دِسْمَالُ جَدْتِي
دِسْمَالُ زانَ رِداءَ جدتي، عَلُقَتْ بهِ فَيضُ مَشَاعِرٍ، وأحاسيسُ مُرهَفةٌ، وحنانٌ ودفءٌ مَلُؤَ الدُّنا لا ينضبُ، عانْقَتْ رُوحًا طيبةً ونقاءً وبساطةً لا يستوعبُها ويُدرِكها إلا مَنْ عاشَ في زمنِ الهُدوءِ؛ هُدوءٌ سيطرَ وأطْبَقَّ على أحاسِيسِنا وتملّكها، غَسَقُ ليلٍ لا نسمعُ فيهِ إلا صوتَ حَمَائمِ النخيلِ، وأُهزوجةٌ تشدُنا ”يا باتا يا بتي“، لحّنتها الجدَّاتُ ووزنتْ أنغامَها بتلقائيةٍ وعَفويّةٍ مُتناهيةٍ، وتَرَنَّمَتْ على صوتِ شَجِنِ تلكَ الحَّمَائمِ، يُؤنِسونَ بهِ روعَتنا ويخففّون علينا مِما اِنْتابَنا مِنْ ظُلمةٍ مُوحشةٍ.
عصرتُ ذاكرتي لعلها تُسعفني بنِزرٍ قليلٍ، واستحضرتُ واستجمعتُ ما بقي فيها مِنْ ذكرياتٍ عن طفولةٍ اختزنتْ مشاهدَ غادرتُها منذُ ما يقربُ الخمسونَ عامًا، قد تُطْمَر ولا تجدُ مَنْ يذكرها، ولربما لا أجدُ حتى أنا نفسي قادرًا على استحضارِها، مع تقدمٍ في عمرٍ وبُعدِ زمانٍ وتغيّرٍ في مكانٍ.
وما استذكارنا لمشاهدَ مضتْ؛ إلا لتأصيلِ عاداتٍ وقيمٍ ناهضةٍ، طالما كُنا نستلهمُ مِنْها عزيمةً وقِوامَ عِمادِ إرادةٍ ندّخرهُ زادًا لنا في قادمِ الأيامِ؛ تستقوي بهِ أنفُسنا على النهوضِ والاستمرارِ والثباتِ على الجادّةِ.
نرقبُ ونتتبعُ جدتي في رواحِها وإيابِها، شُغلنا الشاغلُ، وجلُّ اهتمامنا ذلكَ، تخيَّمُ علينا الكآبةُ حينَ تغيبُ عن المنزلِ في سفرٍ أو عندما يصحبُها أحدُ أبناءِ أُختها المحبُ لها والحريصُ على وصلِ رحمهِ، لتبيتَ عندهُ جدتي، لما لها مِنْ امتداداتٍ عائليةٍ مع معظمِ العوائلِ في داخلِ البلدِ وخارجها، وكما يُقال: البنتُ تُقرّبُ الأنسابَ «الطوايف»، حتى لا نكادُ نُدركُ تفرعاتِ هذهِ الشبكةِ مِنْ الاقاربِ.
ينتابنا شعورٌ بغيابها، بأنَّ كلَ شيءٍ يأنُ ويحنُ حسرةً لها؛ مضجعها وحاجياتها، إلى أنْ ترجعَ إليهِ، نقفُ على الواجهةِ الشرقيةِ لمنزلِ جدي لأمي، نترقّبُ قدومها في أيةِ لحظةٍ، نُمنِّي أنفُسْنَا بأنَّها ستأتي الآنَ، ونُكيلُ اللومَ والعتبَ على مَنْ أخذها مِنّا!!
هكذا قادنا فكِرنا الطفولي ذو النزعةِ التملَّكيةِ الذي يُميّز الاطفالُ في هذا السنِ؛ والذي يظنُ بأَنْ كلَ مَنْ حولهِ داخلٌ ضمنَ أملاكهِ وسيطرتهِ.
وأخيرًا وصلتْ جدتي، يا لها مِنْ لحظاتٍ عندما تبرُقُ نظراتنا خيوطَ دِسْمَالها الحمراءِِ وهي قادمةٌ، نتسارعُ لنحِملَ أغرَاضَها وما حملتهُ لنا مِنْ هدايا، نُرافقها لنضعها معها في صندوقِها الخشبي الذي لا يُمكنُ أَنْ أنسَ موقعهُ حسبَ ”جوجل ماب“ لدينا!! في أنهُ يقعُ في الجهةِ الجنوبيةِ مِنْ غرفِتها..
اعتادتْ جدتي وهي تهمُ بدخولِ البيتِ في كلِ مرةٍ، أن تنادينا بحُنوٍّ عندما يُصادف تواجدنا مع وقت عودتها، فقد كنا نتطلّع لها ونتلّهفُ لمتابعِتها كما يتبعُ فصيلُ نُوقٍ أمهِ. بصوتها الحاني الرقيق تنادينا بقولها؛ تعالوا يا خلفَ عمري وروحي؛ تفتحُ أطرافَ دِسْمَالها لتعطينا بعضًا مِنْ النقودِ، وهي تحثنا بيدها روحوا يا بعد عمري يا الله اشتروا لكم، لم نعرْ النقودَ اهتمامًا كبيرًا، شدّنا مِنْها وقفتها الأنيقةُ وحسنُ منظرها ولبسِها الهاشمي وهيبتها وهندامها المرتب، على الرغمِ مما خطتهُ السنونُ والهمومُ عليها مِنْ كدرٍ وتعبٍ ارتسمَ على وجنتيها. ربتْ بخيرٍ وعانتْ بعد عزها وصبرتْ وقاستْ. تمتلكُ عزيمةً وطاقةً متدفقةً، لا تنضِبُ ولا تضِمرُ، وجدتْ ضالتَها في تربيةِ أحفاِدها وأمتدتْ رعايتها وعطاءها حتى لأولادهم، ففي ليلةُ قيضٍ همَ الجَمِيعُ أَنْ يخلدوا للنومِ فوقَ السطحِ كما جرتْ عادتهم في مثلِ هذا الوقتِ مِنْ كل سنةٍ. لَمْ تهدأ نفسي وانتابني الخوفُ مِنْ الارتفاعِ، ولَمْ يستقرْ بي الحالُ على هذا، وغضَ الجَمِيعُ الطرفَ عن توسلاتي ورغبتي بالذهابِ إلى منزلنا. إلا إنَّ الجدةَ اصطحبتني معها لمنزلنا، وما راقَ لها جفنٌ أن تنامَ وتراني على هذا الوضعِ.
اثقلها الاعياءُ والزمها الفراشُ، كنتُ متأملًا لها جيدًا، لَمْ ألحظْ لها صُراخًا ولا فزعًا، ولا صولةً ولا صخبًا، رأيتُ زوجَ أبنتها وهو جدي لأمي يجلبُ الماءَ لها بدأبٍ لمراتٍ لا تُحصى، وجدتي لأمي هي أبنتها الوحيدةُ تطببها بدونِ كللٍ ولا ملل..
ما هي إلا دقائقٌ وانتقلتْ إلى الرفيقِ الأعلى، وامتلأ المكانُ بالصياحِ والبكاءِ مِنْ كلِ جانبٍ، لا أعرفُ أينَ مصدرهُ ووجهتهُ.
كنتُ مُراقبًا لكلِ شيءٍ حتى عندَ تفاصيلِ تغسيلها وتشييعِ جنازتها، شعرتُ بالخوفِ وقمتُ أبكي على صفحةٍ جميلةٍ طوتْ، لم أعرفْ للموتِ معنى وهيبةٍ قبلها!!
خرجَ جدي لأبي مِنْ وسطِ المشيعينَ، وضمني واحتواني، وهدأ مما انتابني مِنْ روعةٍ وفزعٍ، وطوى بخروجهِ فصلاً مِنْ فصولِ حياتي سيتبعها فصولٌ أُخرى تنتظرني.
وإلى هُنا أنتهتْ حكايتي مع دِسْمَالِ لُفَ تحتَ رداءِ جدتي …