احترام التنوع الاجتماعي والوحدة الوطنية
نحن بحاجة لأن ننصت إلى الأصوات المعتدلة من الجانبين ونتجاهل كل الأصوات المتطرفة سواء من السنة أو الشيعة..
ثمة حقيقة سياسية وثقافية واجتماعية، تحكم استقرار البلدان الإسلامية.. وإن أي خلل في هذه الحقيقة ينعكس سلبا على استقرار أغلب البلدان الإسلامية.. وهذه الحقيقة هي العلاقات الحسنة بين السنة والشيعة في العالمين العربي والإسلامي.. وإن تراجع هذه العلاقة أو دخولها في صدام أو صراع، فإن هذا الصراع يتحول إلى تهديد مباشر للاستقرار السياسي والاجتماعي لأغلب البلدان العربية والإسلامية..
لذلك ثمة ضرورة مستديمة، لتطوير العلاقات الإسلامية - الإسلامية، ومعالجة بذور الأزمات التي تهدد العلاقة وتدخلها مرحلة التهديد المباشر لأمن واستقرار المجتمعات الإسلامية.. ولعلنا لا نبالغ حين القول إن سوء العلاقة بين الطرفين، لم يصل إلى مرحلة الصراع المفتوح على أكثر من مستوى بمثل لحظة الصراع الحالية التي تشهدها البلدان العربية والإسلامية اليوم..
وإن سكوت الجميع أو انخراط أغلب المؤسسات والفعاليات الإسلامية في تغذية كل عوامل الصدام والصراع ينذر بكوارث حقيقية ستشهدها هذه المنطقة من جراء الصراعات الطائفية والمذهبية ودخولها مرحلة بدون أي جهد أو مبادرة إيجابية لضبط أو معالجة أسباب الصدام..
ولعل الخطير في مرحلة الصدام الطائفي والمذهبي الحالية، هو غياب الطرف الذي يعتني بدور الإصلاح لهذه العلاقة وإخراجها من مرحلة التوتر إلى مرحلة التوافق على مبادئ وأسس لا يمكن لأي طرف أن يتجاوزها أو يعبث بها..
ونود في هذا السياق أن نوضح رؤيتنا حول هذه المسألة من خلال النقاط التالية:
السنة في العالم الإسلامي هم أكثرية المسلمين ولهم حضورهم الإسلامي الواسع، وهم كمجتمع حقيقة تاريخية وثقافية واقتصادية ثابتة، لا يمكن للمنطقة العربية والإسلامية أن تعيش الاستقرار السياسي والاجتماعي بدونها، وهذه الحقيقة تعاني مشكلات كبرى في حاضرها أو مستقبلها..
والشيعة في المقابل هم كذلك، صحيح أنهم أقلية في العالم الإسلامي، ولكنهم أقلية فاعلة، وهم أيضا حقيقة تاريخية واجتماعية وثقافية، لا يمكن تجاوزها أو التغافل عنها..
وأمام هذه الحقائق الثابتة في فضاء الإسلام والمسلمين، نتمكن من القول: إن أية نزعة متطرفة واستئصالية في التعامل مع هذه الحقائق، مؤداها مراكمة مشكلات وأزمات العالم الإسلامي دون القدرة على إنهاء وجود وتأثير هذه الحقائق ذات الأبعاد المتعددة في العالم الإسلامي والعالم قاطبة.. من هنا فإن العلاقة بين المسلمين السنة مع المسلمين الشيعة، بحاجة إلى رؤية عميقة معتدلة، لا تلغي حقوق الأطراف، وإنما تعمل على معالجة أسباب التوتر والصدام، والعمل بعد ذلك على تعميق كل أسباب التفاهم والتلاقي بين المسلمين..
ونحسب أن جوهر حلف الفضول التاريخي الذي شارك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو ما تحتاجه العلاقة الإسلامية - الإسلامية..
فنحن جميعا سنة وشيعة، ينبغي لكل مؤسساتنا وفعالياتنا الدينية والاجتماعية والسياسية أن ترفض التعدي على بعضنا سواء التعدي المعنوي الذي يتعلق بمقدسات ورموز المسلمين أو التعدي المادي الذي يطال حياة واقتصاد واجتماع المسلمين المعاصرين..
وفي ذات الوقت إن حدوث مشكلة أو أزمة في العلاقة، ينبغي ألا يدفع الجميع إلى الاصطفافات الطائفية والمذهبية، وإنما من الضروري أن يدفعهم إلى إطفاء نار الفتنة ومعالجة كل أسباب وجذور الأزمة..
فالمظلوم ينبغي أن يدافع عنه سواء أكان سنيا أم شيعيا.. هذا ما يقتضيه حلف الفضول في صيغته التاريخية، وهذا ما يحتاجه المسلمون جميعا اليوم..
من العوامل العميقة التي توتر العلاقات الإسلامية - الإسلامية، وتُدخلها دائما في مرحلة الصدام الكامن أو المفتوح، هو أننا جميعا ننصت للمتطرفين من الجانبين.. فالسني حينما يريد الاقتراب من معالجة توترات العلاقات الإسلامية - الإسلامية، لا يجد أمامه إلا الأصوات الشيعية المتطرفة والرافضة لضبط العلاقة أو بناء أسس ومرتكزات للتفاهم والتلاقي..
وفي المقابل فإن الشيعي حينما يود الانخراط في مشروع الإصلاح والمصالحة للعلاقات الإسلامية - الإسلامية، فإنه لا يسمع إلا الأصوات المتطرفة وهي التي تضغط نفسيا واجتماعيا لتوتير العلاقة بين المسلمين.
وفي هذا السياق نقول: إن أمام هذه الأصوات المتطرفة سواء من السنة أو الشيعة، يهمها تخريب العلاقة وإبقاؤها متوترة دائما.. وإن الإنصات إليهم سيجعل العلاقات الإسلامية - الإسلامية رهن إرادتهم ومقولاتهم المتطرفة.. ويقابل هؤلاء مئات الأصوات من المعتدلين والباحثين عن الإنصاف ومعالجة كل عناصر التوتر في العلاقات الإسلامية - الإسلامية..
نحن بحاجة لأن ننصت إلى الأصوات المعتدلة من الجانبين ونتجاهل كل الأصوات المتطرفة سواء من السنة أو الشيعة..
أما الخضوع لأجندات المتطرفين من كلا الجانبين، فإنه سيُدخل العلاقة في مرحلة اللا عودة، ويؤسس إلى حروب طائفية مستديمة..
على المستوى الفعلي اليوم، لا يمكننا جميعا من تقديم حلول عملية لكل عناصر وأطراف الصدام الطائفي والمذهبي على مستوى العالم الإسلامي.. لذلك فإننا اليوم ينبغي أن ننطلق جميعا على مستوى أوطاننا، من أجل معالجة كل عناصر التوتر للعلاقات الإسلامية - الإسلامية في السياق الوطني..
وهذا يتطلب منا التوافق على أن الجميع لا يتحملون مسؤولية التطرف والصدام خارج حدود الوطن، تزعجهم كل التوترات والإساءات من كل البلدان الإسلامية، ولكن الجميع لا يتحملون مسؤولية هذه الإساءات..
فالمطلوب تجنيب الوطن من أقصاه إلى أقصاه مسؤولية ما يجري في العالم الإسلامي من توترات وصدامات طائفية أو مذهبية..
يؤلمنا ما يجري في كل بؤر التوتر من إساءات، ولكن ليس أهل وطننا من هذا الطرف أو ذاك من يتحمل مسؤولية هذه الإساءات.. وبعد عملية تحييد الوطن وأهله من هذه التوترات نقترب من معالجة وتطوير العلاقات الإسلامية - الإسلامية..
بمعنى أن أفضل عمل نقوم به على هذا الصعيد، هو بناء نموذج واضح وساطع للعلاقات الإسلامية - الإسلامية الإيجابية والبعيدة عن كل نقاط التوتر والصدام..
في ظل التطورات الخطيرة والمتسارعة التي تمر بها المنطقة، تتأكد على مستوى الوطن العربي كله أهمية تمتين الجبهة الداخلية ورص الصفوف وتقوية أسباب الوحدة الوطنية، إذ إن من الخيارات الحيوية التي نستطيع من خلالها مجابهة التحديات والاستجابة الواعية لها، هو خيار تأكيد وتعميق الوحدة الوطنية.
وأن الخطوة الأولى الضرورية في هذا السياق، هي أن نتخلى عن لغة الشعارات الفضفاضة التي لا مضمون لها، وأن نتجاوز كل الخطابات الإطلاقية أو الكلامية، التي ترى الوحدة بمنظور شوفيني، لهذا فإن مفهوم الوحدة بحاجة إلى أن ينفتح ويتواصل مع كل التجارب الوحدوية والتوافقية، التي استطاعت أن تؤسس لذات وطنية قوية، قوامها المزيد من الاحترام الوجودي والمؤسسي لكل التعبيرات السياسية والثقافية ومكونات المجتمع.
والقواسم المشتركة المجردة لوحدها لا تصنع وحدة، وإنما هي بحاجة دائما إلى تفعيل وتنمية، وحقائق وحدوية، ومصالح متداخلة، حتى تمارس هذه القواسم دورها ووظيفتها في إرساء دعائم الوحدة وتوطيد أركان التوافق.
فالوحدة الحقيقية والصلبة لكل وطن عربي، لا يمكن أن تعيش إلا في ظل الحوار المشروع، لأنه يغني مفهوم الوحدة ويمده بأسباب الحيوية والفعالية، ويؤسس لوقائع وحقائق جديدة تحول دون تقهقر المفهوم الوحدوي على مستوى الواقع.
ومن الأهمية بمكان أن ندرك، أن وحدة مصادر العقيدة والأحكام، لم تلغ الاختلافات بين المسلمين، وذلك لاختلافهم في مناهج النظر والاستنباط. وفي هذا التعدد والتنوع في مناهج النظر إثراء للمسلمين في مختلف الجوانب، ولا ضرر نوعيا لهذا التنوع على المستوى النظري أو العملي ولكن الضير كل الضير، حينما يفضي الاختلاف خلافا وقطيعة وخروجا عن كل مقتضيات الأخوة الدينية والوطنية، وسيادة هوس التعصب الأعمى، قال تعالى ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ﴿«الأنفال الآية 46».
والإنسان الذي يعيش الوحدة هو الذي يحترم خصوصية صاحبه كما يريد من صاحبه أن يحترم خصوصيته. عندما تكون وحدويا، فإن عليك أن تفتح المجال لتحمي حرية صاحبك بأن يقول ما شاء، تحميه من كل عواطفك وانفعالاتك، تحميه من كل ذلك وتقاتل في سبيل حريته.
لذلك فإن الوحدة الوطنية الصلبة، هي التي تبدأ من الاعتراف بالآخر وجودا وفكرا، لا للانحباس المتبادل، وإنما لانطلاق فعل تواصلي حواري، ينمي المشتركات، ويسعى نحو مراكمة مستوى الفهم والاعتراف.
فالمطلوب دائما أن ننفتح على مساحات الاختلاف ونتواصل مع المختلفين، من أجل استنبات مفاهيم وقيم جديدة، تزيد من فرص تقدمنا، وتحررنا من آليات العجز، وتجعلنا نقتحم آفاقا جديدة، تحملنا على نسج علاقة جديدة مع مفهوم الوحدة والتوافق الداخلي.
ومن الضروري أن يتحول التطلع إلى المزيد من رص الصفوف وتجذير أسباب الوحدة الوطنية، إلى فعالية مجتمعية لصد المعوقات، وإزالة الرواسب، وخلق الوقائع واجتراح السبل، وإنجاح الظروف الذاتية والموضوعية للإنجاز الوطني المستديم.
وإن المنطقة تمر هذه الأيام بظروف حساسة وتطورات خطيرة على مختلف المستويات، وإننا بحاجة في هذه الحقبة الراهنة الحساسة، إلى أن نؤكد على قيمة الوحدة الوطنية، إذ إن جميع الاعتبارات تدفعنا إلى تجاوز كل ما يحول دون عملية تجذير هذه الحقيقة الوحدوية في واقعنا المجتمعي، وأن نخلق المبادرات الوطنية النوعية التي تزيد وتطور مستوى الانفتاح والتلاحم بين القيادة والشعب. وإننا في هذه اللحظة التاريخية، نهيب بجميع مكونات المجتمع الوطني، إلى ضرورة الانفتاح والتواصل مع بعضهم، ذلك من أجل تمتين الجبهة الداخلية وتعميق خيار التوافق وتجذير أسباب الوئام والالتحام الوطني.. فلتتحول كل الجهود والطاقات صوب فريضة الوحدة والوطنية، وذلك من أجل حمايتها وتطويرها. وستبقى الوحدة الوطنية المستندة إلى قيم العدالة والتسامح، هي الأرض الصلبة التي تتكسر على مشارفها كل مؤامرات الأجنبي ومخططات أعداء الأمة التاريخيين. ولعل من الأهمية بمكان في إطار التأكيد على فريضة الوحدة الوطنية في هذه الفترة الحساسة أن نؤكد على الأمور التالية:
أن تمتين الوحدة الوطنية، يحتاج إلى جهود وطاقات كل مواطن. حيث أن كل مواطن في هذا الوطن العزيز يتحمل مسؤوليته من موقعه الوظيفي أو العملي أو الاجتماعي في تعزيز أواصر الوحدة الوطنية.
ان التطورات التي تعيشها المنطقة تلزمنا جميعا بالقيام بمبادرات وطنية تزيد من أسباب التفاهم والتلاقي بين مختلف مكونات المجتمع الوطني... وتستهدف هذه المبادرات تأكيد توقيف ثوابت الوطن والمجتمع وتأكيدها في مختلف مجالات الحياة والوطنية.
وإن الاختلافات الدينية والمذهبية والقومية والعرقية، ليست مبررا نهائيا للعداوة والخصومة بين أبناء الوطن الواحد.. فليس عيبا أن تتعدد قناعاتنا، ولكن العيب كل العيب، حينما لا نتمكن من صياغة رؤية وطنية متكاملة لإدارة تعدديتنا بصورة تضمن احترام الخصوصيات وفي ذات الوقت تقبض على كل أسباب القوة والمنعة والانسجام الوطني الداخلي..
فالأوطان لا تبنى بالاتهام والاتهام المضاد، ولا بإطلاق الأحكام الشوفينية المطلقة، وإنما تبنى الأوطان بمشروعات التفاهم واللقاء والتواصل بين مختلف التعبيرات والمكونات..
وعليه فإن كل جهد أو خطوة تستهدف خلق الخصومة بين أبناء الوطن الواحد، هي خطوة مضادة لحقيقة الوحدة الوطنية، ومتطلباتها السياسية والاجتماعية..
فالمطلوب منا جميعا ومن مختلف مواقعنا، العمل على تطوير التفاهم والتلاقي بين مختلف المكونات، والسعي المستديم لتذليل العقبات ومعالجة المشاكل التي تحول دون تطوير مستوى الانسجام الداخلي بين مكونات المجتمع والوطن الواحد..
ان ارقى علاقة تربط مواطنا بوطنه هي علاقة الإضافة إلى مكاسب ومنجزات الوطن مكاسب ومنجزات جديدة. لذلك فإن التشبث بمفهوم الوحدة الوطنية يتجلى في ضرورة إسهام كل مواطن في مضمار البناء والتقدم. وذلك من أجل تمتين الوحدة الوطنية بالمزيد من المكاسب والمنجزات على مختلف مستويات الحياة.
يبدو من خلال معطيات عديدة، أن ظاهرة الانقسام في مجتمعاتنا العربية والإسلامية تحت يافطات وعناوين دينية ومذهبية وقومية، ظاهرة حقيقية، وتتطلب معالجة واعية وموضوعية وتاريخية.. ولقد كان العالم الفرنسي «جاك بيرك» واعيا لظاهرة التصدع والتنازع التي تشق الاجتماع السياسي العربي والإسلامي الحديث من خلال لفت الانتباه إلى وجود ما سماه ب «وتائير سير» واستراتيجيات حراك متعارضة ومتضاربة في المجتمع العربي الواحد، بما يصح معه القول بوجود مجتمعين متقابلين ومتصادمين في المجتمع الواحد..
الاستقرار السياسي العميق، هو الشرط الشارط لأي عملية تنموية أو تطويرية لكل المؤسسات والهياكل الإدارية والسياسية. وان التعامل الحكيم في التعامل مع حقائق التنوع الاجتماعي، يقتضي التفكير بطريقة ليست ضيقة أو منحبسة في أطر واعتبارات ما دون الوطنية؛ لأن هذه الأطر الضيقة، ستنتج بطبعها خيارات ضيقة
وتأسيساً على هذه الحقيقة فإننا نستطيع القول: إن الدولة العربية - الإسلامية المعاصرة هي القادرة وحدها بما تمتلك من إمكانات وقدرات وسياسات، من معالجة كل التداعيات السلبية من جراء وجود حالة من التعدديات والتنوعات في المجتمع والوطن الواحد.
ولا يمكن أن نتجاوز تشظّيات الاجتماع العربي - الإسلامي المعاصر، إلا بخيار الدولة الحاضنة للجميع والمعبرة عن جميع التعبيرات والمكونات، ومتجاوزة في آن انقسامات المجتمع وتشظياته الأفقية والعمودية..
وفي تقديرنا أن هذا الأمر يتطلب الاهتمام بالنقاط التالية:
ضرورة أن تكون مؤسسة الدولة متعالية على انقسامات المجتمع، ولا تكون جزءاً منها..
ألا يكون الانتماء الديني أو المذهبي أو القبلي هو قاعدة التعامل، وإنما تكون قيمة المواطنة بكل حمولتها القانونية والدستورية هي وحدها قاعدة التعامل في مختلف دوائر الحياة. فالمواطنة بصرف النظر عن المنابت الأيدلوجية للمواطنين، هي التي تحدد نظام الحقوق والواجبات..
المطلوب دائما وبالذات في الدول التي تحكم مجتمعات مختلطة ومتعددة، هو صيانة التعدد على مستوى الأمة والمجتمع، وبناء مجتمع سياسي موحد بعيدا عن نزعات المحاصصة..
لأننا نعتقد أن بناء الدولة على قاعدة المحاصصة الطائفية أو المذهبية، يديم الانقسامات، ويحيي التوترات مع كل حدث أو تطور سياسي..
لهذا فنحن مع احترام تام لكل مقتضيات التعددية على مستوى الاجتماع، أما على مستوى الدولة فإننا بحاجة إلى مجتمع سياسي موحد.. بحيث تكون الكفاءة هي جسر العبور الوحيد إلى مواقع الدولة الأساسية.. وفي هذا السياق نعتبر أن نظام المحاصصة الطائفية التي عملت الولايات المتحدة الأميركية في العراق على تنفيذه وتطبيقه، من أرذل الأنظمة التي شوهت النسيج الاجتماعي العراقي، وأدخلت العلاقات الداخلية بين مختلف المكونات والتعبيرات العراقية، في محنة شديدة مازال الواقع العراقي يدفع ثمنها على مختلف المستويات.
ضرورة العمل على بناء مؤسسات للمجتمع المدني، عابرة للمناطق والأديان والمذاهب والقبائل.
وإذا لم تتمكن شعوبنا من بناء مؤسسات مدنية وطنية جامعة لكل التعدديات، فإن هذه الأزمات ستستمر ولن نتمكن من الخروج من مآزق الراهن.
فالطريق للخروج من كل التداعيات السلبية والخطيرة، التي تعيشها أغلب المجتمعات العربية والإسلامية اليوم، في وقف حالة الانحدار والتشظي المذهبي والجهوي، وإعادة الاعتبار لكل عناصر الوحدة والائتلاف الاجتماعي والوطني.
وان الاستقرار السياسي العميق، هو الشرط الشارط لأي عملية تنموية أو تطويرية لكل المؤسسات والهياكل الإدارية والسياسية. وان التعامل الحكيم في التعامل مع حقائق التنوع الاجتماعي، يقتضي التفكير بطريقة ليست ضيقة أو منحبسة في أطر واعتبارات ما دون الوطنية؛ لأن هذه الأطر الضيقة، ستنتج بطبعها خيارات ضيقة، لا تنفع حقائق التنوع الاجتماعي، وتضر في ذات الوقت بحقيقة الوحدة الوطنية والاجتماعية.
وفي تقديرنا أن أي خيار لا يساهم في تعزيز الوحدة الداخلية لمجتمعاتنا المتنوعة، هي خيارات مضرة للراهن والمستقبل معا. وعليه فإننا نرى أهمية معالجة كل مشكلات التنوع الاجتماعي، ولكن على قاعدة الوحدة الاجتماعية والوطنية. وأن أي محاولة لمعالجة مشكلات هذه الحقائق، وتفضي إلى خلق حالة من الإرباك الاجتماعي والسياسي، فإنها على الصعيد الواقعي، لن تعالج هذه المشكلات، وستضيف لها حساسيات ومشكلات جديدة من جراء التعامل الخاطئ مع حقائق التنوع الاجتماعي. ولبناء المعادلة الصائبة، بين عدم التغافل عن المشكلات، وفي ذات الوقت عدم الإضرار بحقائق الوحدة الوطنية والاجتماعية. نقترح الالتفات إلى الأفكار التالية:
1 - ضرورة وجود منظومة قانونية، تعتبر الانتماء الوطني والمواطنة، هما الحقائق الثابتة التي تحدد قواعد المعالجة لأي مشكلة سواء أكانت إدارية أم ثقافية أم سياسية.
2 - إن معالجة أي مشكلة في الإطار الوطني، تساهم على المستوى الفعلي في تعزيز حقائق الوحدة الوطنية والاجتماعية. ونعتقد في هذا الإطار أن التغافل عن المشكلات، هو الذي يضر عبر متواليات عديدة بمستوى الاستقرار الداخلي والانسجام الاجتماعي.
3 - العمل على زيادة وتيرة التواصل الاجتماعي، وتشجيع كل المبادرات التي تستهدف تعزيز حالة الإخاء الوطني. لان حالة الجفاء والتباعد النفسي والاجتماعي، هي التي تضر بالوحدة. وان التواصل الاجتماعي بكل مستوياته، هو الذي يعزز خيار الوحدة، ويعمق مستوى التفاهم بين جميع المكونات والأطياف.
الوحدة الوطنية لا تأتي عبر إلغاء الحقائق التاريخية والاجتماعية والثقافية، وإنما عبر احترام هذه الحقائق، والعمل على تهيئة الظروف الموضوعية التي تؤهل تلك الحقائق إلى إبراز مضمونها الوحدوي والتعايشي.
من البدهي القول إن الوحدة الوطنية من الثوابت الأساس التي ينبغي أن نحافظ عليها، ونعمل كل من موقعه ومسؤوليته على حمايتها وتوفير أسباب قوتها وديمومتها. وإن التنوعات التاريخية والحديثة بما تمتلك من عمق تاريخي واجتماعي، هي أحد الروافد الأساس التي تثري مفهوم الوحدة وحقائقها في الإطار الوطني.
ولا ريب أن المبادرة الرائدة التي أطلقها صاحب السمو الملكي ولي العهد تحت عنوان اللقاء الوطني للحوار الفكري، هي من الأطر والأوعية المهمة التي ينبغي أن تستمر وتتواصل وتتطور في حواراتها وتعارفها الفكري والاجتماعي لبلورة الرؤية والسلوك الاجتماعي وإنضاجها اللذين يتعاملان مع حقائق التعدد والتنوع بحسبانهما من روافد إثراء الوحدة الوطنية وإغنائها بالكثير من الحقائق والآفاق التي تزيد من صلابة وحدتنا الوطنية، وتوفر لنا جميعاً ممكنات جديدة على مختلف الصعد، نتجاوز من خلالها الكثير من المخاطر والتحديات.
ويرتكب حماقة بحق تاريخه ومجتمعه ووطنه، ذلك الإنسان الذي يعتقد أن التنوعات التاريخية ليست هويات مثمرة، وإن التمسك بها يعد تفريطاً بالمكاسب الأيدولوجية والسياسة المعاصرة. وذلك لأن التجربة التاريخية وواقع الحال أثبتا أن التنوعات التاريخية المتوافرة في مجتمعنا إذا أحسن التعامل معها، وتبلورت الرؤية الوطنية للاستفادة من حالة التنوع والتعدد، فإن هذه التنوعات من الهويات المثمرة، التي تساهم بشكل نوعي في حماية الوطن ومكاسبه، والدفاع عن عزته وثوابته أمام مخاطر الداخل والخارج. والمبادرة الوطنية التي استهدفت توفير مناخ مفتوح من الحوار والتواصل بين مختلف المذاهب والتعبيرات المتوافرة في مجتمعنا، جاءت لتؤكد أهمية أن يتصالح المجتمع مع نفسه، بطريقة سلمية وحضارية، تتجسد في نظام أخلاقي معاش على أرضية الواقع. وتعلن بصوت عال وعقل ناضج، ضرورة أن نتجاوز معاناتنا الطويلة، بالوعي الكامل لتحديات راهننا، وآمال مستقبلنا. فالسلم الأهلي والتلاحم الوطني جهد متواصل يشترك الجميع في صنعه، وعلى تطوره واستمراريته.
وتاريخنا لم تكن الوحدة التي صنعها العرب والمسلمون، تعني التوحيد القسري ونبذ أشكال التنوع والتعدد. وإنما المسلمون صنعوا وحدة قائمة على احترام التنوع وخصائص التعدد الفقهي والاجتماعي والثقافي.
فطريق الوحدة في التجربة العربية والإسلامية، يأتي عن طريق احترام حقائق التنوع، لأن التعدد والتنوع ليسا حالات أو وقائع مضادة للمنظور الوحدوي، بل هما عناصر تثري مفهوم الوحدة، وتزيد مضمونه حيوية وفاعلية.
أما الضوابط المنهجية التي تجعل التعدد والتنوع، طريقاً موصلاً إلى وحدة قوية وصلبة، فيمكننا اختصارها في المقولة التالية: إن الاختلاف بين البشر، على مستوي الأفكار والتصورات، ليس حالة سلبية، بل هو جزء من الناموس الكوني العام. فما دام الإنسان يحمل عقلاً وقدرة على التفكير، فإنه قابل لإنتاج فكرة أو تصور مغاير للفكرة أو التصور الذي أنتجه الإنسان الآخر. وبالتالي فإن اختلاف بني البشر في التصورات والأفكار مسألة طبيعية وبدهية. إلا أن اللاطبيعي هو أن تتحول اختلافات البشر الطبيعية، إلى خلافات وصراعات وأزمات يضعها الإنسان تجاه أخيه الإنسان. لهذا فإن المنهجية السليمة هي إثبات التنوع واحترامه، هي سبيل الوحدة الطبيعي. أن ننظم اختلافاتنا وتنوعنا، ونوجد لأنفسنا أفراداً ومجتمعات، الأطر والقنوات الصالحة لإدارة اختلافاتنا وتغاير وجهات نظرنا. وبالتالي فإن العمل على قسر الناس على قالب فكري واحد، لا يؤدي إلا إلى المزيد من تمسك أولئك النفر بخصائصهم ونقاط تنوعهم، مع ضياع البناء القوي للمجتمع الواحد.
بينما احترام قناعات الآخرين ونظراتهم الثقافية، يجعل هذه القناعات والنظرات، رافداً أساس من روافد البناء الوحدوي السليم.
وعليه فإن التضامن الاجتماعي والوحدة الوطنية، لا تتحقق بنفي التعدد المتوافر في المجتمع، وإنما باحترامه وتوفير المتطلبات المجتمعية التي تعطيه الفرصة للتعبير عن هذا التعدد بصورة إيجابية وحسنة.
والوحدة الوطنية، لا تعني تطابق أبناء الوطن في وجهات نظرهم المختلفة. لأن هذا التطابق لا يتحقق إلا بالقسر والعنف. وكل شيء يوجد بالقسر فمآله إلى زوال وتأثيراته عكسية. بمعنى أن القسر يؤدي إلى التشرذم والتفتت، حتى ولو كان ظاهر الحال هو الوحدة والائتلاف.
فالوحدة الوطنية لا تأتي عبر إلغاء الحقائق التاريخية والاجتماعية والثقافية، وإنما عبر احترام هذه الحقائق، والعمل على تهيئة الظروف الموضوعية التي تؤهل تلك الحقائق إلى إبراز مضمونها الوحدوي والتعايشي.
والاحترام هنا لا يعني الإشادة بذلك التنوع الاجتماعي في خطبة تقال أو مقال يكتب أو تصريح يذاع، وإنما هو سلوك فعلي، يشكل كل مناحي الحياة، بحيث أن لا تكون هذه الحقائق حائلا دون تحقيق عناصر المواطنية الكاملة للإنسان. فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما أسس دولته في المدينة المنورة، لم يلغ التنوعات القبلية والاجتماعية المتوافرة في المجتمع آنذاك. وإنما أرسى قواعد قانونية ودستورية، تنظم علاقات هذه التنوعات ومصالحها، بشكل يؤدي إلى التلاحم والتراص الاجتماعي. ولعل في مشروع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إشارة إلى هذا النهج النبوي الكريم.
ولابد من القول في هذا الإطار إن الانتماء إلى تلك الحقائق التاريخية، لا ينافي الانتماء إلى الوطن، أو يعرض الوحدة الوطنية إلى التشتت والتفتت. وإنما هو انتماء، يشبع حاجة نفسية ضرورية للإنسان، تزيد من فعله الإيجابي، وتعمق صنع الخير في سلوكه ومواقفه. لذلك فلا تعارض بين انتماء المرء إلى الحقائق التاريخية، والانتماء إلى الوطن المعاصر. لأن الحقائق التاريخية ليست بديلاً عن الوطن، كما أن الانتماء إلى الوطن لا يأخذ أبعاده الإيجابية، إلا إذا كان متسقاً مع سياق الحقائق التاريخية للإنسان.. والفطرة الإنسانية «على حد تعبير الدكتور محمد عمارة» تشهد على أن للإنسان منا ولاء وانتماء إلى الأهل. بمعنى الأسرة والعشيرة. وإلى الشعب في الوطن والإقليم الذي تربى فيه ونشأ. وإلى الأمة - الجماعة - التي يشترك معها في الاعتقاد الديني. ثم إلى الإنسانية التي خلقه الله وإياها من نفس واحدة.. تشهد الفطرة السليمة، لدى الإنسان السوي على ذلك. دونما تناقض أو تعارض بين هذه الدوائر في الولاء والانتماء. فهي أشبه ما تكون بدرجات سلم واحد، يفضي بعضها إلى بعض، ويدعم أحدهم الآخر، وبخاصة - بل بشرط - أن تخلوا مضامين مصطلحات دوائر الانتماء - وخصوصاً الوطنية والقومية - من المضامين العنصرية ونزعات الغلو في التعصب، التي تقطع الروابط بين هذه الدوائر للانتماء، طالما قام وربط بينها رابط الانتماء الأكبر وهو الانتماء إلى الإسلام.
من هنا يتضح المنظور الفعلي والجوهري لتحقيق الوحدة الوطنية عبر وحدة المواطنين. وبهذا تتحد وتتساوق مصلحة الوطن مع مصلحة المواطن. بحيث إن أي عمل يتجه إلى الإضرار بالمواطنين حاضراً ومستقبلاً، هو في حقيقة الأمر إضرار بالوطن، لأننا لا نتصور وطناً بلا مواطنين. ومن أجل هذا المنظور تتأكد ضرورة الإعلاء من شأن تلك الأخلاقية، التي تدفع باتجاه العيش المشترك على قاعدة احترام الخصوصيات والحقائق الاجتماعية المتعددة. ولا شك أن وجود حواجز نفسية وتاريخية وركام ثقافي وفكري مغاير لنهج السلم المجتمعي، يشكل عقبة أساس في وجه المشروع الوطني والاجتماعي الجديد. لذلك تتأكد ضرورة التجديد الاجتماعي، عن طريق تجديد المنظومة المعرفية والفكرية، التي تساهم في تشكيل النظام الاجتماعي. وذلك عن طريق تغيير الإنسان وإزالة ركان التخلف والانحطاط وغشاوة النظر عنه، وضبابية الرؤية التي تمنعانه من التفاعل المطلوب مع تلك القيم والمنظومة الفكرية الجديدة. حيث لو عاد إنساننا في وضوح رؤيته وصفاء سريرته ونقاء قلبه كما كان إنساننا بالأمس، لعملت تلك القيم عملها، ودفعت بهذا الإنسان إلى اقتحام الصعاب والمجهول من الأمور.
إن انهاء تأثير ركام سنين التخلف من حياة الإنسان، هو الخطوة الأولى لعملية التجديد المجتمعي المطلوبة. ومن ثم تنقية الفضاء المعرفي والفكري من الزوائد، التي عدت قسراً جزءاً من المنظومة المعرفية والفكرية، بمعنى أننا من الضروري، أن نفرق بين القيم الأساس التي ندفع الناس إلى التمسك بها، والتفاعل الإيجابي معها، وبين الأعراف والتقاليد والاجتهادات البشرية التي مهما رقت في مستواها، فإننا من الخطأ أن نجعلها في مصاف تلك القيم والمبادئ.. لهذا كله فإن التجديد المجتمعي المطلوب، لا يعني خلق منظومة عقدية جديدة. وإنما التجديد يعني: إزالة ركام التخلف والانحطاط من موقعين أساسين: موقع الإنسان المسلم الذي تأثر بشكل أو بآخر من عصور التخلف والانحطاط وموقع القيم التي شابها بعض الزوائد، فعُدت بعد مدة تاريخية جزءاً من القيم. إن تنقية هذه المواقع، تؤدي بنا إلى التفاعل مع منظومة عقدية - فكرية حية، قادرة على الرد على الحاجات الناجمة عن التطور الاجتماعي «الإنساني»، وتقديم الحلول الأصيلة لها.
وجماع القول إن اللقاء الوطني للحوار الفكري، هو خطوة رائدة ومبادرة شجاعة، تتطلع إلى إزالة كل عناصر سوء الفهم وتوطيد أسباب التعارف والاحترام المتبادلين بين مختلف مكونات المجتمع والوطن وتعبيراتهما. لذلك نتطلع إلى أن تسود الرؤى والأفكار والقناعات التي دفعت إلى عقد هذا اللقاء الوطني المهم، كل مرافق ومجالات حياتنا. حتى تتكثف أسباب الفهم والتفاهم، وتتعمق خيارات الوحدة والألفة على قاعدة احترام التنوعات والتعدديات، ومشاركة الجميع في تعزيز البناء والالتحام الوطني. وهذا بطبيعة الحال، يتطلب أن تتحول هذه المبادرة إلى مؤسسة وطنية دائمة، تحمل على عاتقها استمرار الانفتاح والتواصل بين مختلف تعبيرات الوطن التاريخية والحديثة، وتعميق خيار الحوار والتعايش السلمي في الفضاء الوطني، وتشجيع كل قطاعات الوطن ومؤسساته للمشاركة في هذا المشروع الحضاري الذي يعزز أمن الجميع واستقرارهم.
في البدء من الضروري أن نتساءل: كيف يتعمق خيار الوحدة الوطنية في مجتمع تتعدد فيه المذاهب والطوائف الإسلامية، وذلك لأنه في بعض الحقب التاريخية من تاريخنا العربي والإسلامي، ولعوامل سياسية - اجتماعية عديدة، تحول هذا التعدد المذهبي إلى حالة من الصراع المفتوح، التي استخدمت فيه جميع الأسلحة، بهدف قضاء كل طرف على الآخر.
ولا ريب أن التخلف كنمط عقلي وسلوكي، هو الذي يهيئ جميع الظروف، لاستتبات هذه الصراعات، وتجذير هذه التوترات في الساحة الاجتماعية. حيث إننا حينما نقرأ التجربة العربية والإسلامية من منظور سيسيولوجي، نكتشف أنه في زمن هيمنة التخلف وسيطرة عقلية الانحطاط، تسود وتبرز الصراعات المذهبية والطائفية، وتعود الانقسامات التاريخية إلى السطح. أما حينما يكون العرب والمسلمون في حالة اجتماعية وحضارية متقدمة، تتراجع الانقسامات التاريخية إلى الوراء، ولا يكون لها مفعول مباشر في الحدث الاجتماعي والسياسي.
وهذا يجعلنا نقرر حقيقة أساسية وهي: أن الأرضية الحقيقية للانقسامات المذهبية التاريخية ودورها التمزيقي في الوطن والأمة، ليست في وجود مدارس فقهية وفكرية متعددة في الفضاء المعرفي والاجتماعي الإسلامي، وإنما التخلف بآلياته ومنتوجاته الاجتماعية والفكرية، هو الذي يشكل الأرض الخصبة لنمو هذه الانقسامات، وتمزيق أواصر الوحدة الإسلامية والوطنية.
لهذا فإننا نرى أن وجود مدارس فقهية ومذهبية متعددة في التجربة العربية والإسلامية سلاح ذو حدين.. فحينما يكون وضعنا السياسي والاجتماعي، يقع تحت تأثير نمط التخلف والانحطاط، فإننا ننظر إلى هذا التعدد في الاجتهادات الفقهية والفكرية كأحد العوامل الأساسية لواقع التقسيم والتجزئة الذي يعيشه عالمنا العربي والإسلامي. وفي المقابل إذا كان وضعنا السياسي والاجتماعي سليما، فإننا ننظر إلى هذا التعدد باعتباره ثروة ودليل حيوية الحياة العربية والإسلامية، التي استطاعت أن تنتج مثل هذه الأفكار، وتنجب مثل هؤلاء العباقرة والعلماء الأفذاذ.
لهذا فإن مربط الفرس في هذه المسألة، هو في طبيعة العقل والفكر السائد في المجتمع، الذي يحدد الموقف من واقع التعدد المذهبي والفكري. وبهذا يمكننا القول ان وجود الاجتهادات التاريخية المختلفة في التجربة العربية والإسلامية، بإمكاننا أن نجعله وسيلة فعالة من وسائل التأصيل لواقع التعدد والاختلاف في واقعنا العربي والإسلامي المعاصر.
كما بإمكاننا أن نجعله وسيلة تدميرية لكل القواسم المشتركة التي تجمع أبناء الوطن والأمة الواحدة.
وعليه فإن مهمتنا اليوم، ليس الانحباس والتقوقع في تلك الانقسامات التاريخية وإنما مهمتنا الأساس تتجسد في بلورة الوعي الحضاري لدينا تجاه تلك الاجتهادات الفقهية والفكرية.. حتى لا تكون عاملا سيئا في واقعنا المعاصر.
فلا يمكننا أن نرجع عقارب الساعة إلى الوراء، ونصيغ أحداث التاريخ وفق ما نشتهي ونريد، وإنما الشيء الذي نقدر عليه، ويفيدنا في حاضرنا، هو النظر إلى التاريخ باجتهاداته المختلفة، ومدارسه المتعددة، وأحداثه المضطربة نظرة حضارية.
والنظرة الحضارية إلى الواقع التاريخي تعني:
أن واقع الناس هو وليد كسبهم ونشاطهم، ولا يمكننا نحن اليوم أن ننزوي عن حاضرنا أو نبتعد عن مسؤولياتنا الوطنية والحضارية. ونلجأ نفسيا وعمليا إلى أمجاد الماضي، ونعيش أحلامه وأحداثه، وإنما من الضروري التفكير الجدي من أجل أن نكون الامتداد الحضاري لذلك الكسب التاريخي.
فالوعي الحضاري هو الذي يوقف زحف العصبيات التاريخية، ويمنعها من التشكل والتجسيد الاجتماعي العصبوي المغلق.. وإنما يستفيد منها في إثراء مفهوم الوحدة الوطنية، القائمة على التنوع الطبيعي والتاريخي.
وإن النواة الأولى لتعميق خيار الوحدة الوطنية في مجتمع إرثه التاريخي متعدد، هو تعميق الوحدة الشعورية لدى أبناء الوطن الواحد.. حيث ان وحدة الشعور هي المقدمة الطبيعية للوحدة العملية والاجتماعية.. لهذا ينبغي الاهتمام الجاد بمسائل احترام شعور الآخرين، وعدم العمل على استفزازهم والاستهزاء بمشاعرهم. لأن هذا الاستفزاز والاستهزاء هو الذي يؤلب النفوس، ويعمق الأحقاد، ويبني حواجز سميكة تمنع التلاقي والتعايش المشترك.
لهذا فإن واجبنا جميعا، هو العمل على تعميق وحدة الشعور الوطني، بحيث لا تكون التنوعات المذهبية حائلا دون وحدة الشعور الوطني. فالوحدة الوطنية لا تتأتى عبر إلغاء الحقائق المذهبية والاجتماعية، وإنما عبر احترام تلك الحقائق، والعمل على تهيئة الظروف الموضوعية التي تؤهل تلك الحقائق إلى إبراز مضمونها الوحدوي والتعايشي.
من هنا فإننا جميعا بحاجة أن نتعامل مع مبادرة صاحب السمو الملكي ولي العهد حول حوار المذاهب الإسلامية، باعتبارها من المبادرات الحيوية التي تزيدنا قوة، وتمنع كل المحاولات الحاقدة التي تسعى إلى دق إسفين بين مكونات مجتمعنا وأمتنا. وفي هذا السياق من الأهمية بمكان التأكيد على العناصر التالية:
1 - إن تمتين أواصر الوحدة الوطنية، بحاجة إلى الانفتاح والتواصل النوعي من مختلف المدارس والمذاهب الإسلامية المتوفرة في مجتمعنا، وذلك لإثراء واقعنا وتطوير وحدتنا وإنجاز فرادتنا في البناء والتطوير.
2 - إن الحوار والتواصل بين مختلف المدارس الفقهية والمذهبية في الدائرة الوطنية، بحاجة إلى تشكيل مناهجنا التربوية والتعليمية على قاعدة هذه الضرورة والمنهجية. إذ اننا ندعو على المستوى المنهجي والتربوي الانفتاح على كل الاجتهادات والاستفادة من كل المنجزات المعرفية بصرف النظر عن منبتها المذهبي أو الفقهي. إننا نتطلع إلى ذلك اليوم الذي تسود فيه دراسات الفقه المقارن في معاهدنا ومؤسساتنا العلمية والتربوية.
3 - إن الحوارات المذهبية لا تستهدف المماحكة الأيدلوجية والمذهبية والدخول في متاهات التاريخ ودهاليزه، وإنما من أجل توفير مناخ ملائم من التفاهم المتبادل وتوسيع المساحات المشتركة وتطوير أسباب الوئام والالتحام الوطني.
وهذا بطبيعة الحال لا يعني عدم التطرق والحديث في المسائل العلمية والفقهية والتاريخية محل الاختلاف والتباين. ولكن ما نريد قوله ان التطرق إلى هذه المسائل وغيرها، يتم على قاعدة الحوار العلمي - الموضوعي الذي يبتعد عن لغة السجال، ولا يتوخى إلا المزيد من المعرفة المتبادلة.
لذلك فإن العمل على تهيئة الأرضية النفسية والاجتماعية للقبول بالآخر المذهبي والفكري، هو الخطوة الأساسية التي توفر إمكانية فعلية لإدامة الحوار وبعده عن مواقع السجال التي توتر الأجواء ولا توصله إلى آفاق حقيقية ومفيدة.
وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال، عدم الشفافية في الحوار. وإنما نحن ضد التكلف في التواصل الحواري، لأنه لا يخلق الثقة المتبادلة، ولا يوصلنا إلى فهم مشترك.
إننا مع الصراحة والشفافية والحوار حول كل المسائل والقضايا بدون محذورات، إلا اننا في نفس الوقت نعتقد أن الوصول إلى هذا بحاجة إلى توفير مناخ نفسي - اجتماعي مؤاتي لذلك.
لأن هذا المناخ هو الذين يساعدنا على بلورة الشروط الثقافية والعملية لنجاح الحوار واستمراريته. هذا المناخ هو الذي ينزع من نفوسنا جميعا حالة التعصب الأعمى لذواتنا وآرائنا، ويجعلنا نبحث عن الأفضل والأحسن دائما.. إذ يقول تعالى ﴿وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا﴾.. ”الاسراء، الآية 53“.
وبهذا المنظور يخرج الحوار من دائرة المذهبية الضيقة، ونجعله منفتحا على كل قضايا الإسلام وقضايا الأمة في اللحظة الراهنة.
وعليه فإننا نتطلع إلى وحدة وطنية قائمة على أسس العدالة والمساواة. بحيث تشترك جميع مكونات وتعبيرات المجتمع في بناء الوحدة.
والحوارات المذهبية والوطنية، تفتح الطريق لكل الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لكي تشارك بمسؤولية في بناء الوطن وتعزيز وحدته الداخلية. فالحوارات بمختلف عناوينها ومستوياتها، هي من أجل إثراء مضمون الوحدة، وإخراج هذا المفهوم من الرؤية الشوفينية، التي لا ترى في الوحدة إلا التوحيد القسري للناس في قالب ورؤية واحدة.
إن هذه الرؤية الشوفينية، ومن منطلق التجارب السياسية والاجتماعية العديدة، لم تنتج إلا بالمزيد من التشظي والتفتت والتجزئة.
فالوحدة لا تبنى عبر دحر الخصوصيات وخنق التنوعات، وإنما عبر خلق المناخ السياسي والقانوني لكل الخصوصيات والتنوعات المتوفرة في المجتمع، لكي تمارس دورها ووظيفتها في بناء وحدة الوطن وتعزيز لحمته الداخلية. فالعلاقة جد عميقة وصميمية بين مفهوم الوحدة وبين احترام الخصوصيات والتنوعات وتهيئة المناخ السياسي والاجتماعي لمشاركتها في البناء والعمران.
وعليه فإن الوحدة بكل مستوياتهما، لا تبنى بثقافة الإقصاء والتهميش، كما أنها لا تتحقق بالتعصب الديني أو المذهبي أو القومي.. إن هذه العقلية وممارستها، تطرد من الواقع إمكانية الائتلاف والوحدة. وإذا أردنا الوحدة في مجتمعنا ووطنا، فعلينا نبذ ثقافة التهميش والتعصب، وبناء ثقافة الحوار والتسامح واحترام حقوق الإنسان. فهي طريقتنا لتوطيد العلاقة الحسنة والايجابية بين مكونات المجتمع والوطن، وهي سبيلنا لبناء واقع وحدوي على أسس حضارية وإنسانية دائمة.
لا يكفي أن نرفع الغطاء الشرعي والديني عن ممارسات التطرف والإرهاب، وإنما نحن بحاجة أيضا إلى بناء الحقائق الاجتماعية والدينية والثقافية والإسلامية المضادة لنزعات التطرف والإرهاب. فواقعنا الاجتماعي وفضاؤنا الوطني، أحوج ما يكونان إلى قيم الحوار والتسامح وصيانة حقوق الإنسان
في الأزمات والكوارث الاجتماعية والإنسانية، تتجلى أكثر طيبة المجتمع السعودي وتعاليه على خلافاته وتبايناته، ويعبر عن تضامنه ووقوفه ضد المتضرر من تلك الأزمة أو الكارثة.
وجريمتا القديح والعنود الآثمتان، لا تخرجان عن هذا السياق. فغالبية الشعب السعودي بكل مكوناته وشرائحه، عبر عن تضامنه ووقوفه ضد الجريمتين الآثمتين والغادرتين في القديح والعنود.
فتفجير بيت من بيوت الله، يعد وفق كل المقاييس جريمة كبرى، ينبغي أن تدان ويرفع الغطاء الديني عن فاعلها.
كما أن قتل المصلين الأبرياء وفي يوم جمعة وأثناء تضرعهم وصلاتهم، يعد عملا شيطانيا، لا يقبله عاقل ولا يرضى به مواطن من أبناء هذه الأرض الطيبة.
وهذه الجريمة تؤكد حاجتنا كشعب سعودي بكل أطيافه وأطرافه، لتعزيز وحدتنا الوطنية وتضامننا الداخلي. ونود في هذا السياق أن نذكر الحقيقة التالية وهي:
أن جريمتي القديح والعنود، تؤكدان أن الخطر الحقيقي الذي يواجهنا على أكثر من مستوى، هو خطر التطرف والإرهاب. وبدون الوقوف الجاد ضد هذا الخطر، سيبقى الوطن من أقصاه إلى أقصاه مهددا في أمنه واستقراره وتضامنه الداخلي.
لذلك ينبغي أن تتضافر كل الجهود والطاقات الوطنية، للوقوف معا، ضد نزعات التطرف والإرهاب. وهذا لن يتأتى إلا:
برفع الغطاء الديني والشرعي عن كل الممارسات الإرهابية من تفجير دور للعبادة أو قتل المصلين أو ما أشبه ذلك.
إذا لم نرفع الغطاء الديني عن هذه الممارسات، من قبل كل الجهات والمؤسسات، فسيبقى هذا الخطر قائما، وسيهدد هذا الخطر وحدتنا الداخلية وأمن الوطن واستقراره.
لا يكفي أن نرفع الغطاء الشرعي والديني عن ممارسات التطرف والإرهاب، وإنما نحن بحاجة أيضا إلى بناء الحقائق الاجتماعية والدينية والثقافية والإسلامية المضادة لنزعات التطرف والإرهاب. فواقعنا الاجتماعي وفضاؤنا الوطني، أحوج ما يكونان إلى قيم الحوار والتسامح وصيانة حقوق الإنسان.
كما يحتاجان إلى بناء كل الحقائق المضادة لنزعات التطرف والإرهاب.
حينما نتأمل في ظاهرة انتشار نزعات العنف والإرهاب، سنجد أن هذه الآفة الخطيرة، التي تواجهنا اليوم، هي من جراء شيوع ظاهرة التعصب والغلو الديني، ولا يمكن أن ننجح في مشروع مواجهة التطرف والغلو الديني، بدون تفكيك ظاهرة التعصب الأعمى التي بدأت بالبروز في مشهدنا الاجتماعي والوطني.
وجريمتا القديح والعنود مؤشر على أن نزعات التعصب والتطرف، بدأت تتحول إلى مشكلة أمنية واجتماعية في مجتمعنا؛ لأن عمليات الإرهاب التي تقوم بها، ستساهم في تفكيك النسيج الاجتماعي والوطني. ولم يعد مقبولا الصمت والتفرج على هذه الممارسات التي تهدم بشكل تدريجي أمننا الاجتماعي والوطني وتدمر نسيجنا الوطني، وتدخلنا في دورة دموية مكلفة إنسانيا ووطنيا.
لهذا فإننا ومن أجل مواجهة جادة لظاهرة التطرف والطائفية وبث الكراهية، بحاجة إلى إستراتيجية وطنية متكاملة، لمواجهة هذه المخاطر، وتفكيك حواملها الاجتماعية وحواضنها المؤسسية.
وإنه لا يمكن أن تصان وحدة أي مجتمع، مع شيوع ثقافة التطرف والتحريض على الطائفية والكراهية.
لذلك فإننا نعتقد أن المهمة الوطنية الأولى في هذا الصدد، هي بناء رؤية وطنية متكاملة وجادة لتفكيك كل الأسس والمقدمات والممهدات لظاهرة العنف والإرهاب.
فما جرى في القديح والعنود جريمة وطنية وإنسانية ولكي نضمن عدم تكرار هذه الجريمة في فضائنا الوطني، فنحن بحاجة إلى استراتيجية وطنية لتفكيك ظواهر العنف والغلو والكراهية.
فالتطرف والغلو الديني لا يمكن التساهل معهما، لأنهما كما تثبت جريمتا القديح والعنود، من أهم المخاطر التي تواجهنا على المستوى الوطني.. وإن قوى التطرف والإرهاب، بدأوا يتعاملون مع فضائنا الوطني، بوصفه مناخا أو موضوعا لترجمة مشروعاتهم الإرهابية والعنفية.. وإن التعامل اللين معهم قد يقودهم إلى تكرار عملياتهم الإرهابية في الفضاء الوطني..
من هنا فإن ما جرى في القديح والعنود، ليس عملا بسيطا أو سهلا أو طبيعيا، وإنما هو من الأعمال الإرهابية التي كانت تستهدف كما يبدو شق الصف الوطني وإثارة الخلافات والتناقضات الوطنية على أساس طائفي..
ولا ريب أن التضامن الواسع مع أهالي الضحايا والمشاركة في عزائهم من الخطوات المهمة، التي أفشلت أهداف الجريمة الإرهابية.
فالوطن ومن خلال هذه العملية الإرهابية، أضحى مهددا ومستهدفا في وحدته الداخلية.. وعليه فإننا بحاجة إلى كل خطوة ومبادرة تعزز الوحدة الوطنية، وتشجب كل الممارسات والمواقف التي تضر براهن الوحدة الوطنية ومستقبلها..
وإن المرحلة الراهنة تتطلب من جميع المواطنين الاهتمام بالأولويات التالية:
تعزيز الوحدة الوطنية والوقوف بحزم ضد كل الخطوات والممارسات التي تضعف وحدتنا الوطنية، أو تدخل أبناء الوطن في خلافات وتباينات مزمنة.. فلتتجه كل الفعاليات والقوى الاجتماعية، إلى الاهتمام بهذا الموضوع، والوقوف ضد كل الممارسات والمواقف التي تضر بوحدتنا الوطنية.. فكلما عززنا وحدتنا الوطنية، وأفشلنا مشروعات الفرقة والخلاف بين أبناء الوطن الواحد، ساهمنا بشكل مباشر في إفشال أهداف الإرهابيين من جريمتي القديح والعنود اللتين كانتا تستهدفان وحدة الوطن وأمنه واستقراره.
الخطاب الديني ودوره في تعزيز حالة الوئام والاستقرار الاجتماعي.. وذلك عبر اهتمام الخطاب الديني بوحدة المجتمع ورفض التنابز وبث الكراهية بين أبناء الوطن الواحد.. ونعتقد أن التزام الخطاب الديني في مجتمعنا بالوحدة الوطنية ورفض أي شكل من أشكال بث الخلاف والفرقة بين أبناء الوطن الواحد، سيساهم في تصليب الوحدة الوطنية، وسد كل الثغرات التي قد ينفذ من خلالها صناع التطرف والكراهية والتفجير في وطننا.
المعركة التي يخوضها الوطن مع قوى الإرهاب والتطرف، ليست بسيطة وسهلة في آن، وتتطلب أن تتضافر كل الجهود في هذه المعركة.. لذلك نحن جميعا معنيون في دعم أجهزة الدولة ومؤسساتها في رصد الإرهابيين وفضحهم وإفشال مخططاتهم ورفع الغطاء الديني والاجتماعي عنهم..
فالمعركة مع الإرهاب تتطلب أن نحارب الإرهاب بكل مستوياته.. وعليه فإن تجفيف منابع الإرهاب والوقوف بحزم ضد صناعه والمروجين له، من أولويات المعركة مع الإرهاب والإرهابيين..
فلنحمِ وطننا من خطر الإرهاب والإرهابيين.. ونعزز وحدته الوطنية بطرد كل الأفكار الظلامية والتخريبية من واقعنا الاجتماعي والوطني..
ولنقف معا بكل مكوناتنا وتعبيراتنا في صف واحد، ضد كل من يحاول أن يستهدف أمن الوطن واستقراره..
فالمعركة هي معركة الوطن كله، وتتطلب وقوف الجميع في خندق الدفاع عن الوطن ووحدته وتضامنه الداخلي.
في ظل الظروف الحساسة التي تعيشها كامل المنطقة العربية والإسلامية على أكثر من صعيد ومستوى، تتأكد الحاجة الماسة للعمل الجاد والمتواصل لتصليب الوحدة الوطنية ومنع انتشار كل الميكروبات الاجتماعية والثقافية التي تساهم في خلق ثقوب اجتماعية ووطنية على النقيض من حقائق ومستلزمات الوحدة الوطنية
على المستويين الاجتماعي والسياسي، ثمة أسئلة وإشكاليات نظرية عديدة، يتم إثارتها وطرحها للجدل والنقاش حول كيفية صيانة الوحدة الوطنية والعيش المشترك والسلام الاجتماعي، في ظل بروز النزعة الطائفية في المجتمعات والمجموعات البشرية المكونة لها. وهي في مجملها أسئلة وجيهة وجديرة بالنقاش والحوار والبحث عن إجابات حقيقية وممكنة في آن.
ومن الضروري في هذا السياق بيان أن الطائفية بكل حمولتها وأدبياتها وآفاقها، من الأمراض التي بدأت بالبروز في الاجتماع العربي المعاصر.
وبالتالي من المهم بيان رؤيتنا السلبية والقدحية لهذه النزعة. وإن هذه النزعة بمتوالياتها المتعددة تساهم بخراب الأوطان وفي تدمير النسيج والوشائج الاجتماعية، وتلقي بظلها الثقيل على منجز الوحدة الوطنية.
ونحن في سياق مجتمعنا ووطننا، نعتبر الوحدة الوطنية من الضرورات التي لا يمكن التفريط بها، وإذا لم نسارع بوعي وحكمة من معالجة الظاهرة الطائفية ونزعاتها التمزيقية، ستتمكن هذه النزعة من تهديد وحدتنا الوطنية.
ولكي تتضح الصورة جلية، ثمة مفارقة بين النزعة المذهبية، والنزعة الطائفية. فليس كل نزعة مذهبية هي نزعة طائفية. والمرذول أن يحمل الإنسان نزعة طائفية تصنع الحدود النفسية والاجتماعية مع من يختلف معه في الانتماء المذهبي. بمعنى، من حق أي إنسان أن يتمذهب بأي مذهب فقهي يشاء، ولكن مما ليس من حقه أن يبني على حقه في التمذهب رؤية طائفية تحوّل الانتماء المذهبي الطبيعي إلى انتماء طائفي مسيّس. فنحن مع حماية حق أي إنسان في أن يتمذهب بأي مذهب يريد، ولكن ليس من حقه أن يبني في نفسه وعقله وواقعه نزعة طائفية تترجم في أهداف سياسية مختلفة.
لذلك فإننا حينما نتحدث عن الطائفية واعتبارها من المشكلات العميقة التي تواجه مجتمعاتنا اليوم، لا نتحدث عن حاجة الإنسان إلى التمذهب والالتزام برؤية فقهية ومعرفية محددة.
فالتمذهب الطبيعي ليس مضادا لمفهوم وحقائق الوحدة الوطنية. أما النزعة الطائفية فهي مضادة بطبعها إلى الوحدة الوطنية بكل حقائقها ومتطلباتها.
والمجتمعات الإنسانية التي تعاني اليوم من بروز النزعات الطائفية لديها، هي معنية قبل غيرها بمعالجة هذه النزعة عن طريق:
• الإعلاء من قيمة المواطنة، واعتبارها هي القاعدة المشتركة التي تجمع كل المواطنين. فلا علاج فعالا للنزعة الطائفية إلا بالإعلاء من قيمة المواطنة وجعلها هي مصدر الحقوق والواجبات في الدائرة الوطنية.
• بناء حقائق الوئام والتسامح والتفاهم بين مختلف مكونات وتعبيرات المجتمع، وإخماد أية نزعة عدائية بين كل تعبيرات التنوع الموجودة في المجتمع.
وبناء هذه الحقائق بحاجة إلى جهود وطنية مستديمة، تستهدف حماية حقائق التنوع في المجتمع عبر بناء الحقائق المضادة لكل نزعات الانزواء والانطواء من جهة، ومن جهة أخرى لإنهاء حالة الشعور بالنرجسية التي قد يشعر بها هذا المكون الاجتماعي أو ذاك.
• تثبيت قيم الاحترام المتبادل بين مختلف المكونات والتعبيرات. فليس مطلوبا أن تغادر موقعك الفكري أو الثقافي، وليس مطلوبا من الآخر ذلك. المطلوب من الجميع الالتزام بكل مقتضيات الاحترام المتبادل. فمن موقع الاختلاف يتم الاحترام المتبادل. فنحن من مواقعنا المختلفة قد نختلف ونتباين في وجهات نظرنا، ولكن هذا الاختلاف والتباين لا يشرعان لأي طرف تجاوز حدود ومقتضيات الاحترام المتبادل.
ولا أحد يقول إن من شروط الاحترام المتبادل أن تتطابق وجهات نظرنا في كل شيء. نحن نختلف مع بعضنا وتتباين وجهات نظرنا في الكثير من القضايا والأمور، ولكن هذا التباين لا يعني أن نتعدى على بعضنا البعض. فمن موقع الاختلاف ندعو إلى الاحترام المتبادل.
عن طريق هذه الحقائق والممارسات، تتمكن المجتمعات المتنوعة من ضبط النزعات الطائفية التي قد تبرز من جراء حالات التنوع والتعدد الموجودة في المجتمع.
وعليه فإن الوحدة الوطنية، لا يمكن أن تبنى أو تتعزز في ظل انتشار النزعات الطائفية. وعليه، من يريد تعزيز وحدته الوطنية فعليه أن يحارب كل نزعات التطرف والطائفية الموجودة في المجتمع. ومن يتراخى في معالجة المشكلة الطائفية، كأنه يتراخى عن مواجهة كل خصوم الوحدة الوطنية.
وبمقدار ما تتمكن المجتمعات المتنوعة، من معالجة النزعات الطائفية، بذات المقدار تتمكن من تعزيز وحدتها الوطنية وتمتين اللحمة الوطنية بين مختلف المكونات والمجموعات البشرية.
وعليه فإننا نعتقد أن كل إنسان يساهم في إثارة النعرات الطائفية في المجتمع، فإنه يعمل بالضد من الوحدة الوطنية ومقتضياتها المتنوعة.
وفي ظل الظروف الحساسة التي تعيشها كامل المنطقة العربية والإسلامية على أكثر من صعيد ومستوى، تتأكد الحاجة الماسة للعمل الجاد والمتواصل لتصليب الوحدة الوطنية ومنع انتشار كل الميكروبات الاجتماعية والثقافية التي تساهم في خلق ثقوب اجتماعية ووطنية على النقيض من حقائق ومستلزمات الوحدة الوطنية.
الرغبات المجردة وحدها، لا تحمي الوحدة الوطنية ولا تصون أي مكسب من مكاسب الوطن المتنوعة. فالرغبة مطلوبة ولكن تلك الرغبة التي تستند على إرادة إنسانية صلبة باتجاه حماية الوحدة الوطنية وصيانة الوطن من كل المخاطر والتحديات.
وأضحت النزعات الطائفية بكل مستوياتها وحمولاتها النفسية والسلوكية، هي من أبرز المخاطر التي تضعف الوحدة الوطنية وتهدد استمرارها وحمايتها.
ولا طريق فعليا لتعزيز قيم الوحدة الوطنية، إلا بالوقوف الحازم ضد كل النزعات الطائفية التي هي بالضرورة نزعات تقسيمية، تقف بالضد من كل حقائق الوطن ووحدته الداخلية.
فلنحارب الطائفية في مجتمعنا، حتى نتمكن بفعالية من حماية وتعزيز وحدتنا الوطنية. ومن يهمه أمر وحدة الوطن عليه أن يعمل ويقف بصلابة ضد كل النزعات الطائفية التي قد تحدث شروخاً عميقة في البناء الاجتماعي الواحد.
لاعتبارات سياسية واجتماعية عديدة، مرت على دول المنطقة وبالذات تلك الدول والمجتمعات التي تعيش التعدد المذهبي، فترة من الزمن، كانت تعتقد أن خلاصها الواقعي في توزيع الحقوق السياسية والثقافية والاقتصادية بين الطوائف والمكونات التي يتشكل منها المجتمع العربي هذا أو ذاك، ودخل الجميع في سياق هذه الرؤية ومن زخمها، في أتون الصراعات والنزاعات المفتوحة على كل الاحتمالات سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى المجموعات البشرية.
لا خيار أمام الجميع إلا بالعودة إلى الوطن والمواطنة، ومهما كانت الصعوبات والمشكلات، لا يمكن الهروب منها إلى داء الطائفية، الذي يفرق ولا يجمع، يغرس الإحن والأحقاد بين الناس، ويضيع على الجميع فرص العيش بوئام في دائرة الوطن الواحد والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.
ولكن شعر الجميع أن ما نسميه المحاصصة الطائفية، سيضيّع الوطن، وسيدخل الجميع في انقسامات لا تنتهي. تبدأ بالانقسام الطائفي، ولكن هذا ومتوالياته يفضي إلى انقسامات فرعية متلاحقة ومتواصلة. لذلك فالذي يريد أن يحافظ على وطنه ويصون وحدته الوطنية وانسجامه الاجتماعي، عليه أن يطرد من واقعه وقبل ذلك عقله، كل نزعات المحاصصة الطائفية. لأن هذه المحاصصة ستضيع الأوطان كما أنها ليست هي السبيل الأفضل لنيل الحقوق وانجاز معنى الإنصاف بين جميع المكونات والتعبيرات.
وعليه فإننا نعتقد أن الطائفية، ليست حلا لأي طرف، وإنما هي جوهر المشكلة التي يعاني منها العديد من المجتمعات العربية والإسلامية.
ولا خيار أمام الجميع إلا بالعودة إلى الوطن والمواطنة، ومهما كانت الصعوبات والمشكلات، لايمكن الهروب منها إلى داء الطائفية، الذي يفرق ولا يجمع، يغرس الإحن والأحقاد بين الناس، ويضيع على الجميع فرص العيش بوئام في دائرة الوطن الواحد والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. وعليه نصل إلى قناعة مركزية لا لبس فيها، أن فتح المجال لإبراز التعبيرات الطائفية بوصفها هي عنوان الإنصاف ونيل الحقوق، من الأوهام التي تضيع الحقوق وتبعد الجميع عن الانصاف وتبعثر وحدة الناس الوطنية.
وهذا بطبيعة الحال لا يعني أن الأوطان خالية من العيوب والأمراض، ولكن لا يهرب الناس من مرض حتى يقع في مرض أشد من الأول فتكا وضررا بالإنسان على المستويين المادي والمعنوي.
ولنا في التجربة السياسية العراقية خير مثال وبرهان. مع العلم أن في الشعب العراقي ثمة حقائق تقلل من امكانية الانقسام الطائفي الحاد. إلا أن الحرب الطائفية المستعرة منذ سنوات في العراق، ضيعت حقائق الوحدة والانسجام التي يعيشها الشعب العراقي أو بعض فئاته على الأقل، وأدخلت الجميع في أتون القتل والقتل المضاد، وأضحى العراق نموذجا لتلك الحروب الطائفية العبثية. فالعنف يستدعي العنف، والدم المسفوك يقابل بدم مسفوك آخر، وهكذا دخل العراق في لعبة الموت والموت المضاد في سياق دائرة جهنمية لا تقف، دمرت كل شي جميل في العراق، ورجع العراق في علاقاته والنظر إلى شريكه الوطني، إلى زمن الحروب الطائفية التي تدمي القلب، ولا تبحث إلا عن القتل، وكأن القتل سينهي شريكك الوطني ويدخله في طي النسيان. فالحقائق الطائفية في أي مجتمع، لا يمكن إدارتها والتعامل معها بعقلية الاستئصال، وكأن القتل ينهي الحقائق ويفني معطيات الوجود والخصائص الثقافية والاجتماعية. فمن يقتل شريكه الوطني بعنوانه المذهبي والطائفي، سيدفع من يقف وراء المقتول إلى التشبث بطائفيته بوصفها هي خط الدفاع الأول عن الوجود والمصالح.
ومن يتحصن بطائفيته، لصيانة حقوقه ستضيع من جراء هذا التحصن قيم الوطن والمواطنة. وحتى لا يندفع الناس إلى التحصن وراء طوائفهم، من المصلحة الوطنية صيانة حقوقهم ومصالحهم على قاعدة وطنية راسخة، تعيد كل الانتماءات ما دون الدولة الحديثة إلى حجمها الطبيعي. ولكن حينما تتضخم هذه الانتماءات، ستكون على حساب المواطنة المتساوية، ما يضيع فرص الوحدة بين المواطنين الذين ينتمون مذهبيا وطائفيا إلى مذاهب وطوائف متنوعة. بمعنى أننا في الدائرة العربية والإسلامية، لا نود أن نعيد تجربة العراق في أي دولة عربية وإسلامية. نريد لجميع دولنا أن تحترم انتماءات المواطنين الدينية والمذهبية، وعلى قاعدة هذا الاحترام تكون المواطنة بكل حمولتها الرمزية والقانونية هي مصدر الحقوق والواجبات.
وعلى ضوء هذه الحقائق نتمكن من القول: إن كل انتماءات ما دون الوطنية الحديثة والمواطنة المتساوية، هي تساهم في إدخال كل المجموعات البشرية في كانتونات مغلقة تضيع حقائق ومقتضيات الوطن الواحد والمواطنة المتساوية. فهي عناوين تشظي أبناء المجتمع الواحد، وتجعل كل مكون يحصر شبكة علاقاته ومصالحه مع من يشبهه في الانتماء المذهبي. ونحن هنا لا ندعو إلى محاربة هذه الانتماءات، وإنما ندعو إلى احترامها وتقديرها وصيانتها، وعليه فان ما ندعو إليه أن يرتفع الجميع إلى مستوى الوطن الواحد، بحيث يكون الانتماء الوطني هو قاعدة الحقوق والواجبات. بحيث كل مواطن ينتمي إلى هذا الوطن بصرف النظر عن دينه أو مذهبه أو قبيلته له ذات الحقوق وعليه ذات الواجبات. بحيث لا يمنع الانتماء الديني أو المذهبي أو القبلي أي مواطن من نيل حقوقه كمواطن.
وحينما يرتفع الجميع إلى مستوى الالتزام بكل مقتضيات الانتماء الوطني، سيتمكن هذا المجتمع من التخلص من أمراض الطائفية والقبلية وكل الأمراض الأخرى المرافقة لانتماءات ما قبل المواطنة الحديثة. وتتحول هذه الانتماءات إلى حالة اجتماعية طبيعية، بدون نزعة عصبوية، تثير الفروقات والتمايزات مع بقية الانتماءات. فالوطن يتسع لجميع المدارس الفقهية، ولا يضير هذا بوحدتها ولحمتها الداخلية؛ لأن هذه الوحدة تبنى على احترام التعدد والتنوع، الاحترام الذي ينزع كل نزعات الخصومة والعداوة بين المكونات الاجتماعية المذهبية. وخلاصة الأمر آن الأوان وعلى ضوء تطورات المرحلة، ثمة ضرورة فائقة للاعتصام بالوطن والمواطنة المتساوية، والتعالي على كل الانقسامات التي تهدد وحدة الوطن وانسجام أهله الاجتماعي. فالوطن وحده هو القادر على جمع الجميع وتوحيد كل التوجهات على قاعدة الوطن الواحد الذي يعزز وحدته الداخلية بمواطنة متساوية في الحقوق والواجبات.