الحمائية اللغوية.. درس من التجربة اليابانية
الحمائية «Protectionism» مصطلح في حقلي الاقتصاد والتجارة ويعني قيام الدولة بحماية منتجاتها الوطنية بمجموعة من الأدوات التي تحد من الاستيراد وتُعيق ولوج السلع الأجنبية إلى الأسواق الداخلية. ويجمع الاقتصاديون على أن الحمائية لها تأثير سلبي على النمو الاقتصادي والرفاهية الاقتصادية خلافًا للتجارة الحرة وساسية إلغاء القيود والحد من الحواجز التجارية التي لها تأثير إيجابي كبير على النمو الاقتصادي.
هذه المعادلة تنطبق على اللغة ونموها أيضًا. والدول تختلف في نوعية وكيفية حمايتها للغتها الوطنية «القومية»، وتتفاوت بين الشدة، كما في حال فرنسا مع اللغة الفرنسية[1] ، والتراخي التام، كحال بريطانيا وأمريكا مع اللغة الانجليزية[2] . ونتيجة لعدم فهم العلاقة التبادلية بين اللغة والاقتصاد[3] ، بما فيه من موارد بشرية وقوى عاملة، تخطيء كثير من الدول في نوعية ومستوى الحماية للغتها الوطنية. على سبيل المثال، تُفوِّت العديد من الشركات اليابانية فرصًا لتوظيف مواطنين أجانب مؤهلين تأهيلاً عاليًّا ويتمتعون بمهارات متميزة بسبب إصرارها على أن يتمتع المتقدمون للوظائف بمهارات لغوية عالية في اللغة اليابانية[4] .
وفقًا لتحليل بيانات من مؤسستين للتوظيف في اليابان، فإن أكثر من 70% من الوظائف المتخصصة المتاحة للأجانب تتطلب طلاقة كاملة في اللغة اليابانية، في حين أن أقل من 40% من الباحثين عن عمل لديهم هذه الميزة. إصرار الشركات على مطالبة الموظفين الأجانب أن يجيدوا اللغة اليابانية يقوض محاولة الحكومة اليابانية جذب المزيد من الباحثين والمهندسين وغيرهم من العمال الأجانب المؤهلين تأهيلا عاليًّا إلى اليابان[5] .
ولكن يؤدي النقص العالمي في الخبراء في مجالات مثل تكنولوجيا المعلومات إلى الضغط على الشركات اليابانية لإعادة التفكير في سياسات التوظيف الخاصة بها لجذب المزيد من المواهب الأجنبية. قامت Nikkei «جريدة نيكيّ» [6] بتحليل البيانات المتعلقة بعروض العمل والباحثين عنها المقدمة من Human Global Talent وGlobalpower، وهما شركتان مقرهما طوكيو تديران مواقع توظيف تستهدف الأجانب.
من بين ما يقرب من 18000 عرض عمل للمتخصصين الأجانب المدرجين على مواقعها الإلكترونية في أواخر نوفمبر 2021م، طالب 75% من الشركات بمهارات في اللغة اليابانية تقابل أعلى مستوى «N1» في اختبار إتقان اللغة اليابانية، والذي أجرته مؤسسة اليابان والتبادلات التعليمية اليابانية وخدمات نيابة عن وزارة التربية والتعليم اليابانية[7] .
يحتوي الاختبار على خمسة مستويات من الكفاءة، من N1 إلى N5. يتم تعريف أولئك الذين يجتازون اختبار N1 على أنهم ”لديهم القدرة على فهم اللغة اليابانية في مجموعة متنوعة من الظروف“. لكن 37% فقط من الباحثين عن عمل البالغ عددهم 9000 أو نحو ذلك من المسجلين في المواقع حاصلون على مؤهل N1.
يقول رئيس شركة Globalpower، كويتشي تاكيوتشي، إن العديد من الشركات اليابانية تفشل في توظيف متخصصين أجانب ممتازين لأنهم يولون أهمية كبيرة لكفاءة المرشحين في اللغة اليابانية.
وخير مثال على ذلك المبرمج التايواني الذي درس في اليابان. كان الشاب البالغ من العمر 25 عامًا يتقن لغات البرمجة والمهارات ذات الصلة، لكن لم تقدم له أي من الشركات اليابانية العشر التي تقدم لها منصبًا لأن إجادته للغة اليابانية لم يرق إلى المستوى N1. حصل في النهاية على وظيفة في الخريف في شركة تايوانية.
تتوقع وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة أن اليابان ستواجه نقصًا يصل إلى 790 ألف متخصص في تكنولوجيا المعلومات بحلول عام 2030م. يقول يوجي كوباياشي، الباحث الأول في معهد بيرسول للأبحاث «Persol Research Institute»: إنه من الأهمية بمكان بالنسبة للشركات اليابانية التي تحتاج إلى خبراء في تكنولوجيا المعلومات توظيف مواطنين أجانب مؤهلين. لكن، وفقًا لمسح أجرته منظمة خدمات الطلاب اليابانية عام 2019,36.9% فقط من الطلاب الأجانب في اليابان حصلوا على وظائف في البلاد، وهو أقل بكثير من هدف الحكومة المحدد ب 50%.
وقد أجرت شبكة ميكو يابان «Meiko Network Japan»، التي تدير المدارس وتوفر الموظفين وخدمات المهن والتوظيف، استبيانًا لعدد من الشركات اليابانية لتحديد سبب إحجامها عن توظيف المواهب الأجنبية. أشارت النسبة الأكبر «48%» من مديري شؤون الموظفين الذين شملهم الاستطلاع إلى ”مخاوف بشأن مشاكل اللغة والتواصل“ «language and communication problems». وتتبع معظم الشركات اليابانية سياسة توظيف على غرار ”أسلوب العضوية“ «membership-style»: أي لا يُتوقع من الموظفين شغل أدوار وظيفية محددة. بدلاً من ذلك، يتم معاملتهم كأعضاء في مجموعة قد يتم تعيينهم في مجموعة متنوعة من المناصب طوال حياتهم المهنية. لا يشجع هذا النهج الشركات على التركيز على مهارات أو قدرات معينة. يقول الخبراء: إن هذا قد يفسر إصرار الشركات اليابانية على أن يتقن الموظفون اللغة اليابانية بطلاقة.
ولكن بعض الشركات اليابانية بدأت تعمل بنصيحة الخبراء أمثال تاكاشي كومون، الأستاذ في جامعة آسيا والمتخصص في تنمية الموارد البشرية الدولية، الذي يؤكد على أهمية إيلاء الشركات مزيدًا من الاهتمام للمهارات المتخصصة والمعرفة الخاصة للأفراد من أجل معالجة نقص العمالة وخلق قوة عاملة أكثر تنوعًا.
ومن هذه الشركات، على سبيل المثال، شركة Sun، وهي شركة ناشئة في مجال تكنولوجيا المعلومات مقرها طوكيو، تستهدف توظيف الخبراء الأجانب ذوي الكفاءة بمستوى N3 في اللغة اليابانية؛ أي الذين لديهم ”القدرة على فهم اللغة اليابانية المستخدمة في مواقف الحياة اليومية إلى حد ما“. والجدير بالذكر أن شركة Sun، تركز على المهارات المتخصصة، بدلًا من القدرة اللغوية، في توظيف المواهب الأجنبية.