مرة أخرى شاعر طينته الحب
عندما كتبت مقالتي السابقة عنه التي كان عنوانها «شاعر طينته الحب» ركزت هناك على ما عُرف عن شاعرنا الكبير، فقيدنا السعيد أبي حمدي من كثرة قصائد الرثاء التي كتبها فيمن يعرف ومن لا يعرف، ملتقطا أجمل ما يراه فيهم مسلطا أنوار شعره عليهم كاشفا عن المعادن النفيسة المخبوءة داخلهم. فالمهم لديه هو البحث عن الإنسان وقيم الإنسان فيمن يرثيه. وهذا ما أشار إليه شاعرنا الكبير أمجد المحسن في قصيدته «نثر قصيدة على مقام البيات» وهو يرثي سماحة العلامة الشيخ منصور البيات رحمه الله إذ يقول:
ولم أره لكنَّ سيرته الصبا حات هل إلا الصباحات تبهرُ
ولم أره لكنه ذكّر الندى بقافيتي أن الشبابيك مرمرُ
أبو حمدي شاعر طينته الحب بكل ما لهذه الكلمة من معنى. ترى ذلك متمثلا في كل تفاصيل حياته. وهنا في هذه العجالة أسرد بعض النماذج التي تزيد هذا الأمر المؤكد توكيدا.
1 - الوفاء الشديد لأصدقاء والده الحاج معتوق الشبيب رحمه الله، وتعلقه بهم. ومنهم المرحوم الحاج منصور المادح «أبو محمد» من حلة محيش الذي كان صديقا لوالده عشرين عاما تقريبا. ثم استمر شاعرنا السعيد في التواصل معه لأكثر من 30 عاما. وقال في رثائه:
منصور يا أبتي وذكرك عنبرُ.. وسنيننا الخمسون لا تتكرر
2 - الاحتفاظ بالود والتواصل الحميم مع أصدقائه، وتعميق العلاقة بهم، متجاوزا كل الظروف التي قد تسبب الانقطاع التام. وأوضح مثال على ذلك علاقته بالبروفيسور رضي المبيوق التي بدأت في العام 1972، ثم في العام 1976 هاجر الدكتور المبيوق إلى أمريكا واستقر فيها، ولكن بقيت العلاقة معه راسخة ممتدة حتى آخر يوم من حياة الراحل، حيث كتب له يوم الجمعة ظهرا من مسجد المصطفى بأم الحمام: ندعو لكم في المسجد، وبعث له بصورتين للمصلين في المسجد.
والأمثلة على ذلك كثيرة، أخشى أن أذكر بعض الأصدقاء فأنسى آخرين، وكلهم يشهدون له بذلك. ولعل احتفاظه بعدة ألبومات لصور قديمة للكثيرين ممن عرفهم شاهد على قوة ارتباطه بهم وعدم تفريطهم بأي ذكرى جميلة معهم.
3 - تأثره العميق بآلام الإنسان أينما كان. فهو يكتب قصيدة متأثرا بمنظر آلمه كما قال لجنديين في مدينة كيبتاون بجنوب أفريقيا يقتادان صبيا ويوسعانه ضربا وتعذيبا جسديا إلى أن خلعا عنه جميع ملابسه وهو يستغيث فلا يغاث حتى أعدماه. يقول فيها:
أطلقوا النار عليه فبكى.. أودعوا باقي الرصاصات فمه
لملموا أجزاءه في عجل.. وسراة الحي جاؤوا مأتمه
نشجوا.. حق لهم أن ينشجوا..مات لم يؤمن بعصر العولمة
في ذات الوقت يتأثر عميقا بما أصاب القديح العزيزة في شهداء مسجدها فيكتب شعره راثيا مواسيا.
ويتأثر من جانب آخر للفتيات اللاتي كن يعانين آلام الغربة والبعد عن الأحبة طلبا للقمة العيش، فيهديهن قصيدة مواساة لعلها تخفف من معاناتهن.
ويكتب قصيدة استغاثة بالسيدة الزهراء لم يطلع عليها أحدا لشفاء مريضة سمع عن سيرتها الطيبة، فلما توفيت كتب قصيدة رثاء فيها وأخرج قصيدة الاستغاثة من مخبئها.
ويتأثر لوفاة مدرسة لابنته، يقول: دخلت بيتنا يوم الثلاثاء السابع من شهر رمضان وإذا بي أرى ابنتي التي تدرس في المدرسة الثانوية للبنات بأم الحمام قد ارتدت ثيابا سودا. نظرت إليها مندهشا وعلامات الحيرة في وجهي وإذا بعينيها تغرورق بالدموع وتجهش بالبكاء. أخذتها وضممتها قائلا ما الأمر يا ابنتي العزيزة ما الأمر؟ قالت وهي تئن ألما وحسرة: مدرستي يا والدي مدرستي توفيت إثر حادث مروري في الطريق بين الأحساء والقطيف... إلى أن يقول: نعم من هذا الموقف المؤلم بكيت معها ورحت أدون مشاعر الجميع.
4 - حرصه الكبير على الحضور الكثيف في أفراح وأتراح أبناء مجتمعه. فهو يكتب أشعارا لبطاقات الأفراح من زواج وغيره، ويلقي قصائد الرثاء في كثير من الراحلين. بل ويقوم بتوثيق العديد من المناسبات السعيدة والحزينة، وينشرها على قناته في اليوتوب.
ومن يطالع قناة كشكول أبو حمدي على اليوتيوب سيكتشف العلاقة القوية التي تربط هذا الشاعر الإنسان بمجتمعه. ففيها توثيق للمجالس العائلية والاجتماعية والمناسبات الدينية وخطب الجمعة والقراءات الحسينية وحفلات الزواج ومراسم التشييع والفواتح، والاحتفاء بالإنجازات والمنجزين، وأرشفة فيديوهات تاريخية للأشخاص والأماكن والموارد، ولقاءات مع بعض المقيمين والعمالة الوافدة وغير ذلك الكثير.
5 - حبه لبلدته أم الحمام. وقد ترجم لها في شعره عنها وعن شخصياتها، وفي توثيقه لعيونها وأماكنها وناسها، وفي احتفائه بإنجازاتها ومنجزيها. يقول فيها:
أم الحمام التي أهوى وتهواني.. سفينة في الهوى من غير ربان
يقودها حبها الفطري مالكة.. روح الجمال التي كالأم ترعاني
6 - حبه العميق لأبنائه وأحفاده وأسرته وعائلته: ويظهر هذا جليا في حفاوته بهم وكتابة قصائد تخصهم أو تخص مناسباتهم أو أحدا قريبا منهم، ومشاركاته الفاعلة معهم، ونشره فيديوهات لأبنائه وأحفاده وغيرهم من العائلة تشجيعا لهم. يقول مخاطبا لشباب عائلة الشبيب:
أنا الشبيبي مهما طال بي عمري... وغازل الشيب رأسي لا أزال صبي
أحبكم من صميم القلب أعشقكم... بكم إذا كنت ذا صدق تُرى رتبي
إن كنت من فضة في عينكم فأنا... أراكم يا قراباتي من الذهب
كما أنه كان لعقود حتى رحيله مشرفا أمينا على واحد من أهم شؤون الأسرة الذي يتجسد من خلاله تكافلها وتكاملها.
أما حبه لشقيقته والدتي سلمى ولشقيقه خالي جعفر رحمهما الله، فهو حب فوق الوصف، شاهدته معايشة عن قرب قريب. فقد عشت مع أبي حمدي عشرين عاما في بيت واحد، ثم افترقنا لنلتقي جيرانا حتى التحاقه بالرفيق الأعلى. وقد أسبغ حبه لهما على أبنائهما وبناتهما وأحفادهما. وفي أكثر من قصيدة ترجم هذا الحب لهما. يقول مخاطبا شقيقته:
تمر سنين والحنين هنا هنا... يصلي لها ليلا على ضفة الصدر
سلامي لسلمى وهي تكتب شعرها.... لمولاتها الزهرا على صفحة الدهر
ويقول في شقيقه:
حبي لجعفر في الأعماق يسكنني.. والشوق بالراحل المحبوب يجمعني
أبكي وأدفن آلامي على مضض.. والآه في داخلي تغلي وتحرقني
فقدت كلي وما زالت تراودني.. ذكراه في ليلة الأحزان تسجنني
7 - حبه لأهل البيت والذي لا تخطئه عين ولا أذن. فقد تعلق بهم أشد التعلق، وكتب فيهم أكثر شعره. يقول:
أعب كؤوس الحب أسكر ساعة... وأنعش آمالي برشف رؤاكمُ
بضاعتي المزجاة شعر مهلهل... ترهل منه الحرف لولا هواكمُ
أتيت به في جعبتي متوسلا... وغاية ما أبغي بهذا رضاكمُ
أخيرا أقول على لسان الشاعر أمجد المحسن:
لماذا وصفت الموت ذات قصيدة.. «على غرة يسطو..» لماذا أبا حمدي
تعال التمس كيف القلوب تروعت.. كأن على أستاره أثر الرعد
وإنك لم تذهب بعيدا، وإنما... ختمت صلاة واتكأت على البُعد
أحقا أبا حمدي؟ وما الحق غير أن... نصدق أنا لاحقون على الوعد.