رأي في القراءات
القراءات القرآنية أكثر من هٰذه القراءات السبع والثمان والعشر والأربع عشرة بكثير، ومنها الصحيح / المتواتر، ومنها الشاذ؛ ولٰكني أريد أن أبدي رأيي، في غير الشاذ منها، وهو: ما اكتملت فيه ثلاثة شروط:
1 - أن يكون مرويًّا تواترًا.
2 - أن يحتمله رسم المصحف.
3 - أن يكون له وجه من العربية.
أما الشرط الأول - وهو التواتر من بدء السند إلىٰ منتهاه - فقد أوضح السيد الخوئي أن التواتر إنما هو من بدء السند، حتىٰ يصل إلى الراوي أو القارئ، وهو الحق؛ إذ إن الرواية من قبيل الآحاد - بعدئذ - حتىٰ تصل إلىٰ رسول الله ﷺ.
وأما الشرط الثالث، ففيه أن العربية تسع وجوهًا أكثر مما يسعها علم العربية هٰذا الذي ضيقناه، حتىٰ لا نقبل إلا ما زعمنا أنه مذهب البصريين وزعمنا أن لهم مدرسة، ولسواهم مدارس، ثم ارتضينا كثيرًا من اختيارات ابن مالك، فاستحسانات ابن هشام.
ولا كلام - الآن - في الشرط الثالث؛ ولٰكنني أرجئه إلى رسالة أرد فيها على الشيخين: ناصر مكارم، وهادي معرفت.
أريد أن أقول: إن القراءات الصحيحة غير الشاذة أنواع وصور من الأداء تندرج تحت لهجات /لهيجات عربية قديمة وظواهر ثمة ما يشبهها من لهجاتنا ولهيجاتنا، كتحقيق الهمزة - وهو اليوم نادر - والفتح - وهو معروف - والإمالة الصغرى وكذا الكبرىٰ - وهما مسموعتان اليوم في بلد وآخر، والإدغام وفكه كذٰلك... إلىٰ ما هنالك من الظواهر الصوتية اللهجية.
ورسول الله وأمير المؤمنين - صلى الله عليهما وآلهما - من قبيلة واحدة وبطن واحد؛ بل جد واحد، وكلاهما يلهجان لهجة واحدة من ظواهرها: الفتح وفك الإدغام، وتحاشي النبر/ الهمزات، ما أمكن...
لا أريد استقصاء القراءات المنتهي سندها إلىٰ أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - ولٰكن عندي منها - في مكتبتي - ثلاث روايات، والكلام فيها وفي غيرها من المروي عنه - صلوات الله عليه - وعن غيره أن يقال: إن طبيعة الإنسان أن يتكلم بلهجته، ولا يتكلم بلهجة غيره أو لغة غيره، إلا أن يضطر إلىٰ ذٰلك، كأن يتقن القطيفي لهجة من لهجات الصعيد، ويضطر إلى التحدث بها أو ببعض الكلمات منها؛ ليفهم الصعيدي مراده، والعراقي اللبناني، والسوري التونسي... وهٰكذا!!
أما أن يخالف المرء ما تقتضيه لهجته من ظواهر صوتية، ومخارج لفظية، وأساليب الأداء، ومقام ونبر، غير مضطر، فليس هٰذا بمألوف أو معهود.
ومن هٰذا القبيل محاكاة بعض بناتنا ونسائنا لهجات السورية أو لبنانية، ظانات أنهن أخف ظلًّا بتلك المحاكاة، ومحاكاة بعض مثقفينا لهجات عراقية، ظانين أنهم أكبر مقامًا علميًّا، ومحاكاة بعض موظفينا لهجات نجدية أو غير نجدية، ظانين أنهم أعز وأرفع شأنًا بذٰلك... وكل ما مر من قبيل احتقار الهوية والنفس والشخصية.
وفرض لهجة علىٰ غير ذويها من جهالات العامة، وقد وقعنا فيه، عند إعداد دراساتنا اللغوية المعيارية؛ مما أساء إلىٰ لغتنا العربية، وأصابنا بازدواج وانفصام في الشخصية. شفانا الله تعالىٰ من تلك الأمراض القلبية!!
إن المتعلم يقرأ القرآن بين يدي من يقرئه، وقد تكون لهجة أحدهما الفتح، ولغة الآخر الإمالة؛ أفيسوغ لأحدهما قسر الآخر علىٰ لهجته؟!
إن تكن لهيجتي مياسية، ولهيجة غيري عوامية؛ أيحق لي أن آمره بإتقان لهيجتي أو يحق له أن يأمرني بإتقان لهيجته وإلا فقد خالف اللهيجة الفصحىٰ؟!
إن ذٰلك هو ما حدث، حتىٰ أوهمنا من أوهمنا أن ثمة حقيقة يقال لها: اللغة العربية الفصحىٰ!!!
إذا قرأ صحابي القرآن علىٰ رسول الله - ﷺ - بلهجته، ولم يقرأ بلهجة رسول الله - ﷺ - أو تابعي علىٰ أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - أفكانا يقسرانهما علىٰ لهجتهما؟!
كانت حال العرب كحالنا اليوم، يتحدث كل بلهجته، إلا أن يضطر بعضهم إلىٰ إيضاح معنًى بلفظ أو ظاهرة صوتية ليست من لهجته، لآخرين بلهجاتهم.
أكان الرواة من الصحابة حفظوا القرآن كما يحفظه القراء اليوم ويأخذونه عن مشايخهم؟!
أكان التابعون يأخذونه عن الصحابة كما هو حال الإقراء اليوم وكما كان إقراء القراء السبعة وغيرهم حتىٰ يحفظوه ويتقنوا قراءة قراءة لها خصائصها وسماتها؟!
إذا كان الأمر كذٰلك، فكيف كان أولٰئك الصحابة يبحثون عمن عنده شيء من القرآن مكتوب أو محفوظ؟!
كيف يكون مرويًّا مقروءًا علىٰ رسول الله - ﷺ - يقرأ حتىٰ يحفظ ثم يبحثون عن سورة سورة وآية آية ويسألون البينة واليمين والقسم؟!
علىٰ أني لا أقول بقصة جمع القرآن المشهورة؛ ورب مشهور لا أصل له!!
ثم إن الرواية لم تكن إلا بالعنعنة التي لا تعد رواية راقية في الحديث، كما يقول المحدث مصرحًا: حدثني / حدثنا...، وكذٰلك هنا.. لم يروِ راوٍ قراءة ويقل: أقرأني وقرأ علي أمير المؤمنين أو رسول الله - صلى الله عليهما وآلهما - أو سائر الصحابة من المقرئين، ويصرح الصحابي أن رسول الله - ﷺ - قرأ كما أقرأ.
أقول: إن القرآن ثابت بالوجدان، مقروء باللهجات التي لا يعترض عليها النبي - ﷺ - أو أحد من الصحابة المقرئين، حتىٰ تمايزت القراءات، ونسبت إلىٰ أصحابها، كالقراء السبعة؛ ولٰكن المروي هو القرآن، لا القراءات!! أما القراءات فهي لهجات الرواة: من صحابة وتابعين، والصحابة أقرهم النبي - ﷺ - والتابعون أقرهم الصحابة، كما يقر بعضنا لهجات بعض.
أداء القرآن كأداء غيره من الكلام، ثم كانت القراءات فنًّا وعلمًا، وأداءً كأداء الصحابي ذي اللهجة واللهيجة، والتابعي ذي اللهجة واللهيجة، ولا شيء غير ذٰلك.
أما كيف كان يقرأ رسول الله وأمير المؤمنين - صلى الله عليهما وآلهما - فنحن لا نعلم من ذٰلك إلا قليلًا، لا علىٰ نحو الرواية الكاملة، كما يصور لنا ذٰلك القراء والمقرئون.