آخر تحديث: 21 / 12 / 2024م - 3:07 م

ملتقى الرامس.. فنٌّ يستحق جمهوراً أكثر

عبد العظيم شلي

ذهبت لمكان ظننته سيكون عرساً لملتقى الفنون البصرية، ضمن مبادرة ”تكوين - إبداع يروي“، والتي أطلقتها شركة ”أجدان للتطوير“، حيث تعمل جاهدة ليكون مركز العوامية الثقافي وجهة مجتمعية متفاعلة، ومحطة سياحية جاذبة، وتلوح في الأفق خطط مستقبلية ذاهبة للاستثمار الثقافي وكذا المادي عبر جهات حكومية وأخرى خاصة.

وبنظرة موضوعية على مبادرة تم الانتهاء من أيامها ليلة البارحة، وبعد أن أُسدل الستار عن فعاليتها، دار الكلام من قبل المعنيين بالشأن التشكيلي بين مرحب وداعم ومساند ومنصف ومقيم بتجرد، مع تقدير كل رأي على حدة، آراء فاضت طولاً وعرضاً، والأمر ليس مجرد انطباعات والسلام، فإن الحريصين لابد أن يأخذوا وجهات النظر المختلفة سعياً للتطوير، من هنا فإن أي رأي سيصب في النهاية لمصلحة المبادرة الوليدة، وعليه يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار تلافياً للأخطاء.

وبغض النظر عن الثغرات أو السلبيات التي نادرا ما يخلو أي عمل منها، يقال تفاؤلاً بأن أول الغيث قطرات ربما أحياناً تجاوزاً لأي نقد، لكن حسب تصوري القاصر حول مبادرة تكوين، لم تبلل العابرين الذين أتوا على استحياء أشبه بمطرة صيف، وخصوصاً مجتمع أهل الفن، فكيف والحال للجمهور بمختلف أطيافه، إذ لا ملامة عن حالة العزوف تجاه الاحتفالية التي أتت سريعة أشبه بومضة اختبار، هل هو تجنٍ بعدم رؤية نصف الكأس بما حوت، أم هو خذلان شعبي لحراك فني لم يكن بالمستوى المطلوب.

بعيداً عن العواطف وتضخيم صور الحضور عبر الصحف المحلية والتصريحات التي لا تنقل الصورة كاملة، فإن الاحتفالية برمتها لها ما لها وعليها ما عليها، بدءاً من الإعلان الذي لم يكن تسويقه كافياً ليختمر في العقول، وليس انتهاءً باستقطاب مزيد من المتطوعين لموازاة حجم الحدث والذي تقف وراءه ”إثراء“، تحت عنوان ”الشرقية تبدع“، الذي كان مداه الزمني فقط ثلاثة أيام ابتداءً من الرابعة عصراً إلى العاشرة، قد تبدو المدة الزمنية قصيرة نسبياً، وربما تكون كفيلة لتهافت العيون إدراكاً لتصرم الوقت، والظنون ذهبت بعيداً بأن العطاشى سيملؤون المكان حضوراً وحواراً، لكن كل ذلك التصور المحمل بتوق جامح لحراك تشكيلي ثقافي أتى خجولاً، إذاً لا يكفي عبور فنان برهة من الزمن وإلقاء محاضرة أمام صحبه والسلام، حتى الأسماء التي اجتهدت بدءاً بالفنان محمد المصلي وكريمة مسيري مروراً بالخطاط مصطفى العرب، لتقديم ورش تفاعلية لم تكن جاذبة بما يكفي، فقد اقتصر الحضور على المحسوبين من الوسط الفني وأصحاب المجال عينه وبوجوه قليلة جداً.

ومرة أخرى برغم تفاؤلي المسبق والشوق الذي أخذني حضوراً وعلى مدى ليلتين متتاليتين أصبت بخيبة أمل، متمثلة واقعاً بشح الجمهور، إلا من واحد أو ثنين داخل قاعة نموذجية تتدلى منها الأعمال التي تفتقد لحسن التنسيق والترتيب! وأبسطها أن يكون منتصف العمل عند مستوى النظر، وليس أن ترفع رأسك علواً وتخفضه نزولاً عند مستوى الركب، لتجاهد أوداج رقبتك تعباً حتى تنسيك بهجة التأمل، وكذلك تكدس أعمال بجوار بعضها البعض مما يشتت الرؤية.

معلوم عند تنظيم كل معرض يتطلع للنجاح لا بد أن يكون فريق عمل له خبرة في عمليات التنظيم ليخرج العرض قدر الإمكان بالصورة المطلوبة، وأن لا يؤثر وضع عمل على حساب الآخر من ناحية الألوان أو المقاس وحتى الموضوع واعتبارات الشكل تؤخذ بحسبان، أمور تراعى ليكون التنسيق متوازناً ومتوافقاً للرؤية العامة لأي عرض كان، أما صف الأعمال كيفما اتفق فإن النتيجة ضعف في عملية التنظيم ينعكس سلباً لأي معرض مهما كانت أعماله قوية.

أرقب خارج القاعة التي لم تكن معدة سلفاً لتكون قاعة عرض نموذجية حسب مواصفات الگالريهات المعتبرة، لكن اجتهد القائمون أن يكون العرض مرضياً عند القائمين وليس عند أصحاب النظرة الفاحصة، هناك في الفناء الخارجي بحيزه الواسع الذي يجلله صوت رنين كمان صداح للعازف الفلسطيني ”زكي نون“ المتماهي ذوباناً بين الأنغام، وبين عزفه ونجوم السماء، ثمة روائح ألوان تستقبل القادمين عبر بخ متطاير على لوحة ذات حجم كبيرة من لدن أنامل الفنان ”حافظ المؤمن“ الذي يعاجل الشكل جيئة وذهاباً لاستكمال عمله أمام شخص أو شخصين يأخذهم الفضول وقوفاً لبعض الوقت، وعدم الإطالة بسبب إزعاج صوت ”الكمبريسر“ الذي يضخ الألوان القريب من اللوحة، يرحب الفنان بصحبه مبتسماً وهو يلوح بيمناه الحاملة ”الاير برش“، التي أكملت الجهتين حماساً كعادة متبعة لديه في تنفيذ كثير من الجداريات ضمن مهرجانات سابقة.

بجوار الفنان ”حافظ“ يتحلق بضعة أطفال على سكب الألوان مأخوذين بالضحك واللعب ولحظات الاكتشاف وإعجاب أصوات الفنانة المشرفة عليهم زينب عبداللطيف، وما دون ذلك صمت وكأن الحوار بين الأعمال الموزعة ضمن قاعتين وقيعة غير مستحبة من قبل جمهور أحسبه غير معني بما يحدث، قد تكون الفعالية لم يروج لها بالشكل المطلوب، وربما أتى الإعلان متأخراً ولم يأخذ مداه في ذهنية العامة، وكأن الأمر طبخ على عجل، لأن آثار القطيعة من قبل الزوار واضحة للعيان.

إذ استحضرنا بمثل هذا الوقت الخريفي قبل سنتين وفي نفس المكان أقيم ”مهرجان الزهور“، والذي كان طاغياً في كمية الحضور، قد يرجعه البعض لتنوع فعالياته والذي كان بمثابة مهرجان أعياد، قد يكون هذا صحيحاً لكن حين أقامت ”مؤسسة مسك الخيرية“ ملتقاها الفني تحت مسمى ”تجلت العوامية“، والذي شارك فيه نخبة من فناني وفنانات القطيف مع زملاء لهم من أنحاء المملكة، حظي الملتقى بحضور جيد جداً وهو المقتصر فقط على الرسم في الهواء الطلق!

أسئلة دارت واستدارت مع صديقين وكذا رد فعل عائلتي، كل أبدى الدهشة، لماذا تواجد الجمهور كان ضعيفاً لمعرض يوجد فيه زاد فني متنوع من تشكيل ونحت وخط وتصوير ورسم مباشر، رحت أقلب معهم الأجوبة وعيناي تجوب تفاصيل المكان بروعة تصميمه التراثي، وطابعه المعماري المحلي الآسر وهو يتلون ضمن إجازة أسبوعية عبر احتفالية غالبيتها بريشة ألوان قطيفية، لماذا لم يحظَ بشرف الحضور كسابق الفعاليتين المذكورتين مثالاً!

أظن وإن بعض الظن إثم، هل تشبع البعض بما سوف يعرض تحت منظار لا جديد من فن، قاطعني صديقي منير الحجي: المسألة تكمن في عدم تعود الناس على المكان، وضرب مثلاً بالمهرجانات الشعبية تبدأ بعدد قليل ثم تتنامى كثافة سنة وراء سنة، وقلبت التساؤل بحوار مطول مع ابن العوامية الأخ الخطاط المبدع الأستاذ حسن الزاهر الذي أفاض حماساً، بأنه إذا قدر للفعالية أن تستمر وتتعاقب بشكل دوري سوف يكون الحضور أقوى وأقوى في السنوات المقبلة، قلت لهما بشكل منفرد مثمناً كلام الأخوين: أتمنى ذلك.

بعد تجوالي على مدى ثلاث ساعات بواقع ساعة ونصف تقريبا إجمالي حضوري ليومين متتاليين، ما زال التساؤل يأخذني فضولاً بشكل ملح وبحسن النوايا، ماذا دهى الأرجل لعدم التعني!

أبعد في المسافة أم مشقة في الوصول، أغالط الجغرافيا، وأغض الطرف عن ماهية الاحتفالية الواقعة على مرمى حجر، وفتح باب المقارنة على مصراعيه، قبل أسبوعين انتهت أيام المعرض 19 لجماعة الفن التشكيلي بالقطيف الذي كان مزدحماً بالحضور، وفي كل ليلة أكثر من سابقتها، بل طالب البعض بزيادة حصص أيامه لتكون عشرة أيام بدلاً من سبعة، حضور كان مصدر فخر وإعجاب، قد تكون المقارنة غير منصفة لحدوث فعاليتين متقاربتين زمنياً، ربما صاحب عدم الحضور لمبادرة تكوين حالة تشبع بما هو مطروح سلفاً وبأن المعروض لا يلبي الذائقة برغم وجود أسماء لها ثقلها على الساحة التشكيلية، أرجع البعض ذلك إلى أن مبادرة تكوين وليدة التكوين، بينما معارض جماعات نادي الفنون بالقطيف عمرها ربع قرن فشكلت تلك الجماعات إرثاً متراكماً وسمعة فنية طيبة داخل المحافظة وعلى مستوى المملكة، الشيء اللافت بأن مبادرة تكوين وما صاحبها من فعالية اجتهدت أن تكون متنوعة أتت بالتعاون مع اللجنة الأهلية بالقطيف.

عبر نادي الفنون بجماعاته المختلفة التشكيل والتصوير والخط العربي وأغلب العارضين منتسبون لنادي الفنون وكذا المنظمين وهما رؤوساء الجماعات، فكان أولى أن يكون الحضور متناسبا مع مكانة كل فنان ومصور وخطاط مشارك!

ويعاد السؤال، لماذا قدم فن متنوع من أنامل قطيفية شاركت على أمل اللقاء بطيف واسع من الجمهور، لكن أي عذر يلتمس بعمومه إذا غاب المشاركون والمشاركات أنفسهم للوقوف أمام أعمالهم إلا من تعنى بخطفة رجل عابرة.

تبقى الأسئلة مفتوحة ومعلقة أجوبتها عبر فضاء ملتقى الرامس في باكورته الأولى، وقبل أن أسحب أقدامي من ساحة فناء المركز الثقافي بالعوامية، دنوت من عازف الكمان طرباً لعل أوتار نغماته تلقي على مسامعي الجواب الشافي!!

كأني بالنغمات تبوح بكلمة صدق، بأن ملتقى الرامس كان رائعا في محتواه يستحق الاحتفاء بحضور مكثف منا جميعا سواء فنانين اوجماهير عامة، ودعوة من القلب بأن القادم سيكون اجمل.