آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 2:16 م

بين الشفوية والتدوين

أمير بوخمسين

نجد الكثير في ”الدول المتقدمة“ ممن يدّون مذكراته، ويسعى لحفظها، أو طباعتها عبر إحدى دور النشر لكي ينشرها وتصبح في متناول القارئ. خصوصاً أهل الفكر والثقافة والعلم ومن لديه مسيرة علمية أو خبرة في مجاله يقوم بالتدوين ومن ثم طباعتها ونشرها.

هذا ما نراه من خلال الاطلاع على قوائم الكتب الصادرة عن دور النشر لديهم المتنوّعة من روايات ومذكرات وسير ذاتية وكتب علمية وسياسية الخ.. فالإنتاج الضخم لهؤلاء كماّ وكيفا يفسح المجال للكثير منهم بأن يحفظ تاريخه وسيرته مع الاحتفاظ بالاحترام لحقوق الآخرين. أما في مجتمعاتنا النامية نرى المدونّات تقبع في خزائن الوجهاء والموسرين، حتى أصبحت الذاكرة الشعبية ديوان الناس.

وحينما تتحدث لصاحب خبرة ورجل أعمال أو صاحب علم وفكر عن ضرورة كتابة وتسجيل مذكراته أو ما يمتلكه من علم وفكر وثقافة، نراه يتردّد ويحاول أن يبرّر ذلك بعدم أهمية الموضوع الذي لديه، وأن الأمر لا يستحق ذلك، وهذا شائعا ومنتشراً بين الناس.

وقد لمست تراخياً ولا مبالاة تجاه هذا الموضوع وأنه - باعتقادهم - ترف ثقافي لا حاجة له. فكم من السّير المرويّة والمذكرات والوقائع التاريخية والأحداث وغيرها والقائمة تطول ذهبت وأصبحت في مهبّ الريح، ومع مرور الوقت تم نسيانها.

حتى عمد البعض من المؤرخين التغاضي عن الروايات وإهمالها تخلّصاً من ثغرة يمكن من خلالها أن تكون ضعيفة وغير موثوقة فكانت الغلبة في النهاية للنّص المكتوب. وغالباً ما يرجع المؤرخ إلى الرواية الشفوية في حالة فقدان النص المكتوب، حيث يتجه إلى المصدر الشفوي كمجرد رواية ينظر إليها بشك وعدم ارتياح ويحاول أن يثبتها بالنصوص الوثائقية أو المراجع المكتوبة.

وبدلا من أن تكون الرواية الشفوية كشفاً لحقيقة جديدة لم يتوصل إليها الآخرون، فإنها تكون عبئاً عليه محاولاً بوسائل متعددة أن يشير إلى أهمية صاحب الرواية وعلاقته بالحدث. لذلك النّص المكتوب يحتل أهميّة في نتاجنا المعرفي الثقافي انطلاقا من اتجاهين متناقضين، إلا أن كلا منهما يحمل سماته وخصائصه.

الأول يشير إليه د مسعود ضاهر عالم التاريخ ”في دراسته «التاريخ الأهلي والتاريخ الرسمي» بمنهجية المدرسة التاريخية الأوروبية المنتصرة والناشطة منذ الاكتشافات البحرية للسيطرة على العالم، وفرض النظام الرأسمالي على جميع مناطقه. وهذه المدرسة تشدّد على الوثيقة أو النص المكتوب وتهمل عمداً كل نص شفوي، أو ترفض الاستناد إليه إلا في الحالات النادرة“.

أما الاتجاه الثاني فيتجذّر في أصول التاريخ العربي والإسلامي الذي تنامت فيه عملية التدوين التاريخي وبالخصوص في العصر العباسي الذي مثّل عماد الحركة العلمية وبلغ المسلمون فيه من الرقي والتطور والعمران وبرز في تلك الحقبة الكثير من العلماء في مجالات مختلفة. وفي هذا الخضم المتداخل المتشابك تمكّن التدوين أن يحظى بالمنزلة الرفيعة ويحقق تفوقاً على الرواية الشفوية واستطاع أن يحافظ على مكانته على الرغم من حالة الانقطاع الذي تعرضت له الأمة والاستلاب الذي وقعت تحت ظلاله.