العلم والعمل عند الشيخ باقر بوخمسين
يُعدّ الشيخ باقر بوخمسين من الشخصيات العلمية الشامخة والمعروفة بجمعه بين العلم والعمل على مستوى المنطقة، فالشيخ قضى سنوات طوال في طلب العلم دراسةً وتدريساً، وتخرّج على يديه عدد كبير ممن أصبح بعد ذلك من العلماء البارزين، ولم يكتف بذلك، بل كرّس إهتمامه أيضا للكتابة الأدبية والثقافية والدينية، إما في المجلات المعروفة آنذاك، أو بصورة كتب قيّمة لم يهتم «في حياته» بأمر طباعتها. فبقي معظم إنتاج الشيخ الفكري والثقافي في أدراج مكتبه، لم يسع هو شخصياً أو يسمح لغيره في نشره وطباعته رغم كثرته، وقد تم حصر هذا الإنتاج بعد وفاته وطباعة بعضه، ولا يزال العمل جارياً على إصدار بقية إنتاجه.
ولعلّ الشيخ بسبب تواضعه لم يرغب في طباعة كتبه وإصداراته، أو لم يجد من يشجّعه آنذاك، وذلك نتيجة انشغاله بالقضاء أجّل ذلك إلى وقت آخر.
ومن خلال الاطلاع على بعض مقالات الشيخ التي تم نشرها في الصحافة وقت غربته، يتبين أنها أتسمّت بالتنوع الفكري والثقافي والأدبي.
والأهم في كل ما كتبه الشيخ أنه كان يدعو من خلال كتاباته إلى مخاطبة المجتمع والقوى الحيّة فيه لنشر الوعي والمعرفة والتسامح وحبّ الوطن حيث أكّد على حبّ الوطن بتصويره عبر مقال نشره في احدى الصحف آنذاك: " خلق الإنسان من ماء وطين، فإذا صح لهذا التراب الذي خلق منه أثر فتربة وطنه أقرب مع الغض عما قيل في حب الوطن من الإيمان والإنسان رهن بمسقط رأسه، ومن البداهة أن كل فرد يحب البيت الذي درج فيه كما يحب حضن أمه الذي مرح فيه، وكما يحب مهده ويحن إلى ذكريات سالفة، إذ ليس الوطن إلا بيته الكبير لأنه يضمه ويضم أسرته وصحابته وحجر أمه ومرتع لعبه.
التربة هي الأم الثانية، فلها حقّ الأمومة المعنوية، فأعطاها حقّها، فإن نكران الأصل من لؤم الذات، وذاك مثيله تصوّر أنّك لو أنكر فرد جميلاً أسديته له، فما موقفك حياله..".
تلك كانت مواقف الشيخ تجاه وطنه ومجتمعه، وهو الداعي إلى الانفتاح على كافة أطياف المجتمع من مختلف مشاربه وتوجهاته، وإلى توثيق العلاقة مع الجميع، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة والحرص على الانفتاح ترجمه من خلال زياراته المتكررة لكافة العوائل ووجهاء البلاد من مختلف الأطياف، وتبادل وجهات النظر في مختلف الشؤون الاجتماعية والسياسية والدينية.
من جهة أخرى برز جانب العطاء العملي في حياته من خلال تسنّمه منصب القضاء الشرعي لمدة «25 سنة» من حياته.
فحينما عرض عليه القضاء لم يشأ أن يمتنع عن تولي مسؤوليته، موقناً أن الامتناع عنه قد يعني تولّيه من قبل من ليس بكفء له.
لذلك قبل بهذه المسؤولية الجسيمة، مكرّساً جلّ اهتمامه لهذا الجانب العملي، والذي لا يقل أهمية عن الجانبين «العلمي والأدبي» الذي برز فيهما أيضاً.
ويعرف المعاصرون للشيخ - خلال سنوات تسلّمه القضاء - مدى نجاح تلك المهمّة القضائية، وحالة الاستقرار التي سادت فيه، وذلك نتيجة غزارة علم الشيخ، وقدرته على إدارة الأمور، وبسبب الكاريزما القويّة التي كانت تتمتّع بها شخصيتّه.
ولذلك يمكننا اعتبار الفترة التي بقي فيها الشيخ قاضياً للأحساء هي الفترة الذهبية للقضاء الجعفري في الأحساء.
ورغم أن القضاء قد أخذ الكثير من وقته وجهده، إلا أن ذلك لم يبعده عن تسّنم دوره القيادي في المجتمع الأحسائي آنذاك، حيث أصبح منزله مركز استقطاب لمختلف الكفاءات والقيادات في المنطقة والذين كانوا يتوافدون عليه من مختلف أنحاء المنطقة الشرقية والمملكة.
إن سماحة الشيخ لم يسمح لجانب من حياته أن يأخذه بعيداً عن الجانب الآخر، ففي الوقت الذي كان فيه يواصل القراءة والاطلاع على مستجدات الساحة الثقافية والأدبية والعلمية في العالم العربي كان من المؤسسين مع أصدقائه لجمعية منتدى النشر في النجف الأشرف، حيث ساهم في الكتابة والتواصل مع النخب الثقافية في العراق وغيره.
وبينما كان يقضي بين الناس في الأوقاف والمواريث والأحوال الشخصية عبر المؤسسة القضائية، كان يقوم أيضاً بحلّ الكثير من المشكلات الاجتماعية التي تعترض المجتمع، بما يمتلكه من خبرة ومقبولية وموقعية لدى المجتمع. كما كان له الدور القيادي عندما يتعلق الأمر بالتشاور والحوار مع علماء الدين من أقرانه وزملاءه أو طلابه، أو وجهاء المجتمع، انطلاقاً من سعة أفقه، واطلاعه ومعرفته الموسوعية بالمجتمع.
لقد استطاع سماحة الشيخ باقر بفضل حكمته وعلمه ووعيه المعرفي والحياتي المتقدّم أن يواجه ويتصدّى للكثير من العقبات والعراقيل والمشكلات في حياته العملية والجهادية، وأن يعالجها بكل يسر وسلاسة.
أن المتأمل في شخصية الشيخ «رحمه الله» يرى بوضوح المكانة البارزة التي تبوّأها على صعيد منطقة الخليج والعالم العربي، لما تميّز به من جمع هاتين الصفتين ”العلم والعمل“.