آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 11:51 ص

حبنا بين البيت والوطن

كاظم الشبيب

نحن نحب فنميل نحو الاندماج بمن نحب. ثم، لأسباب مختلفة، قد نميل للانعتاق ممن أحببنا. وقد نكره فنسرع الخطئ نحو الابتعاد أو الانفصال عمن نكره. ثم، بعد بعض من التريث، ربما نسمح بمساحة من الاقتراب ممن كرهنا. ومن غرائب مفاعيل الحب أن المحب ربما تنتابه رغبتان متناقضتان في فترة متقاربة، رغبة في الاتحاد بمحبوبه ورغبة في الانعتاق منه. هي صورة من صور لحظات الحب الدائرة في مدارات النفس والفكر والمشاعر. ويحدث هذا على الصعيدين، صعيد الحب الثنائي بين الأفراد، وصعيد الحب الجماعي بين أهل الهويات المختلفة.

ضمن هذا المنظور يحدث التفاعل الكيميائي عند المرء مع حبه لوطنه. فالهوية الوطنية التي تتكون من: 1/ موقع جغرافي، 2/ ذاكرة تاريخية وطنية مشتركة، 3/ ثقافة شعبية موحدة، 4/ حقوق وواجبات مشتركة، 5/ اقتصاد مشترك، [1]  حيث نحن جميعاً نحب هوياتنا الوطنية بما تعنيه لنا الأرض من معاني معنوية وثقافية قائمة أو متوارثة، وهي أبعاد لها أثار في أحاسيسنا ومشاعرنا، نحنّ إليها، ونخاف أيضاً عليها. لذلك بتفاعل تلك المكونات في حب الوطن تأتي الرغبة عند الأفراد أو الجماعات ما بين رغبة الاندماج ورغبة الانعتاق. ممكن رؤية المثال الواضح في نزاع المواطن اللبناني مع نفسه حول الاندماج مع، أو الانعتاق من، هويته الدينية والمذهبية الخاصة مقابل هويته الوطنية، وأشباه ذلك في العراق ودول أوربية وأسيوية كثيرة.

لذا يقول الكاتب الألماني باتريك زوسكيند: ينطوي الحب على رغبة عارمة بالاندماج ورغبة غامضة بالانعتاق مثلما يحدث لقوى الكون الكبرى، فيحدث الانعتاق عن طريق الإفلات من المدار ويتعزز الاندماج عن طريق الانصياع لجاذبية الآخر، وهذا ما يفسر تنازع رغبة التفاني مع نزعة الحرية والتفرد لدى المحبين. [2] 

”وتُشكل“ الأراضي ”بهذا المعنى“ الأوطان ”، وما تختزنه من مشاعر، وفي توارثها من جيل إلى جيل، يُعبر عنها بأنها“ أرض الآباء والأجداد، توخياً للاستزادة في التعلق بها. وهي، في هذا الإطار لا تحمل بالضرورة بعداً سياسياً محدداً. إن مسألة ”الأراضي“، على هذا المستوى هي مسألة ثقافية، لا مسألة سياسية. ذلك أن ارتباط الإنسان الاجتماعي بأراضيه، وابتنائه الذهني لها، سابق على نشأة الدولة - أي قبل تشكل الدول في العالم - وسابق على الشأن السياسي برمته. وتشكل هذه الأراضي ”الأوطان“ انطلاقاً من المنزل أي المسكن. فالبيت هو النواة المركزية للأراضي التي نحن بصددها. وهو ليس مكان مأوى، أو مكان سكن فحسب بل هو حيز يملأ الإنسان تجارب ومشاعر ومعاني، إنه جزء حميم من الوجود. فهو ”الوطن“ الأولي، وهو أول ما يألفه الإنسان في حياته، ويرتبط به ارتباطاً حميمياً خاصاً. [3]  وللحديث بقية. في المقطع المرفق وجهة نظر عامة حول علاقة الإنسان بالأرض:

[1]  بحث بعنوان: هوية مصر في العهد القديم، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية «16»، سنة 26، عدد 26، ص 197.
[2]  عن الحب والموت، باتريك زوسكيند، ص 16
[3]  الجيوبوليتيكا: قضايا الهوية والانتماء بين الجغرافيا والسياسة، د. معين حداد ص150-151. بتصرف.