آخر تحديث: 2 / 5 / 2024م - 1:07 ص

الكِياسَةُ وحِسُّ الذَّكاءِ الاجتماعيّ‎‎

ناجي وهب الفرج *

مِنً بديهياتِ ومُكْمِلاتِ العلاقاتِ المجتمعيةِ واستمرارها وديمُومتها؛ أنْ تكونَ قائمةً على احترامِ شخصيةِ أي إنسانٍ يتمُ التعاملُ معهُ؛ فهو مؤدى ومفتاحُ الدخولِ إلى قلبهِ.

وإنْ اختلفتْ الاراءُ والاتجاهاتُ؛ فِمنْ الضرورةِ بمكانٍ أنْ يكونَ هنالكَ خطُ رجعةٍ يمكنُ مِنْ خلالهِ ترميمَ الخللِ وإصلاحِ ما فَسِدَ، وهذا يقُودنا إلى مفردةِ الكِياسَةِ ومضامينها ودلائلها ومقاصدها الهامة.

دعونا نطرقُ مفهومَ الكِياسَةِ، وما وردَ عن النبي وأهلِ بيتهِ صلواتُ اللهِ عليهم أجمعينَ في هذا الشأنِ، وأنواعها، وأثرها، ودورها، في بناءِ العلاقاتِ على مستوى الفردِ والمجتمعِ والشعوبِ، ونستعرضُ بعضَ الاقتباساتِ الشهيرةِ من أقوالِ بعضِ القادةِ والساسةِ المعاصرين عن الكِياسَةِ.

الكِياسَةُ لغويًا تعني تمكُّنُ النفوسُ مِنْ استنباطِ ما هو أنفعُ، مصدرُ كاسَ وهي تعني أيضًا ظُرْفًا وذكاءً ولباقةً، كذلك نقولُ كَيَّسَهُ بمعنى أَدَّبَهُ وَجَعَلَهُ فَطِناً، مُهَذَّباً يَنْظُرُ إِلَى الأَشْيَاءِ فِي تَأَنٍّ وَتُؤَدَةٍ. [1] 

أما اصطلاحًا فيُطلقُ مِنْ أجلِ الدلالةِ على إظهارِ التقديرِ للناسِ والتعبيرِ عن الحبِ والامتنانِ لهُم وتحقيقِ الهدفِ مِنْ دونِ خلقِ المزيدَ مِنْ الخصومِ.

وكما ذكرها اسحاقُ نيوتن: ”الكِياسَةُ هي فنٌ تحقيقُ هدفٍ مِنْ دونِ صنعِ أعداءٍ“. [2] 

وهنالكَ بعضُ المروياتِ عن أهلِ بيتِ الرسالةِ عليهم وعلى جدهم صلوات الله وسلامهِ، ذكرتْ الكِياسَةَ ومدلولها وما ترمي إليهِ، سنتناولُ شطرًا مِنْها:

ومِما وردَ وجاءَ في وصيةِ رسولِ اللهِ «صلىَّ اللهُ عليهِ وآلهِ» لأبي ذرٍ أنهُ قالَ:

«يا أبا ذرَ إن الكيِّس مَنْ دانَ نفسهُ وعملَ لما بعدَ الموتِ والعاجزُ مَنُ اتبعَ نفسهُ وهواها وتمنى على اللهِِ عزَ وجلَّ الأماني». [3] 

ووردَ عن النبي «صلىَّ اللهُ عليهِ وآلهِ وسلم»،

أنهُ سُئل عن أي المؤمنينَ أكيِّس؟ فقالَ: «أكثرهم للموتِ ذِكرًا وأحسنهم لهُ استعدادًا اولئكَ هم الأكيِّاسُ». [4] 

ومما وردَ عن رسولِ اللهِ «صلىَّ اللهُ عليهِ وآلهِ وسلم» أيضًا أنهُ قالَ: «المؤمنُ كيِّسٌ فطنٌ حذرٌ». [5] 

وقد وردَ عن أميرِ المؤمنينَ «عليهِ السلام» أنهُ قالَ: «كم من صائمٍ ليسَ لهُ من صيامهِ إلا الجوعُ والظمأ وكم من قائمٍ ليسَ لهُ من قيامهِ إلا السهرُ والعناءُ حبذا نومُ الأكيِّاس وإفطارهم». [6] 

ومما وردَ أيضًا عن أميرِ المؤمنينَ «عليهِ السلام» أنهُ قالَ: «إنَّ اللهَ سبحانهُ جعلَ الطاعةَ غنيمةً الأكيِّاسِ عندَ تفريطِ العجزةِ». [7] 

أما أنواعُ الكِياسَة فهي تأتي على عدةِ ضروبٍ تتمثلُ بالآتي:

1 - الكِياسَةُ الاجتماعيةِ: ترادفُ الذَّكاء الاجتماعيّ وهو حسنُ التّصرُّف في المواقفِ والأوضاعِ الاجتماعيّةِ. متمثلةً في تكوينِ علاقاتٍ ناجحةٍ بالحبِ والودٍ واللطفِ وتبادلُ المنافعِ مع الناسٍ ومشاركتهم، والعاقلُ «كيّسٌ فطنٌ» وليس كيسٌ قطنٌ، يحتاطُ لكلٍ عملٍ يعملهُ ولكلِ كلمةٍ يقولها، ويحفظُ ما يُسمى بخطِ الرجعةِ الذي يضمنُ بهِ بقاءَ شيءٍ مِنْ العلاقاتِ المفتوحةِ مع زميلٍ، أو رئيسِ قسمٍ بعملُ معهُ، أو مديرِ إدارةٍ يتبعها، أو جارٍ لكَ أو حتى معَ الخصومِ.

2 - الكِياسَةُ السياسيةِ: ارفعْ شعارَ السلامِ لا الصدامُ، لا تشغلْ نفسكَ في المواقفِ.

هذهِ بعضُ الاقوالِ المعاصرةِ عن الكِياسَةِ لساسةٍ وقادةٍ معاصرينَ:

سلمانُ بن عبدالعزيز - حفظهُ اللهُ - ملكُ المملكة العربية السعودية السابعُ، ورئيسُ مجلسِ الوزراءِ والقائد الأعلى لكافةِ القواتِ العسكريةِ: [8] 

”المملكةُ ستواصلُ انتهاجَ سياسةً متوازنةً لتعزيزِ استقرارِ سوقِ النفطِ العالمية“. [9] 

وهذا يدلُ دلالةً واضحةً على عمقِ صياغةِ العلاقةِ المتوازنةِ والمثمرةِ والذكاءِ واللباقةِ وما انفعُ اقتصاديًا مع الدولِ والتي يتبناها - حفظهُ اللهُ - وعمقُ كياستهِ وحنكتهِ وبعد نظرتهِ في هذا الصددِ.

جون كينيدي وهو سياسي أمريكي تولّى منصبَ الرئيسِ الخامس والثلاثين للولايات المتحدة من 20 يناير 1961 حتى اغتيالهِ في 22 نوفمبر 1963: [10] 

”لذا دعونا نبدأ من جديدٍ - لنتذكرَ على الجانبينِ إنَّ الكِياسَةَ ليستْ علامةُ ضعفٍ، وإنَّ الإخلاصَ يخضعُ دائمًا للأدلةِ. دعونا لا نتفاوضُ أبدًا بدافعِ الخوفِ. لَكِنْ دعونا لا نخافُ أبدًا مِنْ التفاوضِ.“

المهاتما غاندي وهو السياسي البارزُ والزعيمُ الروحي للهندِ خلالَ حركةِ استقلالِ الهندِ: [11] 

”الكِياسَةُ لا تعني هنا مجردُ اللطفِ الخارجي للكلامِ الذي يتمُ تربيتهُ لهذهِ المناسبةِ، ولكنَ اللطفُ الفطري والرغبةُ في فعلِ الخيرِ للخصمِ.“

السيدةُ ماري ورلي هي كاتبةٌ رسائلٍ وشاعرةٍ إنجليزية. يتمُ تذكِّر ليدي ماري اليومَ للرسائلِ التي كتبتها، حيثُ عاشتْ لفترةٍ في الاستانة بوصفها زوجةُ السفيرِ البريطاني فيها، وفهمتْ الاسلامَ ووقفتْ منهُ موقفًا مستنيراً: [12] 

”الكِياسَةُ لا تكلفكَ شيئًا وتشتري لكَ كلَ شيءٍ“

3 - الكِياسَةُ الاسريةِ: لا تعملْ مِنْ «الحبةِ قبةٌ»، كما يُقال في المثلِ، وكذلكَ لا تصنعْ مِنْ النملةِ فيلًا.

اصرفْ نظركَ عن صغائرِ الأمورِ، وتصيِّدِ الأخطاءِ، اعملْ لنفسكَ دائمًا خطَ رجعةٍ مع الجميعِ، لا تكنْ كمَنْ يتصيدُ أخطاءَ الآخرينَ، لا تتصيدْ الأخطاءَ للزوجةِ أو للزوجِ، لا تدخلْ في معاركَ طاحنةٍ بسببٍ وبدونَ سببٍ، ابتسمْ وتجاهل المنغصاتٍ، واكسبْ الآخرينَ لا تخسرهم؛ سواءً كانتْ زوجةً، أو كَانَ زوجًا، أو أبنًا أو رحمًا …

ومِنْ خلالِ ما تقدمَ نخلُصُ في أنَّ الكِياسَةَ حاجةٌ ملحةٌ؛ تُؤدي إلى تحقيقِ ذكاءٍ في إدارةِ العلاقةِ على كافةِ المستوياتِ والوصولِ إلى الاهدافِ المرادُ تحقيقها والتي ستؤدي إلى خدمة وتحقيق مصلحة الجميعَ في كافةِ الصعدِ.

[1]  معجم المعاني الجامع
[2]  اقتباسات من أقوال إسحاق نيوتن
https://eqtibasat.net/author-352.html
[3] [4] [5] [6] [7]  موسوعة أحاديث أهل البيت - الشيخ هادي النجفي - ج 9 - الصفحة 435.
[8]  الموسوعة الحرة «ويكبيديا»
[9]  صحيفة البلاد عدد 30 / نوفمبر / 2019 م الموافق 3 / ربيع الآخر / 1441 هـ.
الرئيسية - المحليات - من أقوال الملك سلمان بن عبدالعزيز.
[10] [11] [12]  الموسوعة الحرة «ويكبيديا»
نائب رئيس مجلس إدارة جمعية العوامية الخيرية للخدمات الاجتماعية