آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

من المسؤول دماغ القلب أم مشاعر الأمعاء

هبة الحبيب *

قال الشاعر إبراهيم بديوي:

لله في الآفاق آيات لعل                    أقلها هو ما إليه هداك

ولعل ما في النفس من آياته            عجب عجاب لو ترى عيناك

والكون مشحون بأسرار إذا              حاولت تفسيراً لها أعياك

كل ما في هذا الكون هو مظهر من مظاهر تجلي إبداع الخالق في خلقه وكل ما توصل له العلم الحديث حتى الأن ما هو إلا ذرة في أسرار معاجز الله الكونية فيقف حينها العقل عاجزاً عن الأدراك، وبمناسبة الحديث عن الإدراك أهو فعل مختص بدماغ الجمجمة أم هناك أدمغة أخرى في الجسم تُصدر القرارات وتتشارك في ذاكرة الآلم؟

الفكرة التقليدية السائدة بأن العقل مسؤول عن الوعي والإدراك والقلب مضخة للدم والأمعاء والمعدة للهضم، وإن إحساس الآلم العضوي في الجسم ذاكرته مخزونة في الدماغ وإن كل إحساس الجسم بالآلم والخطر ينتقل من المستقبلات العصبية الحسية في الأطراف عن طريق الناقلات العصبية للدماغ فيُصدرالدماغ رد الفعل المناسب لتلك المشاعر ويختزن ما تبقى منها في ذاكرة الآلم الموجودة في الدماغ فقط.

فهل القلب فعلاً مجرد مضخة للدم والأمعاء لعملية الهضم ليس إلا؟

اكتشف علماء طب القلب العصبي الحديث بأن هناك أدمغة عصبية وظيفية أخرى في الجسم تختلف عن دماغ الجمجمة المتعارف عليه وتبين بأن هذه الأدمغة تتكون من شبكات وضفائر عصبية معقدة الوظيفة والتكوين وتم تقسيمها لثلاثة أنواع:

دماغ الجمجمة: الإدراك التحليلي المعرفي

دماغ القلب: الإدراك العاطفي الوجداني

دماغ الأمعاء: الإدراك الحسي البديهي

وبالتالي فإن القلب والأمعاء هما من المصادر الرئيسية للإدراك العاطفي والحدسي، فالمظاهر العقلية تُنسب لدماغ الجمجمة، بينما المظاهر الروحية الوجدانية تُنسب للقلب والبديهية تُنسب للأمعاء حيث أنها أول من يتأثر بتلك المظاهر في الجسم وقد تظهر الآلام نتيجة لذلك.

يتكون القلب من شبكة من الخلايا العصبية الجوهرية المعقدة والتي تفوق ال40000 خلية عصبية تتركز داخل العقد القلبية وهي قابلة للتكيف، وقد أشار العالم أرمور إلى أن القلب له القدرة على التعلم وجمع المعلومات واستشعارها كما له ذاكرة خاصة بالآلام وتخزين المعلومات تختلف عن نظيرتها في الدماغ، وله المقدرة على إفراز الهرمونات للجسم كما يعمل الدماغ تماماً، كما وقد ذُهل العلماء من نتيجة التخطيط الكهربائي للقلب الذي كان أكبر بمئة مره من التخطيط الكهربائي للدماغ.

ويشارك مركز القلب تلك المعلومات ومشاعر الألم مع الدماغ عن طريق وصلات عصبية ثنائية الطرف تنتشر من القلب للدماغ، ووُجد بأن لها تأثير في الإدراك واتخاذ القرارات والتنظيم المعرفي ونقل مشاعر الآلام كدماغ الجمجمة تماماً، وبهذا فإن القلب يعمل بذاكره ومراكز عصبية مستقلة تماماً عن دماغ الجمجمة وتم تصنيفه ب «دماغ القلب».

وعلى الرغم من تشابه الخلايا العصبية الموجودة في القلب بخلايا الدماغ إلا أنه وُجد بأن مجموعة من خلايا القلب لها طبيعة رقيقة كالزجاج قد تتكسر وتتناثر عند تخزين المواقف المحزنة في ذاكرة القلب. وما توصل له العلم الحديث من خصائص خلايا القلب قد أشار له أمير البلغاء علي بن أبي طالب قبل ما يقارب 1400 عام في البيت التالي:

وَاحْرَصْ على حِفْظِ القُلُوْبِ مِنَ الأَذَى             فَرُجُوعِهَا بَعْدَ التَنَافُرِ يَصْعُب

إِنَّ القُلــــوبَ إِذَا تَنَـافَـــرَ ودُّهَـــــا                 شِبْهُ الزُجَاجَةِ كَسْرُهَا لا يُشْعَب

وبهذا فإن لدماغ القلب أهمية في اتخاذ القرارات البشرية ومشاعر الآلم كدماغ الجمجمة ولكن أين الأمعاء من كل ذلك؟

تتكون الأمعاء من شبكة عصبية معوية تتخطى الـ 500 مليون خلية عصبية، وقد كشف العالم ماير في دراسته البحثية:

«مشاعر القناة الهضمية» بأن الجهاز الهضمي لا يقوم فقط بعمليات الهضم الحيوية وإنما يتكون من ضفيرة عصبية معقدة تتصل مع الدماغ بنظام ثنائي الإتجاه للتحكم في بعض المشاعر الإدراكية الحدسية للدماغ وهي تعمل بنظام إدراكي مستقل عن دماغ الجمجمة في اتخاذ القرارات ومشاعر الآلم.

وأثبت ذلك العالم كلارير في تجربته العلمية عندما قاس مستوى القلق والخوف والقرارات البديهية لدى الفئران بعد أن تم تقطيع المسارات العصبية المعوية حيث فقدت حينها الفئران قدرتها على الاستجابة الفطرية للخوف والتعلم والتكيف. وتم قياس في تجربه أخرى النشاط الكهربائي للمعدة عند عمل الاختبارات الحسابية لدى بعض الأشخاص فوُجد بأن هناك إجهاد نفسي فيسيولوجي على الأمعاء وهذا ما يفسر حدوث بعض التلبكات المعوية أثناء تقديم الامتحانات.

ونتيجة لذلك فإن النظام القلبي والهضمي متورطان في وظائف بشرية إدراكية عالية المستوى معقدة الوظيفة والكيفية كالدماغ تماماً فهي تلك الأدمغة البشرية المصغرة التي كانت مجهولة لفترة من الزمن. وبذلك فإن حلول المشاكل التقنية تتطلب منطق العقل وحلول مشاكل التكيف تتطلب دماغ الأمعاء بينما تغيير معتقدات الناس وعاداتهم تتطلب دماغ القلب.

ونلخص كل هذا الإعجاز العلمي بالإعجاز القرآني في قوله تعالى «لَهُم قٌلُوبٌ يَعقِلونَ بهَآ», فالقلب ما هو إلا دماغ يعقُل ويتشارك الإدراك مع دماغ الجمجمة.

فهل علمنا الآن لماذا مشاكل المعدة والقولون العصبي قد تسبب آلام الظهر؟

ولما الكلمة القاسية قد تسبب الذبحة الصدرية؟

أخصائي أول عظام في العلاج الفيزيائي