قراءة في مجموعة «مارية وربع من الدائرة» للسعودي حسن علي البطران
تعدّ الهيمنة الثقافية أحد الملامح التي نجدها في الأدب العربي، فيبدو الأديب كمن استلّ السيف مدافعا عن المتوارث الثقافي قصدا أو بغير قصد، ولدى استجلاء الراسخ الموروث المطبوع في الذاكرة ورسم حدوده ضمن مجموعة «مارية وربع من الدائرة» نجد اندفاعا لم يستطع صانع النص الإفلات منه، فبدا مفهوم الرغبة والرهبة هو الحاكم، وبدت الأنساق الثقافية بين طيات الكلم.
عند الخوض في غمار القصص القصيرة جدا في مجموعة «مارية وربع من الدائرة»، نجد قواما من التكثيف في المعنى والمبنى، ورمزية تحاور كوامن العقول، تصب في حالة سلطوية تسيطر على النصوص بدءا بعنوان يبدو فيه نسق المرأة «مارية» التي شكّلت الجسد والروح والفكر، ولوجا إلى القصص التي يحاول البطران بها التغلب على هذه السلطة مقابل نسق آخر، وبدا الصراع بين النسقين واضحا على مستوى مادي أو نفسيّ؛ إذ يبدأ بسلطة نسقية متوارثة قائمة على الفحولة، أو لنقل سلطة الغريزة التي يجد فيها الرجل نفسه مطلوبا، معيدا للمتلقي أمجاد عمربن أبي ربيعة، في المشهد الأول، «خيالها لم يزرني، وخيالي لم يفارقها»
«خيالها لم يزرني، وخيالي لم يفارقها، رغم إنني جديد عهد بها.. تبادلنا الحديث في مرحلة لاحقة، غصنا عميقا في أغواره، استخرجنا منه بعض اللآلئ وأشياء أخرى.. طوينا صفحات من ماضينا.. لم تبتسم، ولم ابتسم، لكن ابتسمنا معا في لحظة دفء احتوتنا بعد موجة برد قارس..!!»
لكنه ما أن يصل إلى ختام الحزمة الأولى حتى يتبدد الشعور بالهيمنة المتواترة، جاعلا منها جسدا متكاملا، وسلطة حازمة في الجملة الأخيرة «رفضت هي مقابلته»، ليبرز المفارقة التي يسعى إليها ليس على مستوى القصة الواحدة بل على مستوى الحزمة الكاملة أيضا.
غبار مقدس. من يكمل تلوين اللوحة..؟ قرأت هذا السؤال، وظلّت تبحث عن هذه اللوحة، وجدتها بعد فترة بحث طويلة والغبار يستر سطحها في إحدى مستودعات الكتب في تلك المدينة. وصله خبرها.. كسر قليلا من الزجاج بجانبه، رفضت هي مقابلته.
يبدأ حزمته ب «لحظات لم تكن عابرة»، وهنا تبدو سلطة الموقف الذي أثّر وما فتر، لم تختف سطوة اللحظة، تلوّح باستمرار تعبيرا عن فكرة في ومضة، سلطة يوجهها بشكل انسيابي، ساق فكرة الفحولة في تهافت انثوي في مدارين، أولهما: يمثل رغبة مطلقة، والثاني يسوقه بإطار مشترك، ونتيجة منسجمة جمعت طرفي القضية، ثم يتم القطع من جديد بفعل سلطة الغائب. يمارس القاص نوعا من التنظيم في لعب الأدوار، ولعل ثيمة السلطة أثرت في مسار القصة لتكون النتيجة اجتماع رتيب، والدليل أن القصة الثانية بدأت بعنوان أثرت فيه سلطة مجهولة «شجرة مقطوعة»، القطع حاصل والسلطة مجهولة.
شجرة مقطوعة، قطعت الشجرة الكبيرة القابعة أمام منزله، بدأ الاختبار توقف المطر، اشترى قدرا، أصابه أرق، نظرت إلى صورته في العرض بنت الجيران، همست إليه برسالة واتسابية؛ هل تقترب مني؟ أظهر لها غضبه، فأرادت أن تعتذر فكتبت له: هل تتزوجني؟
تتجلى سلطة أخرى هي سلطة الرغبة أملا في صلة جديدة، لكن يختفي وراء النص البعد الفحولي الذي يمارس سلطته على الأنثى بوصفها من جديد تستجدي، «همست إليه برسالة واتسابية، هل تقترب مني؟ أظهر لها غضبه، فأرادت أن تعتذر فكتبت له: هل تتزوجني؟»، ينتقل البطران في القصة الثالثة إلى سلطة اللاوعي التي يحاول فيها إثبات الحاجة الملحة للعنصر الجندري المضاد، ليجعلها في صورة قارورة» قارورة واحدة لا تكفي»، ويبرز نوعا من سلطة الثورة التي التفتت إليها شخصية الانثى في قصة «غبار مقدس»، وصل فيها إلى قناعة داخلية من التقديس للمرأة، بدءا باستفهام وانتهاء بثورة على الحالة المقابلة لها، أخيرا أبدت رأيها.
قارورة واحدة لا تكفي تشتري ثلاث قارورات، تحتفظ بواحدة وتكسر قارورتين. تستحم في حمام دافئ.. وتصرخ بصوت عال: قارورة واحدة لا تكفي.!
إن محاولة قراءة المسكوت عنه، يقف بنا على السلطة التي تحاور الموقف الأيديولوجي للشخصية، حيث تسيطر سلطة اللاوعي على الشخصية، وبين قصة إلى أخرى تتنامى لتصل إلى سلطة فسيولوجية، وسلطة مكانية وسياسية واقتصادية محكومة بالدافعية، والذاتية، والخوف من المجهول. استفهام حول أي السلطات هي الأقوى في النص القصصي، سلطة الجسد البيولوجي، أم السيكولوجي؟ سلطة الفحولة النسقية أم سلطة الموقف؟ عندها نقف عند فكرة جديدة، هي أن البطران يحاول إحداث نوع من التوازن بين البيولوجي على مستوى أول، ثم يطالعه ببعد آخر تسيطر عليه قوانين المجتمع، تجعل التصريح غير مقبول، لأن هناك مانعا سياسيا وآخر دينيا أو مرتبطا بالحياة بأشكالها.
إن الشيفرة التي تربط الحزمة تتوضح في كون الثبات أمر لا جدوى منه، فالمرء يتغير بفعل أشياء متعددة، وما كان اختياره لربع من الدائرة عبثا، بل إن الربع يشير إلى حالة من عدم التوازن، والدعامة الأولى تبدأ بالربع لكنها ما اكتملت، ما أتمت دورة ولا تكررت، وقد يشي ذلك بالموقف الفكري للكاتب في نطاق المعنى والشكل، والنوع، فالدائرة لسبب ما لم تكتمل وهذا مرتبط بإقصاء ثلاثة أرباع من الدائرة، مقابل ربع واحد، فوقف البطران بين السلطة أو القداسة، في حالة من الصراع، بين ما هو كائن مفروض وما هو مرغوب.