آخر تحديث: 21 / 12 / 2024م - 3:07 م

خواطر حول الحوار بين «الأنا» و«الآخر»

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

يطرح كثير من المهتمين بالشأن العام، موضوع تقصير الكتّاب والمبدعين العرب، في الحوار والانفتاح على الآخر، وينسب الكثير من سوء فهم الغرب، لقضايا العرب المصيرية لهذا التقصير. إن الحوار مع الآخر، من وجهة النظر هذه، هو السبيل لتغيير ذلك، بما يخدم مصالح الأمة، أو على الأقل، تحقيق قدر مقبول من التفهم لمصالحها. في هذا الاتجاه، تخطر جملة من الخواطر، حول الأنا والآخر...

أولى هذه الخواطر، أن المجتمعات الإنسانية، ليست كتلاً هلامية. إن التقسيم الحاد بين «الأنا» و«الآخر» يفترض تجانس كل قطب من أقطاب المعادلة على حدة، وتنافر هذا القطب من الآخر. وهذا في واقع الأمر، تبسيط وفصل تعسفي، ينقصه الوعي بوجود تناقضات ومصالح وتوجهات مختلفة بالمجتمع الواحد، وأن الأمر لا يمكن وضعه في كفة ميزان واحدة عن كل طرف.

فهناك على سبيل المثال، نسبة كبيرة، من الأوروبيين، تتعاطف مع القضية الفلسطينية، وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، فوق تراب وطنهم. وحين قامت إدارة الرئيس بوش عام 2003 باحتلال العراق، أصدر مثقفون أمريكيون بارزون، بيانهم الشهير «إنها ليست حربنا». ذلك لا يعني توافق المجتمع الأمريكي، على إدانة تلك الحرب، فقد وقفت إلى جانبها قوى سياسية وطبقية، وقدمت لها مختلف أشكال التأييد.

لقد أثبتت تلك المواقف، أن المجتمع الأمريكي، شأنه شأن المجتمعات الإنسانية الأخرى، ليس بالمجتمع المتجانس في مواقفه السياسية. إن شأنه في ذلك شأن بقية المجتمعات، يتفاعل مع ما يجري من حوله. وليس بالضرورة أن ترتبط المواقف بالوعي، والالتزام الأخلاقي، ولكن، وذلك في الغالب، ضمن اعتبارات المصالح، وهي اعتبارات أكثر وجاهة في عرف المنتفعين، وأصحاب رؤوس الأموال، والحكومات التي ترعى مصالحهم.

وثانية هذه الخواطر، أن الحديث عن «الآخر»، ينسحب أيضاً على «الأنا» فمجتمع الأنا، وتحديداً هنا المجتمع العربي، ليس ساكناً أو منسجماً، ولا يعيش خارج التاريخ. إنه في القلب من هذا العالم، يتأثر به ويؤثر فيه. وتحكم العلاقات بين أفراده ومكوناته، قوانين الوحدة والتنافر. وهو أيضاً خاضع لصراع المصالح، واختلاف الرؤى والتوجهات، داخل كل قطر على حدة.

لقد أصبحت الدولة الوطنية مع الأيام، واقعاً معترفاً به، ومقبولاً من قبل شرائح اجتماعية واسعة ومؤثرة، رغم كثير من الظواهر السلبية التي نتجت عنها. إن ذلك يعني أننا أمام أكثر من «أنا» وأكثر من «آخر». و«الأنا» العربي تناقض بعضه مع بعضه الآخر، بشكل أصبح معه متعذراً الحديث عن موقف واحد، وأنا واحدة. وقد تعاظمت الشروخ، وتعددت المنافذ، وتضاربت المصالح بشكل دراماتيكي، منذ أكثر من ثلاثة عقود، واستمرت في التصاعد، وتفتيت المجتمع الواحد في عدد كبير من البلدان العربية، بعد اندلاع ما بات يعرف ب «الربيع العربي». بات الآخر، يهيمن على القلب من الأنا.

والخلاصة، أنه ليس ممكناً الفصل بين ما هو إنساني، على أساس اعتبارات الأنا والآخر. وأن الأمر الذي ينبغي قبوله في عملية الإبداع والفن والكتابة، هو أننا لسنا قطباً واحداً في مواجهة قطب آخر، بل إن المواجهة هي في داخلنا، وضمن شرائحنا، كما هي مواجهة في قلب الآخر، وضمن شرائحه. ومن هنا يجدر التمييز، بين ما هو إنساني وقائم على أساس المصالح المشتركة، والتفاعل مع الشعوب، وبين رفض الهيمنة والاستغلال والاحتلال، بكافة شرائحه ومكوناته وأصوله وجنسياته.

الخاطرة الأخيرة، هي أنه إذا سلمنا جدلاً، بأهمية تفعيل الحوار مع الآخر، فإن هناك مشروعية أخرى، لا تقل وجاهة، ولها أرجحية مؤكدة عليه، هي حوار «الأنا» مع الذات. كيف يمكن في ظل انعدام التعددية واحترام الرأي الأخر، أن يتحقق حوار متكافئ مع الذات؟ وهل يمكن الحديث عن حوار مع الآخر، قبل إصلاح مجتمعاتنا العربية، وتمكين الأنا، بكل شرائحه، من الحوار مع ذاته؟!

إننا على أبواب، انتقال تاريخي عالمي عصيب ومرير، لن يمكننا من أخذ مكاننا بجدارة فيه، دون أن نملك الشجاعة الكافية، لمعالجة قضايانا. إن ذلك يتطلب وجود مؤسسات تحتضن المبدع والمفكر والفنان، وتؤمن له البيئة المناسبة للتعبير عن ذاته. ذلك هو المدخل الصحيح، لكي تزهو مجتمعاتنا العربية، ويتحقق الحوار البناء، بين مختلف الشرائح، في خندق الأنا ومع الآخر.