العلوم والأكاديميا لتكريس المركزية الأوروبية وتبعية الآخر
ليس تغنٍ في أمجاد الماضي ولا استحضاراً للمظلومية والمسكنة، أبداً.... فمنذ انطلاقة القوى الإمبريالية الأوروبية التي تأسست في القرن السادس عشر والسابع عشر أعقاب التنوير الأوربي، شحنت هذه القوى بوقود مزدوج من روح المغامرة الصليبية والافتتان بالموروث الشرقي الغني بالتاريخ والجغرافيا والبحث عن موارده وثرواته الطبيعية. لكن كل ذلك لم يكن يكافئ ما وقع بين أيديهم من درر علمية غنموها أو وروثها جراء الاحتكاك بالمشرق والمغرب الإسلامي. إلا أن تلك المنهوبات والغنائم لم تكن ترضي أطماعهم فكان لزاماً عليهم نهب ما تبقى من كنوز علمية وأدبية ما زالت مخبأة في الحواضر الإسلامية بجهل وغفلة من المشرقيين أنفسهم.
وبرعاية الأطماع الامبريالية هذه، وَجدت حركات التنوير الأوروبية المتأخرة فيها خير داعم لها لتأسيس فروع العلم المختلفة في شقيها الإنساني والطبيعي خدمة لمشاريعها لغزو الشرق والعالم من وراءه، رغم أن الأخيرة لم تؤسَّس إلا بانتحال العلوم والمعارف من الأمم الأخرى مدعية الريادة فيها. وقد ركزت المؤسسات الأكاديمية من جامعات وتجمعات دينية وعلمية، الجهود على تأسيس العلوم بنظرة انتحالية مبتكرة تدعم المشروع الامبريالي بجعل أوروبا والثقافة الأوروبية في مركز العالم، فيما صار يعرف فيما بعد بالنظرة المركزية الأوربية «Eurocentric view». هذه النظرة هي نواة الغزو الثقافي الممتد إلى زمننا هذا.
وهذه النظرة، التي تضع أوروبا في قلب العالم موضع القطب من الرحى والمحور الذي تدور حوله سائر الأفلاك، افترت الفريّات الكبرى ليس أقلها إن العقلانية الأوروبية بنيت على العقلانية اليونانية الرومانية، وأسّست منظومتها الأخلاقية على الموروث اليهودي المسيحي الذي اعتبرته حكراً لها وحدها. فصارت الحضارة تبدأ من اليونان والرومان ولا شيء قبلهم سوى حضارة، الفراعنة، ربما!!! وأصبحت الأخلاق والغايات العظمى مقتصرة على التعاليم واللاهوت المسيحي اليهودي ”الغربي“. أما في اللغات، فإن سنامتها عندهم هي اليونانية واللاتينية رغم موتهما وانقراضهما، كلتاهما معاً، وكأن العربية لم تكن اللغة العالمية إلى عهد قريب منهم، والتي بها أثريت كل اللغات التي احتكت بها. أما في الجغرافيا فصارت أوروبا في أعلى الخارطة حين جعلوا الشمال يُصوَّر في أعلى الخارطة وقد كان العرف السائد قبلها هو جعل الشمال في أسفل الخرائط كما صورته خارطة الإدريسي العائدة للقرن الثاني عشر الميلادي. كما استحدث بابٌ علمي جديد لدراسة الشعوب المحتلة والمغلوبة وهو علم الاستشراق الذي يضع نصبه هدفين مترادفين هو تحقير الآخر من جهة ومحاولة فهمه واحتواء كل انتاجاته من جهة أخرى. أما النظريات الأحيائية فإنها أضحت تُغرق في تفوّق العنصر الأبيض الأوروبي على غيره من الأعراق، كما عزّزت النصوص الدينية من الكتب المقدسة، من مكانة اليهود كشعب الله المختار رغم احتقارهم من قبل أسيادهم الأوروبيين. وبدأت الكنيسة بجهل أو بعلم الترويج بأن المسيح الابن ما هو إلا رجل أبيض، لتبرير استعباد واستباحة الشعوب والأعراق الأخرى، في أوطانهم وكراماتهم وأرزاقهم. ويمكننا الاسترسال بشواهد لا حصر لها من القانون ونظام الحكم والاجتماع وغيرها كلها سرقة وانتحال، لا يسع المقام لذكرها.
ويجادل البعض، أن مرحلة المركزية الأوروبية في أفول وتراجع منذ أن حدثت مجموعة من التطورات خلال الفترة الماضية من أهمها، أولاً في المجال الأكاديمي العلمي، هو سقوط علم الاستشراق كعلم معتبر موثوق، على يد العالم والباحث والكاتب والأكاديمي الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد، بإبطال سحر هذا الموروث الممتد لأربعة قرون في كتاب واحد هو كتاب ”الاستشراق“، وهو بذلك يستحق - برأيي - وبكل جدارة لقب البطل القومي العربي. فبعد أن صدر كتاب ”الاستشراق - Orientalism“ عام 1978 بدأ الكتاب بتبوؤ مكانة مرموقة في المجتمع الأكاديمي خلال العقدين اللذين تليا نشره، فلم يعد يُنظر إلى الاستشراق في الأوساط العلمية على مستوى العالم كما كان قبل هذا الكتاب، وصار يُنظر إلى الموضوع بالإضافة إلى كل إنتاجات المستشرقين الماضين بعين النقد والمراجعة وعدم التسليم. أما الحدث الثاني فهو اقتصادي تمثل في نهضة اقتصاديات البركس Brics وتراجع الاقتصاديات الغربية في ذروة الأزمة المالية عام 2008، والحدث الثالث هو في المشهد السياسي والجيواستراتيجي، حين نهض العملاقان الصيني والروسي ليرجع لنا مشهد التعددية القطبية بعد أن كان متفرداً للإمبراطورية الأمريكية.
لا، ليس تغنٍ في أمجاد الماضي ولا استحضاراً للمظلومية والمسكنة، أبداً. إنما هو لكي نضع في الحسبان، كيف أن الآخر بنى تفوّقه وقوّته وجعلها واقعاً نعيشه، بينما فعلياً هو لم يبنِها إلا من سراب ووهم ليس إلا، نعم لم يبنها إلا بأسبابها، لكنها أسباب ممزوجة بالدم. وهو أيضاً لكي نعلم أن لنا من الموروث الحضاري والديني والعلمي واللغوي والاجتماعي، ما يجعلنا نفتح به آفاق الريادة من جديد، لو عملنا بالأسباب واتخذنا السبل، وهي لا شك صعبة طويلة. لا أن نصدق رواية المركزية الأوروبية بكل افتراءاتها ونعمل ضمن أجندتها بغفلتنا. ولست أعيب المركزية الأوروبية على افتراءاتها بل أعيب بعض فئات شعوبنا على تصديقهم لها.