تفاصيل تصنع كرة الثلج
حمل له انتقالهم لبيتهم الجديد مفاجأة لم تكن في الحسبان؛ فقد ظهرت صورة «كوثر» التي أخفاها عن الأعين، لكنها أبتْ إلا مشاركته حنينه لبيتهم القديم، وحبه الأول.
كانت أمه وأخته تجمعان حاجاته؛ ليتم نقلها مع ما سينقل للبيت الجديد. ووسط انشغالهما في فوضى الأشياء من حولهم، جاءت العاملة المنزلية بظرف أبيض محكم جيدًا وسألته: ”بابا ماجد هذا يبغي؟“
فسحب الظرف من يدها، وأخفاه سريعاً في حقيبة ملابسه.
**
كوثر هي الفتاة التي عرفها في إحدى سفراته إلى سوريا. كان برفقة أمه، وكانت كوثر وأمها وأخواها يجلسون في المقعد خلفهم.
وقد صنع «الگدو» علاقة قوية بين أميهما، فما إن تقف الحافلة في محطة للتزود بالوقود، حتى يهرع ماجد لإحضار الجمر؛ لتعد أمه «الگدو» لها ولصديقتها.
وتلاقت العيون، وتعارفت، ومال كل طرف للآخر، بلا مقدمات.
وزاد التقارب أن جمعتهم عمارة واحدة، فصارت اللقاءات متكررة، والحديث للعيون فقط.
وتطورت العلاقة بينهما عبر التواصل بالهاتف.. فما تنتهي مكالمة حتى تعود أخرى، وأحلاها عندما تنام العيون، ويبقيان وحدهما يتحدثان لساعات.
إلى أن حلّ الصمت في أروقتهم، وخفتَ النور في سماء حبهما، وضاعت الأصوات في فضاء التيه؛ فكوثر ستتزوج برجل آخر؛ فقط لأن أباها يرفض أن تتزوج بشاب بعدُ يجلس على كرسي الدراسة.
انطفأ مصباح الحب، وغابت شمس الأشواق، ورحلت عصافير المسامرة، وحلّ ظلام الفراق، واختفت في تفاصيل الأيام زهرة الحب وذبلت أوراقها.
**
في غرفته الجديدة، عانقت يداه الصورة مجددًا، أطال النظر إليها، متأملًا ملامحها الراسخة في أعماقه.
ثم سأل نفسه: كم مضى على هذه الصورة؟!
وكم مضى على افتراقنا وزواجها؟!
ووجه حديثه للصورة:
كوثر! في تلك الأيام التي تتنفس عطرك، فيبتسم النهار بكل أناقة،
كنتُ أسأل نفسي وأنا أحدثك في الهاتف
ما دخلي فيما تقولين؟
- صباح الخير.. البارحة ما نمت عدل.
- للتو جلست من النوم، اليوم نمت كثيراً.
- البارحة تناولت قطعة كيكة لذيذة لكنها ستزيد وزني.
- لا أسمعك؛ فأنا ”استشور شعري“.
- أمي تحب أن تأكل السمك بيديها وتتعمد لمس يدي.
- سأعد فنجان قهوة.. هل ستشرب الشاي؟
- مدعوة لزواج أخت صديقتي... أي فستان أرتدي الليلة؟
- في المطبخ أغسل الصحون.
- لا أحب تقطيع البصل.
- صديقتي تعاني من مشاكل مع أهل زوجها.
- شعري «عكرش» كأنه نخلة هههههه.
- أنا حزينة؛ لأن عصفوري مريض.
- درويش يقول: إنه يحب خبز أمه.
- ملل.
- ماذا أصنع بهذا الإناء وقد جفت الزهور؟!
كنت أقول في داخلي: مالي ولهذه السخافات؟
اعترف ماجد أنه كان يريد أن يسمع كلمات رومانسية؛
كان يحب أن يسمع اسمه حينما تردده بلهجتها الحلوة، وتزخرفه بالغنج والدلال «مايد/ ميّودي».. أن يسمعها تقول: «أحبك/ وحشتني».. أن تغني لميادة «أنا بعشأك».
ثم عاد للصورة يحدثها: حبيبتي كوثر! اليوم بعد مرور سنوات على زواجك، صرت أتذكر هذه التفاصيل وأشتاق إليها.
أما زلتِ تعانين من الملل؟!
أما زلتِ تحبين القهوة مرة؟
هل تتركين شعرك أم تسرحينه؟
أما زالتْ صديقتكِ تعاني المشاكل مع أهل زوجها؟
هل أحببت تقطيع البصل؟
أتنامين كما تحبين أم هناك ما يزعجك؟
أصبح ماجد يعشق التفاصيل ويبحث عنها في أدراج الذاكرة.. أخذ يبكي وهو يقول: ”يا لها من يوميات جميلة يبكيني فقدها!!“.
بينما كان غارقًا في ذكرياته بكل تفاصيلها الصغيرة، أعاده أخوه الذي يصغره بسنتين إلى واقعه، سائلاً: ”وش فيك؟“
فأجابه: ”ما فيي شي“.
قال: هل كنت تبكي؟
أجاب بحزن: نعم.. تذكرت بيتنا القديم.
وعندما خرج أخوه.. نظر للصورة مجددًا، وهمس:
رُبَّ يَوْمٍ بَكَيْتُ مِنهُ فَلَمَّا
صِرتُ في غَيْرِهِ بَكَيْتُ عَليْهِ!!