قصة قصيرة
اِقرأ خطوط يدي
لا يحمل التاريخ حقائبه للمستقبل إلّا إذا كان يبحث عن الحقيقة؛ الليالي الطويلة، والأيام الثقيلة، والصّباحات المشوّشة، جعلتني أجرُّ خلفي سنوات بلا ملامح من الرياض إلى القطيف.
استأذنتُ بطرقٍ خفيف على الباب المفتوح على مكتب يجلس فيه رجل خمسيني يرتدي غترة بيضاء وعقالًا، ونظّارة سميكة، ذقنه مشذّبة بعناية، تعرف من النظرة الأولى أنه رجل أنيق، مكتبه نظيف ومرتب، ورائحة البخور تملأ المكان.
قلت: صباح الخير.. أين أجد الأستاذ فضل؟
أصلح نظارته وقال: تقصدين فاضل؟
قلت مرتبكة: نعم.. نعم الأستاذ فاضل.
قال: نعم أنا فاضل، ثم وهو يشير إلى الكرسي: تفضّلي بالجلوس.
قلت بعد أن أخذت نفسًا عميقًا: ما جئت لأجلس.. فقط عندي سؤال، ولم أمهله، فقذفته بالمعلومة الأولى: أمي نورة عبدالله، تذكرها؟
حرك رأسه يمينًا ويسارًا وقال: للأسف لم أتشرّف بمعرفتها.
تناولتُ حقيبتي وأخرجت منها صورة أمي التي التقطت لها في مناسبة زواج ابنة خالتي، كانت ترتدي جلّابية خضراء مطرّزة بخيوط ذهبية، ومرصّعة باللؤلؤ، وقد زيّنت شعرها الأسود بهامة الذهب التي تدلّت على كتفيها.
أمسك الصورة وصمت دقيقة ثم هزّ رأسه: نعم، نورة تذكرتها، لقد رأيتها مرّة أو مرّتين في إحدى المكتبات وسألتني مساعدتها في اختيار بعض الكتب للقراءة.
قلت بحزم: فقط؟
قال وأعاد الإشارة للكرسي: لماذا لا تجلسين؟
جلستُ وقام إلى الباب وقبل أن يغلقه قال للسكرتير: ”لا تُدخل أحدًا عليَّ“.
عاد وجلس على الكرسي المواجه لي وسألني بهدوء مصطنع: ماذا قالت لك؟
قلت وأنا أعيد الصورة لحقيبتي: جئتُ لأسمع منك، هل أنت أبي حقًّا؟
طلب مني أن أنزع النّقاب، لعلّه أراد أن يتأمل في ملامحي، وما إن شاهد وجهي حتى أخرج جواله وعرض عليَّ صورة يقول إنّها لابنته سكينة، وأكمل: إنّها تشبهك، ألا تلاحظين الشبه؟
لم أستطع قراءة الملامح وأوجه الشبه، فرأسي مزدحم بالأفكار، والتدقيق في ملامح صورة في الجوال يحتاج إلى رأس ”رايق“، وإن كنت لاحظت سريعًا كأنها صورة من صوري وأنا أصغر سنًّا.
أغمضتُ عيني وأسندت ظهري وهمست: لقد مات أبي.. فاسترجع وترحّم عليه، ثم أكملت: أمي قالت إنك أبي.. هل هو أنت.. أم؟
قال والدموع تنهمر من عينيه: نعم، أنا أبوك.
قلت: لماذا؟
قاطعني: أقسم أنني لم أذنب بحقّك ولا لحظة واحدة.
ثم صمت قليلًا وأكمل: أقسم أنّ أمك امرأة شريفة عفيفة نظيفة، وإن كان لي عتبٌ عليها فقط أنّها أخفتك عنّي يوم أن رحلتْ، قبّلتني وذهبت تخفيك في أحشائها وتخفي دموع المواجع.
ومضى يقول: كنت شابًّا نزقًا لا أجيد إدارة نفسي ولا فنّ المحافظة على أشيائي، لو كنت فطنًا لتمسّكت بكما وكفيتك حرج هذا اليوم.
قالت أمك: سأرحل.. قلتُ بغرور الشباب وطيشهم: ستعودين.
وخرجتْ مكسورة الخاطر وانقطع كلّ اتصال بيننا.
سأعترف.. بحثت عنها، لكن بعد فوات الأوان.. بعد أن تبخر آخر حلم لنا بأن أمسك يدها وأتمسّك بها.
سألت عنها في جميع أحياء الرياض، من النسيم إلى الشّفاء، وبين العليا والسّويدي، والملز وحي الوزارات، لكنّها نقطة مطر ابتلعتها أرض عطشة.
هل أنا مذنب؟ نعم، وإن برّرت قبح عملي بجهلي وسوء تصرّفي، لكنّ هذا لا يعفيني عن الاعتراف بالتقصير.
من قال إنني أعلم أنّ الله خلقك؟ وتوقف ورفع رأسه ينظر للسّماء.. لو كنت أعلم.. لو.. وماذا ستنفع لو؟
ونظر في وجهي وأكمل: اعذريني، فأنا مفلس، لا أمتلك ما يقنعك بأنني بريء، ماذا سأقول؟ وهل يكفي أن أقسم أنني كنت أحمق، وأنّ أمك أخطأت عندما أبعدتك عنّي؟
وعاد يكمل قصته: كنتُ في نهاية التسعينيات أعمل في الرياض، وكنت أهرب من ملل المنزل إلى المكتبات العامة والتجارية أنتهل المعرفة من بحار الكتب، وكنت أقضي بعض الليالي في التسكع في المجمّعات التجارية.
كانت تقيّدنا ساعات طويلة من الفراغ، فبعد انقضاء العمل يلفّنا صخب الشقة مع الزملاء الذين يقضون أكثر وقتهم في النوم أو مشاهدة التلفاز.
كنت أتميّز عنهم أنني لا أحب الجلوس في الشقة، فما إن تنتهي صلاة العشاء حتى أغادر بلا وجهة.
ذات مساء كنت أتجوّل في أسواق المعيقلية، أبحث عن بخور وبعض الهدايا لمناسبة زواج صديقي فيصل.
لمحتها في محلّ العبايات فأعجبني أناقتها وجمالها، واختطفني النظر لها ونسيت أين أنا، فالتفتت لي وقالت بصوت حازم: ”وش فيك تناظر“.. وأكملت وهي تغادر: ”عمى!“.
هنا ركبتُ رأسي وجرى هرمون العناد في عروقي فتبعتها وبين تقطّع الأنفاس قلت: الأعمى من يراك ولا تسحرينه. ابتسمت وقالت: تعالْ.. قرّب.
خفتُ منها وتسمّرت في مكاني، لكنّها فاجأتني حين ناولتني ورقة قائلة: هذا رقمي، اتصل بعد المغرب، وذهبتْ لشأنها.
بين مصدِّق ومكذِّب، ذهبت للشقة أعدّ الثواني، اتصلت وقد مضى من وقت الغروب نصف ساعة أو أقلّ.
حديث قصير للتعارف غلّفه الحذر، كنت أتردّد مراراً قبل أن أجيب على أسئلتها، وكانت تتحدّث بهدوء كأنّها محقِّقة في النيابة العامة.
قالت بلغة الواثق: ودّك نتزوج؟
قلت بلا تردّد: نعم.
قالت: بعد ساعة نلتقي في فندق «ماريوت»، تدلّه؟ أجبتها: ”نعم أدلّه“.
كانت في انتظاري والشيخ وشاهدان، تزوجنا وبقينا في الفندق عدّة أيام.
في مساء اليوم الخامس طلبت الطلاق؛ بسبب اختلاف المذاهب.
قلت لها: الحب فوق المذاهب والأديان، لكنّها أصرّت على طلبها، فسيطر على عقلي شيطان الغرور وقلت لها: ستعودين، فالحب الذي أراه في عينيك سيرجعك.
وقفتْ وقبّلت جبيني واستدارت تحمل حقيبتها: سيأتي الشيخ بعد قليل لتسجيل الطلاق.
وأنا كالمسحور جلست لا أحرّك ساكنًا، خرجتْ وجاء الشيخ وتمّ الطلاق.
عرفتُ منه أنّها مطلّقة وتحتاج إلى محلّل، سألته: والحب الذي كان يضيء ليالينا؟ والعسل الذي تذوّقناه في أماسينا؟ ضحكتها التي كانت نبيذًا معتّقًا، وحديثها الذي كان كالورد والريحان، هل كان كذبًا وزورًا؟ هل كانت تمثل عليَّ دور الزوجة الهائمة في زوجها؟
التفت لي ووجه سؤالًا مفاجئًا: هل كانت أمك بارعة في التمثيل؟
وقف ومشى خطوات في الغرفة ثم عاد وهو يكفكف دموعه بيديه وقال: لماذا عدتِ؟ ألا يكفي ألم عشرين سنة كنت أحاول نسيانها؟
ماذا تريد أمّك ا لآن؟
أخبرته أنني سمعت القصة من أمي بعد وفاة أبي، وقلت له أن أمي كانت تذكره بالخير ولم يغادر ذاكرتها، وأنّ ظروفها كانت أقوى من خياراتها.
وسألته: ألم تخبرك أمي بموضوع الحمل؟
قال: نعم، بعد سنتين تقريبًا، أخبرني أحد زملائي في العمل أنّ عاملًا آسيويًا سأل عنّي وترك لي مظروفاً، فتحته فوجدت فيه صورة لطفلة ومكتوب خلفها ”إنّها ثمرة أجمل أيام عمري“.
قلتُ له: سبب كلّ مشاكل أمي مع أبي أنه لا ينجب، لهذا كان وجودي الماء الذي أطفأ حرائق الشّجار بينهما، وقد أحبّني كأني قطعة من قلبه.
قال: هل تصدّقين أنني أبوك؟
قلت له: مدّ يدك، ووضعت يدي فوق يده وقلت بهدوء الطفلة المشتاقة لحضن أبيها: افتح يدي واقرأ كفّي، وكنت كتبت فيها: فاطمة بنت فاضل.