العرب بين تقدم الغرب ونهضة الشرق
لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب، سؤال بقي هاجساً للمفكرين والمثقفين العرب، منذ طرحه الشيخ عبدالله النديم، في نهاية القرن التاسع عشر. وقيل الكثير، عن أسباب هذا التخلف، وأدلى كثيرون بدلوهم في هذا السياق، وشاركناهم في هذا السجال. ولعل سبب العجز في الأجوبة المقدمة، عن أسباب التخلف، هو الخلط بين التقدم العلمي والمشروع النهضوي، وكلاهما موضوعان مختلفان.
إن قوانين الحركة، والرصد التاريخي، لمشاريع التقدم الكبرى، والتطور العلمي، تستدعي إعادة طرح السؤال باستمرار، إلى حين خروج معظم العرب، من واقعهم الراهن، والتحاقهم بركب التقدم العلمي والحضاري. وما يفتح بوابات الأمل هو أن التطور العلمي الراهن، لم يعد حكراً، على الغرب، فقد التحقت به أمم كانت حتى وقت قريب في عداد البلدان النامية، كالصين والهند والبرازيل وكوريا، ومن قبلهما اليابان والنمور الآسيوية. وذلك ما يعطي وجاهة لإعادة طرح سؤال الشيخ النديم: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن، في صيغة سؤال جديد: لماذا تقدم الغرب ونهض الشرق، ولم يلتحق العرب بهذه السيرورة؟!.
لقد مر الغرب بعصر الأنوار، الذي بشر بمرحلة تاريخية مختلفة، في التاريخ الأوروبي، شملت الاقتصاد والاجتماع والسياسة. وكان أرباب العمل، يشكلون قوة فتية تتنافس مع إقطاع، كانت كل المؤشرات تشي بأفوله. بمعنى آخر، أسعف التطور التاريخي، حركة التحول الدراماتيكية، التي عصفت بالقارة الأوروبية، في عصر الثورات بأبعادها الثلاثة: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وسرع في انتشار أفكارها ومناهجها، ونقل تلك المجتمعات، من حال هيمنة الكنيسة والعلاقات البطركية، إلى الحالة التعاقدية.
نهضة الشرق العلمية، التي أخذت مكانها في العقود الأخيرة، من القرن الماضي، وتواصلت في خط بياني صاعد، كانت معجزة بكل المقاييس، كون معظمها افتقرت للتراكم الفكري والعلمي، وبعضها جاء خارج مشروع الدولة التعاقدية، كما هو الحال مع الصين الشعبية. والأهم من كل ذلك، أن التجارب الجديدة، لم تكن تتنافس مع قوى في طريقها للأفول، بل مع قوى عتيّة، بتجارب قوية وثابتة نسبية، مدعومة بتراكم متين، تواصل أكثر من أربعة قرون. ولم تكن تتنافس مع قوى آفلة.
نستثني في هذا السياق روسيا بوتين التي استعادت حضورها بقوة منذ وقت قريب. فهذه التجربة مرت بعقود طويلة، وانتكست بسقوط الاتحاد السوفييتي، لكن بياتها كان قصيراً، وقد عادت مجدداً إلى المسرح الدولي، كقوة نووية وعسكرية وصناعية، مسنودة بتراث وتراكم تاريخي طويل، وقدرات علمية لا يستهان بها.
أما اليابان، فلها فرادتها، بين دول الشرق الصاعدة. فهذه الدولة كانت إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، قوة إمبريالية عالمية. وقد احتلت بلدانا أكبر من حجم المركز بعدة أضعاف. بل إن الصين الشعبية ذاتها، كانت في فترة ما جزءاً من بعض ممتلكاتها. وحين اندلعت الحرب العالمية الثانية، كانت واحدة من ثلاثة أقطاب شكلت دول المحور، مع ألمانيا وإيطاليا.
وانتهت الحرب العالمية الثانية بتوقيعها على وثيقة استسلام، جعلت منها تابعاً للغرب. لكنها اعتبرت الهزيمة فرصة للنهوض مجدداً، من خلال مشروع مارشال أولاً الذي تبنته الولايات المتحدة لإعادة إعمار ما خلفته الحرب، وأيضاً من حيث موقعها الاستراتيجي، في القارة الآسيوية، حيث بدأت كمحطة تصنيع للغرب، نتيجة قربها من الأسواق العالمية، لتنتقل لاحقاً إلى قوة اقتصادية عالمية، تضاهي الاقتصادات العالمية الأخرى.
لم يمر الوطن العربي، بتجارب مماثلة، وتم وأد عصر التنوير، وهو لمّا يزل يحبو، ويحاول تلمس مواضع أقدامه. والعرب لم يفتقروا إلى التراكم العلمي فقط، بل عانوا انقطاعاً ثقافياً كبيراً، ساد لفترة طويلة، استمرت أكثر من ثمانية قرون، منذ احتل المغول عاصمة العباسيين، وأحرقوا مدارسها وأغرقوا مكتباتها. وتواصل الانقطاع إبان الفترة العثمانية، ليتبع ذلك احتلال غربي، لبلاد الشام، وتقسيم الوطن العربي، بأشكال مختلفة، بين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى.
لقد أدت تلك الأسباب إلى تعطل النمو الاقتصادي، وأعاقت التحاق أمتنا بالتطور العلمي، وخلقت تشكيلات اجتماعية اتسمت بالهشاشة وضعف قدرتها على مقاومة التحديات الحضارية.
ما يهمنا من هذه المقاربة، هو الاستفادة منها في مشروع النهوض والتقدم العربيين، واعتبارها مرشداً للخروج من الأزمة الراهنة. لقد أكدت تلك التجارب مجتمعة، أن العلم والمعرفة هما الركن الأساس، في بناء أي مشروع نهضوي عربي، فهو السبيل لتنمية القدرات الذاتية المحركة، والولوج في عصر التصنيع، بقوة ووعي وعزيمة. نحن بحاجة ماسة إلى أن نجعل من الاقتصاد بوصلة للسياسة، وأن تكون السياسة في خدمة مشروع التقدم والنهوض والوحدة.