آخر تحديث: 26 / 4 / 2024م - 2:07 م

كاد يطردني من المسجد!

ليلى الزاهر *

الأسلوب هو فن التّخاطب مع الآخرين وهو الطريق الأمثل للوصول إلى قلوب الآخرين أو العكس.

وقد جُبلت النفوس على حب المحسنين بالكلمة قبل المال. ولما كان الإنسان في مجموعه صورة متكاملة من الإحساس والمشاعر والإدراك راح يخلق لنفسه أجواءً نفسية خاصة به، تزعجه النبرة المرتفعة، وتضايقه الكلمة الجارحة، فأصبح يقترب ممن يظهر له في حديثه جمال المنطق ويستأنس معه بالكلمة الطيبة.

إننا عندما ننظر بعمق إلى مواقف الحياة المتعددة نرى أننا نلتقي مع ضروب شتّى من الأمزجة الغريبة لذلك لابد أن نقوم بعملية ترتيب مُتقنة لردّات أفعالنا المُختلفة.

عُرِف أحمد بين زملائه بدماثة الخلق، وغلب عليه اهتمامه بمظهره الخارجي فهندامه مرتب، تظهر عليه سمات الأناقة، وهو في العقد الثاني من عمره، يتمتع بحيوية الشباب بدون تهور، ويجني حب الآخرين دون تكلف وعناء، نشأ أحمد في أسرة مُحترمة تحرص على أداء الصلاة في أوقاتها المحددة، ابنها البكر أحمد هذا الذي يتحدث معك بأدب ولطف تراه يصمت فجأة عندما يحين وقت الصلاة لأنه يعشق ساعة الوصال بربه.

بينما كان أحمد يشقّ طريقه نحو منزله دخل وقت الصلاة فترجل من مركبته متجها لأحد المساجد في منطقة من مناطق القطيف، وعندما أنهى صلاته لاحظ أن هناك من يطيل النظر إليه ويقترب منه شيئًا فشيئا قد بدت على محياه علامات الغضب وتطاير الشر من عينيه وقف بجانب أحمد وقال له:

ألا تخجل من نفسك وأنت ترتدي هذه الملابس في بيت الله؟

تعجّب أحمد وظهرت عليه بوادر الدهشة وهو ينظر لهندامه وبنطاله الجينز فهو لا يرى نفسه شاذا أو قد ارتكب منكرا حتى يواجهه هذا الرجل بتلك التّهم.

فأجابه:

هل تقصدني بهذا الكلام أيها العم؟

فقال له: بلا شك أقصدك أنت، وما هذه الساعة النسائية التي تضعها في معصمك؟

أجابه أحمد: هذه ساعة ذكية تحسب الخطوات، وتراقب معدل ضربات القلب الديناميكي، إنها تُسهّل عمل اللياقة البدنية وتحسب معدل حرق الدهون.

لكنه أجابه ساخرا:

وذاك البنطال الممزق، أما وجدت شيئًا يسد تلك الفتحات

رد عليه أحمد بأدب لكن ياعم تلك الفتحات مبطنة ولا تكشف شيئًا من جسدي.

لكن الرجل الخمسيني - كما وصفه لي أحمد - تمادى قائلًا:

أنت فتى تفتقر التهذيب، ولم يحسن مربوك تربيتك.

لكن أحمد استجمع رباطة جأشه وقال له:

أنا في بيت الله، ولست في بيتك، وقد اعتدت على الصلاة مع والدي في المسجد منذ كنت طفلًا صغيرًا.

انتهى الحوار بينهما لأن أحمد غادر المسجد بعد أن أنهى مشادة كلامية كادت أن تتطور، وكاد الرجل أن يطرد أحمد من المسجد.

ثم لولا أن أحمد يمتلك قيمة جمالية في الحديث لتطاول عليه فقد كان أحمد شابًا متزنًا يخلو من رعونة الشباب وتهوره، ومما يزيد في جمال أناقة تصرفه أنه طلب مني أن أكتب بعض تفاصيل ما حدث بينه وبين ذلك الرجل دون ذكر اسم المنطقة ولا اسم المسجد أيضًا ولما سألته عن سبب ذلك قال:

لم يكن نبي الله آدم طينًا محضا عندما خلقه الله تعالى بل كان نفخة علوية روحانية جعلت للطين قيمة جديدة ومعنًى مختلفا فأصبح جسده في الأرض وهمته في السماء.

إن هذا الطين الذي خُلقنا منه يعادل الذهب الخالص عند أولئك الناس الذين يُحسنون تقييم الإنسان تقييمًا يخلو من الحيادية في كل شيء لأنهم يدركون إن الإنسان الحقيقي يسعى للكمال من خلال وضعه في منظومة بشريّة مع بني جنسه لينظر أنجح في اختبار إنسانيته أم مازال بحاجة للتدريب المُكثّف.

ثم أضاف قائلًا:

إننا نحن البشر خُلقنا لنحترم آراء بعضنا، ونُقدّر فكر الآخر بعيدا عن شكله أو عن ملابسه، بين أيدينا كتاب ناطق يشتمل على قوانين إنسانية مقدّسة أهمها الاحترام والمحبة، ويترجمها لسان مبين وهو خير شاهد على العقل الواعي والتفكير الناقد.

كما أنّ القلب التّوّاق لتحريك مشاعر الآخرين بالحب له القدرة على احتوائهم وتأملهم بعطف وحنان ويسر لا بعنف وازدراء.

والرسول الكريم دعانا لليسر إذ يقول ﷺ: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا».

لقد كاد يطردني من بيت من بيوت الله وقد غاب عن ذهنه قول رسول الله ﷺ: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجات الصائم القائم».

وقال عليه أفضل الصلاة وأتمّ التّسليم: «ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار تحرم على كل قريب هين لين سهل».

إنّ التّكلّف والتعصب في الدين ممارسات يجب إدانتها لأنها تُنفّر من الدين وتبعّد عنه أشواطًا كثيرة.