آخر تحديث: 2 / 5 / 2024م - 3:59 م

رَايَةٌ ورُؤْيَةٌ ورِوايةٌ

ناجي وهب الفرج *

تنهضُ الأممُ بما تسطرهُ مِنْ ملاحمِ علميةٍ في كافةِ المجالاتِ والتي تسهمُ في نهضةِ الانسانِ على كافةِ الصعدِ.

إنَّ ما تختزنهُ البشريةُ مِنْ أرثٍ هائلٍ مِنْ الكمِ المعلوماتي الكبيرِ الذي تراكمَ على طولِ تاريخها، أسهمَ في نضجِ معالجةِ المشاكلِ والمعضلاتِ التي واجهتها والتي سوفَ تُواجهها.

فما كانَ روايةٌ تتناقلها الكتب العلمية في مبحثٍ ما، أضحتْ رايةً وشاهدًا ومعلمًا بارزًا وحقيقةً عمليةً يُستفاد منها في إنجازِ الكثيرِ مِنْ الأعمالِ والمهامِ.

سلكَ العلماءُ على مرِ العصورِ مناهجًا وطرقًا للوصولِ إلى الحقيقةِ أو بعضها عبرَ اتباعِ طرقٍ للبحثِ مختلفةٌ حسبَ طبيعةِ ما يواجهم مِنْ مشاكلٍ، فتارةً تراهم يسلكونَ البحثَ الوصفي على كلِ ما يتعلقُ بالجوانبِ الإنسانيةِ، وما يتبعها ويتصلُ بِها، وفي المواضعِ التي تعنى بالجانبِ العملي يسلكونَ البحثَ التجريبي.

ويُعزى ما تحققَ من مبتكراتٍ وحلولٍ لكثيرٍ مِنْ المعضلاتِ إلى إتباعِ المنهجِ العلمي سواءً كانَ وصفيًا أو تجريبيًا.

عندما نُخضعُ المشاكلَ التي نواجهها إلى الحلولِ العشوائيةِ والارتجاليةِ في القراراتِ فإنَّها سوفَ تُفضي إلى ارتداداتٍ عكسيةٍ، فتحولَ الحلَ المطروحَ إلى مشكلةٍ أخرى أكبرُ وأوسعُ فتكونَ رايةً وعلامةً للاخفاقِ تُروى على مرِ الزمانِ، وتتناقلها الأجيال اللاحقة.

وعلى النقيضِ مِنْ ذلكَ في أنهُ إذا ما تمَ إتباعَ المناهجِ العلميةِ سواءً كَانَتْ الوصفيةَ منها أو التجريبيةَ، فإنَّها حققتْ أو سوفَ تحققُ نجاحاتٍ متتاليةٍ، حتى لو اعتراها وشابها بعضُ النقصِ في فترةٍ ما، إلا إنهُ يمكنُ معالجةُ ذلكَ بالمزيدِ من تكرارِ إجراءِ التجاربِ والمحاولاتِ مرات عدةٍ، حتى يمكنَ الوصولَ إلى أحسنِ الخياراتِ والحوزِ على أفضلِ النتائجِ والحلولِ الممكنةِ والتي تُغطي معظمَ ما يُحتاج لهُ مِنْ متطلباتٍ تُسهمُ في تحقيقِ رفاهيةِ الإنسانِ ومساعدتهِ على التغلبِ على مشاكلهِ.

مِنْ الضرورةِ بمكانٍ ألا يراودنا الشكُ في كونِ ما تحققَ أو ما سوفَ نصلُ إليهِ مِنْ قفزاتٍ معلوماتيةٍ؛ أثمرتْ وأدتْ لما نراهُ اليومَ في وجودِ هَذِهِ المبتكراتِ التي ننعمُ بفوائدها وتختصرُ وتسهلُ لنا الكثيرَ مما كُنا نتكبدهُ مِنْ الصعابِ والجهدِ والمالِ والوقتِ لتحقيقهِ والوصولِ إليهِ فيما مضى، كلُ ذلكَ هو نتاجُ معلوماتي وخبراتٍ سابقةٍ تم البناءَ عليها والاستفادةَ منها، لذلكَ ينبغي ألا نغفلُ أي معلوماتٍ ذكرتْ وأي تجربةٍ تمتْ، بل مِنْ المفيدِ أنْ نبدأ مِنْ حيثُ أنتهى الآخرونَ أو ما يُسمى بمهارةِ التواصلِ التي أكدَ عليها المنهجُ العلمي الذي يطلق عليهِ أحيانًا كثيرةً بالاستقصاء.

وما وردَ في مروياتِ كثيرةٍ عن أهلِ البيتِ سلامٌ اللهِ عليهم والتي تحثُ على هذا الاتجاهِ نتوقفُ على بعضٍ منها:

قالَ اميرُ المؤمنينَ «عليهِ السلام»: «العقلُ صاحبُ جيشِ الرحمنِ والهوى قائدُ جيشِ الشيطانِ والنفسُ متجاذبةٌ بينهما، فأيهما غلبَ كانَ في حيزهِ».

وعنهُ «عليهِ السلام»: «العاقلُ يتقاضى نفسهُ بما يجبُ عليهِ ولا يتقاضى لنفسهِ بما يجبُ لهُ».

وعن الامامِ الكاظمِ «عليهِ السلام»: «اكثرُ الصوابِ في خلافِ الهوى».

لا يقتصرُ دورُ المنهجِ العلمي على مقدارِ ما يتيحهُ لنا ويقدمهُ من تقنياتٍ بل لا بدَ أنْ يَكُونَ واقعًا عمليًا نُطبقهُ ونوسعُ دائرتهِ حتى في علاقاتنا وممارساتنا الحياتيةِ داخلَ منازلنا مع أفرادِ الأسرةِ والمجتمعِ، أي جعلهُ أسلوبَ حياةٍ متبعٍ وقائمٍ وضرورةٍ ملحةٍ.

تبدأ الحلولُ مِنْ ملاحظةِ وجودِ المشكلةِ وتحديدها والاعتراف بها، ثم تطرحُ الحلولَ «الفروضَ» بناءً على الخبرةِ المتراكمةِ، ثم تخضعُ هذهِ الحلولِ للتجريبِ مع الضبطِ؛ وذلكَ بتعيينِ عواملَ مستقلةً وعواملَ تابعةً وثوابتَ وضابطةً، يتبعُ ذلكَ كلهُ؛ النتائجُ التي تنبئنا بفاعليةِ بما اقترحناهُ مِنْ حلولٍ ومدى فاعليتها في الوصولِ للهدفِ المرادَ الوصولِ إليهِ، يعقبُ ذلكَ الاستنتاجُ وهو النتيجةُ النهائيةُ التي تمَ التوصلُ إليها بُناًء على تمَ مُلاحظتهُ وتدوينهُ من معلوماتٍ سابقةٍ، كما توضحُ الاستنتاجاتُ النتيجةَ البحثيةَ النهائيةَ. وتنتهي العمليةُ بالتواصلِ عبرَ الوسائلِ المتاحةِ بعد ذلكَ؛ لتحقيقِ مبدأ تبادلِ الخبراتِ وتعزيزِ الحلولِ وإكمالها بينَ الجهاتٍ البحثيةِ المختلفةِ وسد الثغراتِ.

ولكي لا يُلقى الكلامُ على عواهنهِ كما يُقال، نسوقُ مثالاً توضيحيًا لما ذُكر؛ لاحظَ أحدُ الاطباءِ وجودَ مشكلةِ حساسيةٍ مفرطةٍ في الجلدِ عندَ أحدِ مرضاهُ وتكررتْ المشكلةُ عندَ باقي أسرتهِ بظهورِ بقعٍ متفرقةٍ حمراءٍ في أجزاءِ معينةِ مِنْ أجسامهم فهو الآنَ يستخدمُ مهاراتي الملاحظةِ وقدرتهِ على تحديدِ المشكلةِ وحتى يضعَ حلاً ناجعًا لابدَ للطبيبِ أنْ يجلبَ ويجمعَ المزيدَ من المعلوماتِ حتى يمكنهُ مِنْ اقتراحِ الجوابِ أو الفرضيةِ بناءً على طلبِ المزيدِ من المعلوماتِ بإجراءِ التحاليلِ المخبريةِ والفحصِ السريري الدقيقِ والمكثفِ، وما يمتلكُ من خبرةٍ تراكميةٍ مهنيةٍ يقررُ ويتخذُ العلاجَ المناسبَ سواءً كَانَ دواءً أو خلافَ ذلكَ والذي يخضعُ هو أيضًا للتجريبِ ومعرفةِ مدى فعاليتهِ. فالدواءُ هو عاملٌ مستقلٌ ومدى تحسنِ المريضِ يعتبرُ عاملُ أو متغيرٌ تابعٍ وهنالكَ ثوابتٌ لا يتمُ تغييرها واستهدافها، كما يوجدُ ضابطةٌ من أفرادِ الاسرةِ لا يجربُ عليهِ الدواءَ للمقارنةٍ بَيْنَ مَنْ أخذَ الدواءَ ومَنْ لم يأخذهُ كما هو الحاصلُ الآنَ في لقاحِ كورونا. وبعدَ أنْ تخرجَ النتائجُ المرجوةُ، ويقومُ الطبيبُ بتحليلها يتبينُ لديهِ جدوى فرضيتهِ أو جوابهِ فإنْ كَانَتْ النتائجُ إيجابيةً وحدتْ مِنْ السببِ قادهُ ذلكَ إلى استنتاجِ فعاليتها، وانتقل بعدَ ذلكَ للتواصلِ وتعميمِ نتائجهِ، وإن كانت خلافَ ذلكَ غيرَ جوابهُ ووضعَ فرضيةً أخرى وعادَ للخطواتِ السابقةِ ذاتها وهكذا دواليك.

ويمكنُ تطبيقَ ذلكَ على كافةِ المشاكلِ بالاليةِ نفسها وإنْ اختلفتْ الطرقُ في ترتيبِ هذهِ الخطواتِ بتقديمِ بعضها، إلا إنْ الخطواتِ هي ذاتها والمصداقيةُ المعتبرةُ هي نفسها والمقبوليةَ عندَ المجتمعِ العلمي واحدةٌ؛ كونها حلقةَ متصلةً وعقدَ مسبحةٍ لا تكادُ تنفكُ عن بعضها البعضِ.

وقبلَ الختامِ لا بدَ مِنْ الاشارةِ إلى لفتةٍ غايةِ في الأهميةِ إلى كونِ ما يصلنا عن طريقِ اللهِ جلَّ وعلا عبرَ رسلهِ مِنْ أوامرٍ وتعليماتٍ، وأمورٌ حدثتْ أو سوف تحدثُ، فهي قطعيةُ الحدوثِ وصائرةٍ لا محالة، لا نحتاجُ فيها إلى استخدامِ أدواتِ البحثِ العلمي السالفةِ الذكرِ، وإنما جرى استخدامهُ مِنْ قبلِ العلماءِ والناسِ لافتقارهم لعلمِ الحقيقةِ، وهذا لا ينطبقُ عما أمرَ اللهِ وعلّمهِ وبيّنهُ سبحانهُ وتعالى.

قالَ تعالى في كتابهِ الكريمِ: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ۚ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ۖ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰوالله [النجم 32]

وقالَ عز من قائلٍ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق 16]

قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا ۚ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ۚ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر 11]

 

1 - المِنْهَجُ الْعِلْمِيُّ هو الطريقةُ التجريبيةُ لاكتسابِ المعرفةِ والتي ميزتْ تطورَ العلومِ الطبيعيةِ منذُ القرنِ السابعِ عشرِ على الأقلِ.

2 - المنهجُ الوصفي: أسلوبٌ أو نمطٌ يتمُ استخدامهُ لدراسةِ ووصفِ الظواهرِ والمشكلاتِ العلميةِ وصفًا دقيقًا للوصولِ إلى التفسيراتِ المنطقيةِ المبرهنةِ بهدفِ إتاحةِ الفرصةِ للباحثِ لوضعِ إطاراتٍ محددةٍ للمشكلةِ واستخلاصِ عددٍ من الأسبابِ التي أدتْ لحدوثِ الظاهرةِ أو المشكلةِ.

3 - المنهجُ التجريبي: هو عبارةٌ عن طريقةٍ منهجيةٍ يستخدمها الباحثُ لدراسةِ وقائعٍ خارجيةٍ، وتفسيرها، والتحكمُ فيها، والتَّنبُّؤ بما هو مُستقبلي، ومن بينِ أدواتِ البحثِ العلمي المُستخدمةُ في المنهجِ التجريبي أداةُ المُشاهدةِ والمُلاحظةِ.

4 - رَأَى الرَّايَةَ: رَكَّزَهَا، أَثْبَتَهَا.

5 - رِواية: «اسم»: الجمع: رِواياتٌ

الرِّوَايَةُ: القِصَّةُ الطويلة.

6 - ذو رؤية: مُظْهر أو مُبْدٍ آراء صائبة.

7 - ويكبيديا «الموسوعة الحرة».
نائب رئيس مجلس إدارة جمعية العوامية الخيرية للخدمات الاجتماعية