آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

مضاد الإنسانية

عبد الله الناصر

تعب من النظر إلى جدران غرفة الانتظار، لا شيء يكسر سكون المكان إلا صوت نبضات قلبه، نبضات مؤلمة لم تمر على قلبه من قبل...

دقيقة بعد دقيقة تزداد فيها اهتزاز أقدامه.. عينه على عقارب الساعة التي تمر مثقلة، قاميمشي في ممرات المستشفى مرارا ليطرد الأفكار السيئة، يوماً صعباً بالنسبة له، مشاعره تمشي قبله ويمر شريط الذكريات لعشر سنوات منذ ولادة ابنه يوسف أمامه مسرعة ويقف عند اللحظة التي أدخله فيها غرفة العمليات لإجراء عملية صعبة بالقلب، وتحاصره من جديد مخاوف أن تكون هذه النبضات الأخيرة ليوسف، فيزداد شحوب وجهه وتزداد برودة أطرافه ويغلق عينيه ويرفع يده بالدعاء «أنا مكسور يا رب، داخلي مبعثر، مظلم بشكل مخيف، اجبرني يا جبار بلطف كرمك، خذ من عمري وامدد به عمر ولدي الوحيد الذي أكرمتني به».

بعد مرور ثماني ساعات خرج الدكتور، طارت عين أبو يوسف على وجه الدكتور وكأنها تريد أن تسبق أذنه، أصعب دقيقة، قال فيها الدكتور: «يوسف نائم الآن ولكنه سيستيقظ غدا بقلب قوي، نبضاته جديدة تحمله إلى عمر طويل بإذن الله دون ألم ولا إرهاق، الحمد لله العملية نجحت ووضع يوسف ممتاز، وسيبقى في غرفة العناية لمدة يوم للمتابعة وأخذ المضاد الحيوي الذي سيرفع من مناعته وبعدها سينقل لغرفة عادية وسيسمح لكم بزيارته».

سجد أبو يوسف لله سجدة شكرٍ، وقام بابتسامةٍ وعيونٍ تبرق بالدموع فرحاً، فتح هاتفه اتصل مبشرًا الجميع بهذا الخبر، جلس على الكرسي وهو يردد كم أنت كريم يالله فتمنحني هذه السعادة، الدنيا التي كانت مظلمة بعيني أصبحت منيرة كما يتسرب الشروق صباحاً بعد ليل دامس.

اتصل أبو يوسف إلى صديقه جعفر الذي يعمل بإحدى الجمعيات التطوعية، أراد أن يقدم مبلغًا كبيرًا من المال ليفك بها حاجة محتاجين يسعدهم كما أسعده الله بسلامة ولده. أشاد جعفر بعطاء أبي يوسف الذي اعتاده منه فيده الكريمة الخفية مُدَّت للكثيرين باسم فاعل خير. وقال له: أنت الآن تحمل أكبر طاقات الحب والسعادة بقلبك وهذا منعكس حتى بصوتك واتساع عطائك ولكن أنا طامع منك بالمزيد من العطاء، وافق على الفور أبو يوسف وقرر زيادة المبلغ، ضحك جعفر وقال له ما أطمع به منك ليس عطاءً ماديًّا وإنما إنساني، طلب أبو يوسف التوضيح لعدم فهمه مقصد صاحبه.

قال جعفر: نحن نسعى الآن لإشراك الناس في العطاء الإنساني الذي يجعلهم يستشعرون متعة المشاركة والعطاء، فالمال وحده لا يكفي، أنا لا أنكر أن عطاء الناس المادي زاد منذ أصبح التبرع مقرونًا بضغطة زر بالهاتف لكن أصبح العطاء الإنساني قاحلًا رغم أنها الأسعد للقلب والأجمل بالشعور. ما رأيك أن أرتب لك اليوم تجربة تعيشها لمدة يوم تضع فيها سعادتك وشعورك بالامتنان لله، لولدين أبوهم ابتعد عنهم مجبراً بيد الموت، وترك شقوقًا من الحرمان لا يسدها المال، ولكنك تستطيع بهذه التجربة أن تسد القليل منها. إنك ستكون المثالي في المكان الملائم لهذه المهمة.

وافق أبو يوسف مسرورا مبتهجا، وقرر أن يكون بقدر هذه المسؤولية، وقرر أنه بدل أن ينتظر بالمنزل هذا اليوم حتى يسمح لهم بزيارة ولده أن يقضيه برفقة هذين اليتيمين، وبالفعل تم التنسيق مع والدتهم بأخذ الموافقة منها، لطلب مرافقة ولديها بسويعات ترفيهية تحت ضمانة وثقة الجمعية.

أرسل جعفر العنوان إلى أبي يوسف الذي صعد سيارته وهو يسأل صديقه كيف يخطط لبرنامج ترفيهي معهم؟ كيف يسعدهم؟ فقال له: عش معهم كأنهم أولادك فقط هذا ما يحتاجون.

وصل أبو يوسف إلى منزلهم، فخرج الولدان حسن ذو 12 ربيعاً، وذو الوجه المبتسم المتحمس للخروج وحسين بعمر 9 سنوات صاحب العينين الخجولتين ممسكًا بقوةٍ بيد أخيه.

كانت ملابسهم بسيطة لكنها نظيفة، صعدا السيارة بصمت، فقال لهم أبو يوسف: «أهلا وسهلا بأبطالي اللذين سيشاركوني اللعب بكرة القدم، من منكم يريد أن يكون مدافعا ومن يريد الهجوم ومنصب الحارس لي طبعاً» كسرت هذه العبارة صمتهم وبدأت أصواتهم تعلو بتحديد رغباتهم وقال حسين إلى أبي يوسف «عندك كرة» فقال أبو يوسف بحركات مازحة أوووووووو صحيح نحتاج إلى كرة ما رأيكم بالذهاب إلى السوق لنشتري كرة وملابس رياضية.

بدأت السعادة والراحة تحل محل الخوف على وجوه الأولاد، ومشاعر غريبة تحل بداخل أبي يوسف كلما حادَثَ الصغارَ، حيث بدأ يدخل بعالمهم عالم اليتم، يفكر بدواخلهم، بعيونهم التي يرى فيها فقد الأبوة، انفتح بداخله جرح طفولته حيث فقد أباه بسن صغيرة أيضا.

وصلوا محل التسوق أعطى كلا منهم عربة وطلب منهم اختيار ملابس رياضية بذوقهم وحذاءً وكرة. انطلقوا بسعادة باندفاع الطفولة التي لاحظها الجميع يمرون بين الملابس بحَيْرَةِ الاختيار، أصواتهم تعلو بالضحكات، وكان أبو يوسف يحادثهم بمثل أعمارهم يركض خلفهم ويختار معهم الألوان ويساعدهم في غرفة الملابس ويمازحهم بالنكت، مرَّت ساعة ونصف لم يستشعروا الوقت من السعادة، غيَّروا ملابسهم مستعدين للعب، وعند وصولهم الملعب كان بانتظارهم فريقهم المنافس..

تعمد أبو يوسف مسك يدي حسن وحسين وتشجيهم بكلماته الحماسية للفوز بالمباراة كان يتعمد إعطائهم لمسات من الأبوة والأخوه معاً. ووعدهم بمكافأة جميلة عند الفوز. مرت المباراة بشقاوة الطفولة وجمال التعاون والمشاركة، انصدم أبو يوسف من نفسه لربما هو كان أكثر من استمتع باللعب، خاصة أن فريقهم هو المنتصر. جاء حسن راكضا إلى أبي يوسف «عمي عمي ما هي جائزة الفوز لنا» فأشار أبو يوسف إلى محل درجات بالقرب من الملعب وقال لهم الجائزة دراجة لكل واحد منكم، لم تتسع السماء عندها فرحتهم وهم يتسابقون من يصل لمحل الدرجات أولا.

كانت أعين الأولاد في صندوق السيارة حيث ركنوا دراجاتهم، يرونهم بسعادة وكأنهم نالوا جائزة عظيمة، وكانت عين أبي يوسف تراقبهم ترى كمية فرحتهم، ويسمع نقاشاتهم وأين سيقودون الدراجة في حيهم، سعيد أنه كان جزءًا من خلق هذه السعادة لهم.

قطع نقاشهم وسألهم ماذا يشتهون للغداء، فاختلف الاثنان بطلباتهم فقرر أن يُلبِّي الطلبينِ بالذهاب لمجمع تجاري به تنوع خيارات المطاعم وبالفعل ازدادت حيرتهم برؤيتهم أنواع الاختيارات إلى أن استقر كل منهم بما يشتهي.

اثناء وجبة الغداء كان أبو يوسف يحادثهم كأب، يناقشهم بما يحبون، بدراستهم، بصداقاتهم، أحلامهم المستقبلية، يتحداهم بالألغاز، كم هم بريئين جميلين، وكم نحن مقصرين بحقهم فعلا..

قارب الوقت على الإنتهاء فقرر أبو يوسف أن ينهيه بأكثر مكان يحبه الأولاد وهو السوبرماركت، حيث طلب منهم أن يقدموا مفاجأة لوالدتهم بشراء متطلبات الثلاجة التي يحبونها كعائلة وترك لهم حرية اختيار المنتجات ووضعها بالسلة، كان يريد أن يجعلهم هم مصدر سعادة والدتهم وليس الآخرين.

رغم عدد الأكياس وثقل وزنها لم تفارق الابتسامة وجوه الأولاد وهم يدخلون ما اشتروه داخل منزلهم

وبالطبع كانت الدراجات الأحب لقلوبهم، حانت لحظة الوداع، حمل أبو يوسف حسينا عاليا وهو يبتسم واحتضنه فقام حسين بعفوية بتقبيل أبي يوسف، شعر وقتها أن الله وهبه اليوم كل سعادة الدنيا، كل هذا الشعور جاء بقلبه واحد من داخل ولد يتيم صادق المشاعر نحوه. ودعهم وانتظر حتى أغلقوا باب منزلهم لتنتهي هذه الرحلة.

عندها اتصل مباشرة إلى صديقه جعفر، وقال له:

اليوم أدركت فعلا الفرق في العطاء المادي والعطاء بإحسان، أدركت حتى الفرق في التفاصيل الصغيرة، كانت رحلة عفوية جعلتني أتأمل الكثير، قانون العطاء كان يستحق تجربة مثل هذه ليتغير، أدركت أن العطاء نفسه لا يتغير، لكن طريقة تقديمه هي الجوهر.

المبلغ الذي كنت سأهديه هذه العائلة بضغطة زر هو نفسه المبلغ الذي استهلك بهذه الرحلة الفارق أنني كنت اقدمه بدون مشاعر كفاعل خير مجهول غير ملموس ولا مرئي واليوم قدمته كرجل بمشاعر أبوة لهم، سعادة العطاء بتحويل بنكي تستمر دقائق لكن سعادة مشاركتهم هذه التجربة ستبقى ذكريات ممتدة بذاكرتي للأبد، سأكررها بالتأكيد لأني أكثرهم سعادة وراحة وأنا أشكرك أنك أنرت قلبي لمثل هذا الطريق..

بارك جعفر جهد أبي يوسف وقال له وهذا هو أساس التجربة، أنت منحتهم الاحتواء والأمان الذي راكمه اليتم بدواخلهم، هم لا يريدون المال فقط بل يريدون أسرة ووطنًا تتمثل بدور كل واحد منا تجاههم، ليكن لهم بدل الأب، عشرات الآباء ليشعروا أنهم مميزون باليتم لا ناقصين. نحن انشغلنا بمشاغل الدنيا حتى صرنا لا نبصر ضوء الإنسانية في داخلنا.

أيد أبو يوسف كلام صديقه نحن أحيانا نعطي عطاء ماليا كبيرا يشعرنا بسعادة فك حاجات الناس لكن لا تقارن أبدا بالسعادة التي أشعرها الآن رغم أن عطائي المادي فيها ليس بالكثير. وفي المرة القادمة سيشاركني التجربة ابني يوسف كأخ بينهم وصديق.

يحتاج يوسف إلى مضاد حيوي يرفع مناعة جسمه بعد العملية ليعيش بسلامة وسط مجتمعه، ويحتاج الكثيرين حولنا لأنواع مختلفة من المضادات متشكلة في العطاء بذوق وإحسان يحمل كل واحد منا بيديه مضادا إنسانيا يحتاجه أحد في محيطه لنقدمه لهم بطرق مختلفة تليق بهم سواء كان يتيما أو كبير بالسن أو معاقا أو مريضا أو ذا حاجة، لنبدع في أشكال عطائنا بدون إذلال ولا منةٍ وكسرٍ للخواطر لترتفع مناعة مجتمعنا وترتقي بثوب الإنسانية.

هذه نهاية حكاية أبي يوسف لكني واثق أنها بداية للكثير من الحكايا التي ستبدأ منكم تحكي فيها شجاعتكم في الإبداع في العطاء بإحسان لمن حولكم

ومشاركة تجاربكم ليتولد من أشخاص شجاعة تكمل المشوار، وأنت أيها القارئ لمن ستهدي مضاد الإنسانية يا ترى؟؟؟؟؟