صعود اللغة الإنجليزية عالميًّا: دور الاقتصاد وقوة اللغة*
تستكشف الدكتورة روزماري سالومون[1] في كتابها ”صعود اللغة الإنجليزية: صعود السياسة العالمية وقوة اللغة“ الحروب اللغوية التي تدور رحاها في جميع أنحاء العالم، وتكشف عن المخاطر السياسية والاقتصادية والثقافية الكامنة وراء هذه الحروب، وتظهر أن اللغة الإنجليزية هي المنتصرة حتى الآن في حرب اللغات.
اللغة الإنجليزية هي اللغة الأكثر انتشارًا في العالم، حيث يبلغ عدد المتحدثين بها 1,5 مليار شخص على الرغم من أن أقل من 400 مليون شخص هي لغتهم الأم. تمثل اللغة الإنجليزية 60% من محتوى الإنترنت العالمي، وهي اللغة المشتركة «lingua franca» للثقافة الشعبية «pop culture» والاقتصاد العالمي. تنشر جميع المجلات العلمية الأكثر تأثيرًا في العالم باللغة الإنجليزية. ”في جميع أنحاء أوروبا، يدرسها ما يقرب من 100 في المئة من الطلاب في مرحلة ما من تعليمهم.“
حتى في فرنسا، حيث تعتبر مواجهة هيمنة اللغة الإنجليزية هاجسًا رسميًّا، فإن اللغة الإنجليزية هي المنتصرة. تقول الدكتورة سالومون أن البيروقراطيين الفرنسيين يحاولون باستمرار حظر ”العبارات الإنجليزية أو“ المتأنجلزة ”«Anglicisms» مثل“ اللاعب «gamer» والشبكة المظلمة «dark web» والأخبار المزيفة «fake news» ”، لكن“ يتم تجاهل هذه المراسيم بهدوء ”. على الرغم من أن القانون الفرنسي المسمى“ قانون توبان ”«Toubon Law» [2] يطلب من المحطات الإذاعية تشغيل 35% من الأغاني الفرنسية“، فإن ال 65% المتبقية تغمرها الموسيقى الأمريكية؛ يغني العديد من الفنانين الفرنسيين الشباب باللغة الإنجليزية. وبموجب هذا القانون أيضًا، يجب على تلاميذ المدارس الفرنسية دراسة لغة أجنبية، وبينما تتوفر ثماني لغات، يختار 90 في المئة من الشعب الفرنسي اللغة الإنجليزية.
تسعى الدكتورة سالومون إلى إلقاء نظرة على سبب نجاح اللغة الإنجليزية عالميًّا، حيث تقول ببساطة أن اللغة الإنجليزية هي لغة ”النيوليبرالية“ «الليبرالية الجديدة neoliberalism» و”العولمة“ «globalization». ورغم أن هذا القول قد يكون محل تساؤل، إلا أنها دقيقة في تأريخ المعارك التي تدور حول سياسة اللغة «language policy» في بلدان تتراوح من إيطاليا إلى الكونغو، وفي تحليل الفائزين والخاسرين غير المتوقعين.
مَنْ تفيد اللغة الإنجليزية بالتحديد هو أمر معقد. من الواضح أنها تفيد ناطقيها الأصليين «native Anglophones». وغالبًا لا يدرك الأمريكيون، لما تسميه سالومون ”الأحادية اللغوية المتعجرفة «smug monolingualsim“، الميزة التي يتمتعون بها بسبب الهيمنة العالمية للغتهم الأم. تستفيد اللغة الإنجليزية أيضًا من الأقليات المهيمنة على السوق المرتبطة عالميًّا في البلدان غير الغربية، مثل البيض الناطقين بالإنجليزية في جنوب إفريقيا أو النخبة الناطقة بالإنجليزية «Tutsi» في رواندا. في المستعمرات الفرنسية السابقة، مثل الجزائر والمغرب، يُنظر إلى التحول من الفرنسية إلى الإنجليزية ليس فقط على أنه مفتاح التحديث «التطور»، ولكن كشكل من أشكال المقاومة ضد ماضي فرنسا الاستعماري.
في الهند، دور اللغة الإنجليزية معقد بشكل مذهل. يفضل حزب الشعب الهندي القومي الهندوسي الحاكم تصوير اللغة الإنجليزية كلغة المستعمرين، مما يعيق رؤية الهند الموحدة بين الثقافة الهندية واللغة الهندية. على النقيض من ذلك، بالنسبة للمتحدثين باللغات غير الهندية وأعضاء الطبقات الدنيا، غالبًا ما يُنظر إلى اللغة الإنجليزية على أنها درع ضد هيمنة الأغلبية. يرى بعض الإصلاحيين اللغة الإنجليزية على أنها ”لغة مساواة“ «egalitarian language» على عكس اللغات الهندية، التي تحمل ”إرث الطائفة“ «legacy of caste». اللغة الإنجليزية هي أيضًا رمز للمكانة الاجتماعية «social status»، ووفق شخصية في إحدى أفلام بوليوود Bollywood الناجحة: ”اللغة الإنجليزية ليست مجرد لغة في هذا البلد. إنها طبقة «class»“. لذا، بغض النظر عن الحالة المادية، تصر العوائل المهوسة بنجاح أطفالها في الحياة على تعليمهم اللغة الإنجليزية، معتبرين ذلك بمثابة تذكرة للانتقال إلى الرقيّ [اجتماعيًّا].
يعتبر فصل ”جنوب أفريقيا“ في الكتاب من بين أكثر الفصول إثارة للاهتمام. إلى جانب اللغة الأفريكانية «Africaans»، تعد اللغة الإنجليزية واحدة من 11 لغة رسميَّة في جنوب إفريقيا، وعلى الرغم من أن 9,6% فقط من السكان يتحدثون الإنجليزية كلغة أولى «first language»، إلا أنها ”تهيمن على كل المجالات“، بما في ذلك الحكومة والإنترنت والأعمال والبث التلفزيوني والصحافة، ولافتات الشوارع والموسيقى الشعبية. لكن اللغة الإنجليزية ليست لغة النخبة التجارية والسياسية في جنوب إفريقيا فقط، بل كانت أيضًا لغة مقاومة السود لنظام الفصل العنصري «apartheid regime» رغم أغلبية الأفريكان «السود»، مما منحها أهمية رمزية هائلة. وهكذا، شهدت السنوات الأخيرة نشطاء سود فقراء وطبقة عاملة يضغطون من أجل تعليم اللغة الإنجليزية فقط في الجامعات، على الرغم من أن العديد منهم لا يجيد اللغة. ومع ذلك، يجادل معارضو اللغة الإنجليزية بأن الابتعاد عن تعليم اللغة الأفريكانية يضر بشكل غير متناسب بالفقراء من جميع الأعراق، بما في ذلك ذوي الدخل المنخفض من السود والبيض ومختلطي العرق «الملونين». في غضون ذلك، يتحدى النشطاء الملونون الشباب ”الثنائيو اللغة“ «bilingual: أي الثنائية الإنجليزية - الأفريكانية» ويطورون أشكالًا بديلة للتعبير، مثل ”AfriKaaps“، وهو شكل من أشكال اللغة الأفريكانية يروج له فنانوا ”الهيب هوب“ «hip-hop». ولكن على الرغم من ذلك، في الوقت الراهن ”الالتزام الدستوري بالمساواة اللغوية في جنوب إفريقيا هو، في أحسن الأحوال طموح“، و”اللغة الإنجليزية هي السائدة بسبب قوتها الاقتصادية «economic power»“. إنَّ تعلم اللغة الإنجليزية ”مثمر“، خاصة ب ”عوائد سوق العمل الإيجابية في جميع أنحاء العالم.“ وكذلك في جميع أنحاء الأوساط الأكاديمية اليوم، حتى في أوروبا وآسيا، «لم تعد القاعدة هي ”انشر أو انقرض“ publish or perish» بل بالأحرى «انشر بالإنجليزية... أو انقرض publish in English or perish». في الشرق الأوسط، حصل الموظفون الذين كانوا أكثر كفاءة في اللغة الإنجليزية على رواتب من 5% «في تونس» إلى نسبة مذهلة تبلغ 200% «في العراق» أكثر من نظرائهم غير الناطقين بالإنجليزية. في الأرجنتين، يعتقد 90% من أصحاب العمل أن اللغة الإنجليزية هي ”مهارة“ لا غنى عنها للمديرين والرؤساء. باختصار، يرتبط الدخل المرتفع بإتقان اللغة الإنجليزية في كل بلد استطلعته دارسة الدكتورة سالومون.
في حين تدعو إلى المزيد من التعددية اللغوية في البلدان الناطقة بالإنجليزية، تختتم الباحثة سالومون بمناقشة موجزة لأحادية اللغة الأمريكية «American monolingualism»، واصفة موجات القلق السياسي من التهديدات التي تتعرض لها اللغة الإنجليزية كلغة وطنية «national language». بالإضافة إلى الفوائد الاقتصادية للتحدث بلغات متعددة في عالم معولم «globalized world»، تستشهد سالومون بالدراسات التي تظهر أن تعلم لغات أخرى يحسن الوظيفة الإدراكية الشاملة للفرد، مؤكدةً أن ”مراقبة الحياة من خلال عدسة ثقافية ولغوية واسعة تؤدي إلى قدر أكبر من الإبداع والابتكار «creativity and innovation».“
الواضح جدًا، أن المؤلفة تركز بشكل أساس على العوامل الاقتصادية المباشرة «التي غالبًا ما تتلخص في نفس الشيء: الوصول إلى الأسواق العالمية access to global markets»، حيث تستند مبررات اللغة الإنجليزية - أو أي لغة أخرى - كلغة مشتركة عالمية في المقام الأول إلى ”الكفاءة الاقتصادية“ «economic efficiency». في المقابل، إن حماية اللغات المحلية تبدو في الغالب مرتبطة بقضايا مختلفة، أهمها التراث الثقافي «cultural heritage»، مقاومة الهيمنة «resistance to great powers»، وحتى بتميز اللغة بكلمات تصف الأنواع المختلفة لشيء ما، كالثلج، أو الأطياف المختلفة لعاطفة ما.
وفي الختام، هناك أسئلة ملحة في حرب اللغات وصعودها، من قبيل: هل ستحل لغة الماندرين «الصينية»، بمتحدثيها البالغ عددهم 1,11 مليار نسمة، محل اللغة الإنجليزية كاللغة المشتركة «lingua franca» في العالم؟ وهل خدمة الترجمة الآلية من Google أو Microsoft، على سبيل المثال، الآخذة في التطور السريع ستهمش هذا السؤال وأمثاله عن لغات أخرى؟ يتناول الكتاب الشامل بعناية فائقة «وجهد دؤوب» هذه الأسئلة، بما يحوي أن الإجابة: ”ربما لا“».