مَاهِيَّةُ الْأحْلَاَمِ بَيْنَ الدِّينِ وعِلْمِ النَّفْسِ
ترافقُ ظاهرةُ الأحلامِ العجيبةِ والملفتةِ الناسَ أثناءَ سُباتهم ودخولهم في مراحلِ متقدمةٍ مِنْ نومهم، تُدْخِلُهم في آفاق رحبةٍ لعقلِهم الباطنِ لا يستطيعونَ اكتشافها وهم في حالةِ اليقظةِ، وحتى نُزيلُ اللبسَ والاجتهادَ في هذا الموضوعِ، لا بد مِنْ إخضاع هذا المفهوم للسياقِ الشرعي بعيدًا عن الآراءِ الشخصيةِ والاجتهاداتِ مِنْ هذا الطرف أو ذاك، ومِنْ هذا المنطلق سنتناولُ الحلمَ عندَ علماءِ النفسِ وأنواعهِ، ثم نتطرقُ لمفهومِ الرؤيا الصادقة، ودورُ المنامِ في المعرفةِ الإسلاميةِ، وفوائدُ المناماتِ المبشراتِ، ودلالة رؤيا الأنبياء، ثم نتطرق لتعبير الرؤيا، وذكرَ بعضَ كتبِ تفسيرِ الأحلامِ وموقفِ العلماءِ مِنْها.
الحلمُ ”الرؤيا“ عند اللغويينَ هو ما يراهُ النَّائمُ في نَومهِ، مَجموعةُ أعْراضٍ نَفسيَّةٍ تَحْدُثُ في أثناءِ النَّومِ وتَتَمثَّلُ للنَّائمِ رُموزًا وصُوَرًا مُتَتابِعة مِنْ دونِ اتِّساقٍ.
وقد تطرقَ علماءُ النفسِ لماهيةِ الحلمِ بقولهم بأنه ”نشاطٌ عقلي يحدثُ أثناءَ النومِ ويتمثلُ في سلسلةٍ من الصورِ والأحداثِ التي تظهر في صورٍ من الخيال والتي يمكن أن يكون لها معنى نفسي أو محتوى يمكن تفسيره وتأويله“، ويرى المحللون النفسيون أنّ الحلم يحقق إشباعاً رمزياً للرغبات، ومن ثمّ فهو طريق إلى التفريغِ بما يؤدي دوراً إيجابياً في التوازنِ النفسي، وللحلمِ محتوى ظاهر مِنْ الأفكارِ والخيالاتِ والأحداثِ كما يذكرهُ الشخصُ الحالمُ، كما لهُ محتوى كامنٍ يتكونُ مِنْ الرغباتِ المكبوتةِ التي يتمُ التعبيرَ عنها بطريقةٍ غيرَ مباشرةٍ في المحتوى.
أمًا أنواعهُ يكونُ على عدةِ أشكالٍ ومستوياتٍ؛ فهناكَ الحلمُ المحققُ للرغبةِ وهو ما يكونُ عندَ الأطفالِ في الغالبِ، ويوجدُ الحلمُ المحققُ للحاجةِ البيولوجيةِ كحلمِ النائمِ العطشانِ بالماءِ، وهناكَ الحلمُ المحافظُ على النومِ حيثُ تتحولُ فيهِ المثيراتُ الخارجيةُ إلى حلمٍ، مثلُ مَنْ ينامُ ثم يجتمعُ أناسٌ حولهُ ويخوضونَ في بعضِ الأحاديثِ، فلكي يستطيعُ النائمُ الاستمرارَ بالنومِ، فإنهُ يُدخلُ حديثهم في حلمٍ يتماهى معهُ، وأخيرًا يكون الحلمُ استعادةً - بطريقةٍ أو بأخرى - لما يسيطرُ على المرءِ مِنْ هواجسٍ أو أفكارٍ، أو ما يشغلُ بالهُ مِنْ همومٍ، فإذا كَانَ المرءُ يخافُ مِنْ عدو أو سبعٍ فإنهُ يراهُ في منامهِ، كما تؤكد ذلك التجارب، وقد أشارتْ بعضُ الرواياتِ إلى هذا الصنف مِنْ الأحلامِ، ففي الحديث عن موسى بن جعفر عن أبيهِ عن آبائه عن رسول الله ﷺ: ”الرؤيا ثلاثة: بشرى مِنْ الله، وتحزين من الشيطان، والذي يحدّث به الإنسان نفسه، فيراه في منامه“.
ونأتي هنا إلى ماهية الرؤيا أو الأحلام الصادقةِ هي التي تتعطل فيها قوانين المكان والزمان، حيثُ يجتازُ فيها النائمُ حاجزَ الغيبِ الزماني ليرى أشياءً قبل حدوثها، أو يجتازُ حاجزَ الغيبِ المكاني، فيرى أشياءً قد وقعتْ في مكانٍ بعيدٍ عنهُ، ثم يتبينُ أنّ ما رآهُ قد وقعَ فعلاً، وهذا ما ربما يشيرُ إليهِ الحديثُ النبوي الشريفُ: ”إنّ الرؤيا مِنْ اللهِ والحلمُ مِنْ الشيطانِ“، وفي حديثِ آخرٍ عنهُ ﷺ: ”جزءٌ من سبعين جزءاً من النبوة“، وعن رسول الله ﷺ أيضاً: ”لم يبق من النبوة إلاً المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة“.
ليسَ للمنامِ أي دورٍ في بناءِ المعرفةِ الإسلاميةِ في شتى حقولها ومجالاتها، تماماً كما لا دورَ لهُ في أي حقلٍ معرفي آخر، علماء الطب أو الفلك لا يعتمدون الحلمَ أو المناماتَ في اكتشافِ النظرياتِ العلميةِ أو تشخيصِ الأمراضِ أو تحديدِ الموضوعاتِ ذات الصلة؟! بالتأكيد لا يفعلون ذلك، كذلكَ هو الحالُ في المعارفِ الدينيةِ فإنّ المناماتَ لا تصلحُ لإثبات شيءٍ أو نفيهِ؛ كعلمِ العقيدةِ، وعلمِ الفقهِ، واستخدامِ المنامِ للتثقيفِ العامِ، ووسائل الإثبات القضائي، وإثبات النسب، وبناء المقامات الدينية، وإثبات الحقائق التاريخية، والمنام والتنبؤ بالمغيبات، وترتيب الآثار العمليّة.
وبناءً على ما تقدم من كلام عن نفي أي دور للرؤيا في بناء الثقافة الإسلامية إنّما هو بالنسبة لرؤيا الأشخاص العاديين، لكن هذا لا ينطبق على رؤيا الأنبياء الذي تكون وحيًا. كما كان عند نبي الله يوسف ”“ الذي امتلكَ علمَ تعبيرِ الرؤيا وتأويلها، ولكنَ مِنْ خلالِ تعليمِ اللهِ لهُ ذلكَ، والذي كانَ معجزةً لهُ سلامُ اللهُ عليهِ.
للمنامِ جملةٌ مِنْ الفوائدِ الدينيةِ، في كونهِ آيةً على عظيمِ قدرةِ الخالقِ ومؤشراً قوياً على تأكيدِ مبدأ الغيبِ، وبشارةٍ للإنسانِ المؤمنِ، وهذا ما أشارتْ إليهِ الأحاديثُ، ففي الخبر الصحيح عن أبي عبد الله قالَ: ”الرؤيا على ثلاثةِ وجوهٍ: بشارةُ مِنْ اللهِ للمؤمنِ، وتحذيرٌ مِنْ الشيطانِ، وأضغاثُ أحلامٍ“.
ووردَ عن النبي الأكرم ﷺ قالَ: ”إنّ الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان ليحزن بن آدم، ومنها ما يهمّ به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من سنة وأربعين جزءاً من النبوة“.
وأمّا الكتبُ المتداولةُ في تفسيرِ الأحلامِ كتفسيرِ ابنِ سيرين أو غيرهِ مِنْ الكتبِ الرائجةِ، فهي كتبٌ لا تمثلُ حجةً شرعيةً، ولا يمكننا الركونُ إليها بشكلٍ مطلقٍ في ذلكَ.