضأت سقف السّيارة الداخلي للبحث عن أثر أو مخلّفات للراكب الغريب، وجدت صندوقًا خشبيًّا متوسط الحجم تركه هذا الغريب! أرعب فرائصي مرّة أخرى هذه الليلة، تردّدت في فتحه، بل لم تبصره عيناي أصلًا، بسبب هذا الغريب، ربما هناك قصة أخرى.

فتحت الصندوق بعد قرار صعب واكتشاف ما بداخله، أغلقته كما فتحته بأسرع ما يكون. كان بالصندوق شيء غريب، مزيج بين الغرابة والتقزّز، كان أشبه برؤوس آدمية أو حيوانية. لوحة الطريق تشير إلى 100 كيلومتر للوصول إلى مدينتي الأحساء. سيطر عليَّ الرعب مرّة أخرى بسبب هذا الصندوق، لو أكشف أمره ربما أكون قاتلًا بسبب هذا الغريب! قبل وصولي إلى مدخل المدينة رأيت وميضًا من بعيد، ربما نقطة تفتيش للشرطة، ربما أنّهم يبحثون عن قاطع الرؤوس، فرائصي ترتعد، ترتجف من الفزع المرتقب، توقفت، سألني:

- وين رايح؟

- قلت له: من سكان الأحساء.

كلّ شيءٍ على ما يرام، الحمد لله، ما زلت أفكر، كيف أتخلّص من هذه الرؤوس الثلاثة؟

فتحت الباب المنزل، تفاجأ والدي أثناء دخولي المنزل، بينما يتوضأ استعدادًا لصلاة الفجر، الحمد الله على سلامة الوصول، قبّلت رأس والدي، كان بإمكانك الانتظار حتى الصباح، عمّك وعائلته قلقون عليك، ربما لاحقًا، تستطيع الاتصال بهم للاطمئنان عليك، لماذا أنت متوتر؟ علامات وجهك شاحبة!.

حدثت لي قصّة أثناء الطريق يجب أن تسمعها، بينما ضربات قلبي تخفق بعنف من شدّة الخوف. بدأت بسردها حتى نهايتها.

- أين الصندوق يا علاء؟

ذهب والدي إلى السّيارة وأخذ الصندوق بيديه، أطلق والدي ضحكة مرّة بعد مرّة بأعلى صوته أثناء فتح الصندوق، وهو يقول: أم أحمد، مبروك، ابنك علاء وصل ومعه رؤوس البصل الثلاث الكبيرات التي أرسلها أخي من الخفجي!