وداعا عقيد حسن المحروس
كثيرا ما كنت اتساءل بيني وبين نفسي، لماذا لم يكن حسن المحروس قاصا؟ فحينما يصادف ان تجتمع معه في مجلس واحد سوى بمفردك أو مع آخرين، فقلما كان الصمت سيد الموقف، ودائما ما كان حسن يقوم بدور ”كاسر الثلج“ من خلال احاديثه التي تتدفق من فمه كمياه نهر ذابت عن منابعه ثلوج الشتاء. كان دائما يملك قصة او وصفاً لحادث او موقف مر به، وبمهارة يمتلكها الرواة فقط كان ينقلك من مكان لآخر كما ينقلك القطار من محطة لأخرى، أو كما ينقلك التلفزيون من مشهد لآخر، كانت احاديثه تنطلق دون مراعاة للنقاط وقافزة فوق كل الفواصل والاقواس.
يستمر في سرد وقائع واحداث وبتفاصيل صغيرة، وتتعجب من اين له هذه الملكة أو المخيلة التي لا تنضب منها كل تلك التفاصيل، ولا تسمح للنسيان ان يقترب منها، ففي مفكرة ذاكرته كان يحتفظ بأسماء الاشخاص الذين قابلهم في يوما ما وبالاماكن التي حطت بها قدميه.
لم تكن لي صلة بالمرحوم خلال سنين المرحلة المدرسية، ولم اعرفه عن كثب، ولكن سمعته كطالب متفوق دراسياً كانت منتشرة بيننا كطلاب. وكطالب متفوق كان بامكانه بعد تخرجه من الثانوية الالتحاق بإي من الكليات العلمية كالطب او الهندسة، أو ان يختار تخصصا في العلوم الانسانية لن يكون مستغربا أن يبدع فيه. ولكنه وزميله الصديق المرحوم عبدالاله البريكي اختارا الالتحاق بكلية الملك فيصل الجوية ليتخرجا كطيارين عسكريين، ويصبحا من قادة طائرات الهيلكوبتر في سلاح الطيران السعودي.
كان المحروس والبريكي الوحيدان من القطيف اللذين اتيح لهما الالتحاق بهذه الكلية، وهذا ما جعلهما مدعاة لفخر واعتزاز اهل القطيف بهما، فقلة من ابناء القطيف من حالفهم الحظ وتمكنوا من خدمة الوطن كضباط في صفوف القوات المسلحة السعودية. ولكونهما الضابطين الوحيدين في سلاح الجو السعودي من ابناء القطيف، فقد نالا شهرة كبيرة بين الاهالي. وعزز احترام الناس وتقديرهم لهم انهما كانا عونا لمن كان يتوجه اليهما طلبا للمساعدة أو للبحث عن سبيل لحل مشكلة ما. وبسبب حسن سيرتهم كضباط
امتلك المحروس كما البريكي علاقات جيدة مع زملائهم العسكريين من مختلف مناطق المملكة، ودائما ما كانا يتحدثان باعتزاز عن صلاتهم الطيبة باسماء كبيرة خدما معها، وكان لها شأنها ومكانتها المتقدمة في القوات الجوية، وكيف ان هؤلاء لم يترددوا في الاستجابة لهم حينما كانا يتوجهان لهم بحثا عن مساعدة لمحتاج من افراد القوات المسلحة «مهما كان منصبه» او لتجاوز صعوبة معينة يتطلب حلها رؤية مرنة من صاحب قرار.
في السنين الاخيرة من بعد تقاعده النهائي كمدني، والذي تلا احالته على التقاعد المبكر من عمله الاخير كمدرس في كلية الاركان الحربية، اصبحت انا واياه من رواد مجلس المرحوم عبد الغني الشماسي، وكنا من قبل من رواد مجلس زميله وصديقه المرحوم ابو رامي البريكي، فكان حسن من الاشخاص المحبوبين والأنيسين حسني المعشر، الذي قلما يستقبلك دون ابتسامة مرسومة على محياه، فكان حينما يغيب يفتقده الجميع.
بعد اصابته الاولى بالمرض اللعين في جهازه الهضمي وتمكنه من تجاوز الصعوبات الكبيرة التي تلي العمليات الجراحية الخطيرة بروح وإرادة عالية الهمة، صار يتردد على المجلس متحاملاً على نفسه رافضا البقاء في المنزل. فكان يشترك مع الاصدقاء وزوار المجلس في تبادل شتى الاخبار وتبادل مختلف الاحاديث التي كان ”المحروس“ بارعاً في إلقائها.
كانت معنويات المرحوم ابو محمد طوال هذا السنين عالية وراسخة، وتفائله بالشفاء لم ينقطع، ولم يظهر عليه الجزع من انتقال المرض الى اعضاء اخرى من جسده، والبدء بمرحلة علاجية جديدة مع ما فيها من تعقيدات مختلفة وتعرضه لتأثيرات جانبية لم تكن سهلة.
من اين لك يا ابو محمد كل هذه الصلابة والثقة بأنكً لن تهزم وستنتصر على مرضك؟، هل كان لتعليمك وخدمتك العسكرية يقفان خلف هذه القوة والعناد؟؟ أم هي صفات شخصية نابعة من طبيعتك كشخص يرفض كل عائق يمنعه من ان يجعل حياته مصدرا للاستمتاع بكل ما فيها من مسرات ونعم!
المرض وحش لكن دون روح لا يمل من مهاجمة الجسد الضعيف، وكلما زاد وهن الجسد كلما ازدادت وحشيته، ورغبته في احتواء كامل البنيان، وامام هذا الوحش كانت ارادة حسن السلاح الذي امتطاه في مواجهته، إلى أن تمكن اخيرا من جسمه القوي، وبدأت مقاومته الطويلة التي استمرت لسنين في فقدان مواقعها وخسارة قلاعها الواحدة تلو الأخرى، ومع كل ذلك ورغم ملازمته الدائمة للسرير الابيض لم يترك سلاح مقاومته ولم يفقد الأمل في ان الله سينصره في معركته، وانها لن تكون المعركة الأخيرة، فلا زال في الجسد قلب نابض ودماغ عامل.
ولكن الحق هو ان لكل إنسان أجل محتوم، وقد حلت اللحظة التي لا مفر منها، فغادرنا ابو محمد الى مثواه الابدي، واصبح الآن في ذمة السماء.
فلك الرحمة والمغفرة ايها الصديق، ولاهلك وذويك وكافة محبيك العزاء والصبر والسلوان على رحيلك.. وإنا لله وإنا اليه راجعون.