ثقافة النقد بين التعقل والتطفل.. المرجعية الدينية تحت المجهر الخطأ
فاجأتنا حادثة إعلامية دينية مؤلمة وغيره متوقعة من شخصية عرفت بالسماحة وبالطابع الفكري المعتدل والنير، ما أحدثت اهتزازًا فكريًّا ودينيًّا على الشارع الإسلامي، إذ وصفها بعضهم بالعاصفة الترابية الفكرية العفنة، لأنها كانت محملة بأنواع القاذورات والملوثات غير الأخلاقية والبعيدة كل البعد عن مفهوم النقد الهادف.
قائد هذه الحملة الإعلامية الفكرية المتطرفة يعد واحدًا من العلماء المعروفين على الساحة الدينية والثقافية والمنبرية والمحسوبة على الثقافة والفكر المعتدل والنير، فاجأنا عبر منبره الخاص به مقدمًا نقدًا أو تنظيرًا حول مسألة شرعية لأحد كبار المراجع الدين الذين أفنوا حياتهم ووقتهم في العلم وخدمة الشريعة المحمدية نحو تسعين عامًا ونيف، حتى رحل إلى جوار ربه قبل ثلاثين عامًا تقريبًا.
وهو سماحة الإمام الراحل السيد أبو القاسم بن علي أكبر بن هاشم تاج الدين الموسوي الخوئي، المعروف بأبي القاسم الخوئي «1899 - 1992» أعلى الله درجاته مع أسياده الأطهار محمد وآله الطيبين الطاهرين. كان يعد زعيمًا كبيرًا للطائفة المسلمة الشيعية الاثني عشرية، إذ تربع على عرش المرجعية لأكثر من ستين عامًا بعد رحيل زعيم الطائفة الشيعية في النجف الأشرف المرجع الكبير سماحة آية الله العظمى السيد محسن الحكيم رحمه الله برحمته الواسعة في عام 1970 م.
بعد أن أرسى قواعده في مدينة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب في مدينة النجف الأشرف، ومن اللحظة الأولى من اعتلائه موقع المرجعية الدينية الإسلامية حدَّد خطه المرجعي وهو بناء جيل من العلماء والمجتهدين والفقهاء لكي يكونوا في خدمة الشريعة المحمدية، وفي الجانب الآخر كان هاجسه الرئيس كيفية حفظ مكانة الحوزة التاريخية، وما يؤكد ذلك قوله عندما عُرض عليه بترك النجف الأشرف إلى مكان آخر أكثر أمانًا له، فكان رده شكل صاعقة إليهم برغم المخاطر التي تحيط به من قبل النظام الحاكم، حين أعلن عن رفضه الشديد معلقًا بمقولة عظيمة دونها له التاريخ: ”لا يقال الطوسي منذ ألف عام بنى الحوزة وجاء الخوئي وهدمها“.
وبالفعل حقَّق الله حلمه ومراده بعد جهاد كبير ومر واجهه مع النظام البعثي البائد بزعامة صدام حسين التكريتي. هذا النظام السياسي الجائر والظالم عرف بظلمه الشديد، وكانت توصف إدارته للبلاد بالقبضة الحديدية، إذ لم يشهد التاريخ العراقي مثله من قبل. كانت حقبة ظلامية بامتياز، لم يغض له طرف في سحقه للكرامة الآدمية تحت أي عنوان يراه هذا النظام، وركز بطشه الشديد والشرس على العلماء والفقهاء والنشطاء بشكل خاص وعلى الشعب المضطهد عمومًا عبر ما يسمى بالحرب النفسية في تقييده للحريات وسوق معارضيه إلى السجون تحت وطأة التعذيب الشديد من جهة، وفي إطلاق الأحكام القاسية وفي التصفية الجسدية والنفي من جهة أخرى.
شرارة هذه الزوبعة الإعلامية كانت حول مسألة فقهية منسوبة للمرجع الراحل أبي القاسم الخوئي رحمه الله، ومدونة في كتاب فقهي يحمل عنوان «فقه الطهارة» وتم بحثها ومباحثتها منذ سبعين عامًا، وهي ليست مستحدثة وما كانت تحتاج لإيضاحها وتفصيلها وفق الموازين الفقهية والعلمية والشرعية إلى كل هذه الضجة والزوبعة الإعلامية والظلامية التي صنعتها وقادتها شخصية دينية من فوق منبره الخاص به، وهو لا يعد من طبقة أو الفهم والفقاهة العلمية التي يملكها صاحب المسألة الفقهية حيث يرمز له بأستاذ الفقهاء.
وحتى لا أبخس حقه العلمي والشخصي والتاريخي فإن لدى الناقد مجموعة من المؤلفات والأبحاث العلمية القيمة، وهو أيضًا يعد موسوعة ثقافية ومعرفية واسعة، وله تاريخ حافل وطويل ومشرف في الخدمة الحسينية عبر الخطاب الديني والقلم، ولقد ساهم في العديد من المشاريع الإسلامية والاجتماعية، ولكن كل هذا التاريخ الحافل بالإنجازات العلمية والدينية والثقافية والاجتماعية، لا يعطيه المكانة العليا في المجال الديني والعلمي والاجتماعي والعالمي الذي يتمتع ويتربع عليه المرجع الكبير السيد أبو القاسم الخوئي أعلى الله درجاته.
نال السيد أبو القاسم الخوئي مرتبة أستاذ الفقهاء، بالإضافة إلى أنه كان يمثل مركز إفتاء للطائفة الشيعية، وبعد أن تخرجت على يديه الكريمتين كوكبة من العلماء والفقهاء يعدون على الساحة الإسلامية من أبرز فقهاء الطائفة الشيعية، وهؤلاء الفقهاء الأكارم بعد رحيل أستاذهم إلى الملكوت الأعلى شكلوا منارات علمية يشع ضياؤها ونورها على مشارق الأرض ومغاربها كما كان معلمهم، إذ كان سماحة المرجع السيد الخوئي يَرجع له في التقليد نسبة كبيرة من المسلمين الشيعة على مستوى العالم، وواصل أكثر مقلديه «بعد رحيله» إلى تلاميذه وبالخصوص تلميذه الوفي سماحة المرجع الكبير آية الله العظمى السيد علي السيستاني دام ظله الوارف.
وفي وسط هذه الزوبعة الإعلامية التي سببت مشكلة اجتماعية ودينية واستنكرها الجميع، لم نلمس مع الأسف الشديد من يتصدى لإدارتها نحو الطرق العقلانية والرشيدة ولا الطرح الموضوعي المقبول والمتوقع من أصحاب الهمم العالية، بل خيبت ظنون كثير من أبناء المجتمع، ومن تصدى لهذه الأزمة هم بعض رجال دين غير المؤهلين لإدارة مثل النوع من الأزمات التي تحتاج إلى أصحاب تخصص وخبرة، وكشفت عن مستواهم الفهمي والاستيعابي، وقصروا عن أية شخصية اجتماعية عادية في المجتمع إذا لم يكن أقل منهم شأنًا، ولاحظ المتتبع حالة من الانفعالات الشخصية والحزبية ومواجهة العاصفة بمسلك المثل بالمثل وبنفس المقدار من التطرف والنفسية والروحية المتطرفة، وغاب العقل والرشد عن هذه المجموعة المتصدية، وأبان ضحالة عدم قدرتها لتحمل المسؤولية وفهم أبعادها وخطورة انعكاسها على الشارع الإسلامي في الحاضر والمستقبل، ولم نجد إلا مجموعة من الخطباء أصحاب الألسن الحادة وحملة القلوب السوداء وذات الطابع الأخلاقي السيئ الذي لا يقل شأنًا عن صاحب شاعل هذه الفتنة، فلم نرَ منهم نقدًا علميًّا نقيًّا إلا ما ندر.
وهذا في الحقيقة يكشف عن واقع مؤلم شكلته هذه الشريحة التي شمرت عن سواعدها للاستعداد للمواجهة خصمها الفكري، وتبين أنها خاوية وفارغة المحتوى والإدراك، ولم يقف الاستغراب عند هذا الحد فحسب، بل أظهر المستوى الفكري الهابط بل المخجل والمحزن المتمثل في بروز الضعف في الجانب الوازع الديني والثقافي والتربوي، فما أطلقته ألسنتهم من ردود تعبِّر عن ثقافة سوداء من الحقد والكراهية والبغضاء والكذب والنميمة والتسقيط والافتراء واستحضار أحقاد بدر وحنين تجاه مرجعيات أخرى ليست لها ذنب في الموضوع لا من قريب ولا من بعيد، بل لها تاريخ عريق ومشرف وطويل في العلم والجهاد والعمل، وبسمعة مشرفة ومكانة علمية مرموقة وعالية، فضلًا عن تمتعها بسمات أخلاقية تميزت بها طوال عمرها ومازالت تنهجها، وماذا أعلق على تنوع كتاباتها ومؤلفاتها المختلفة والضخمة أغنت المكتبة الإسلامية، وشهد لها البعيد قبل القريب، وشكلت مدرسة فكرية لها خطوطها العريضة التي تميزت به أمام نظرائها من المدارس الدينية الأخرى، وهذا فخر للأمة الإسلامية، إذ توجد فيها مجموعة من المدارس الفكرية المتنوعة، وهذا بطبيعة الحال يثري الجانب العلمي والفكري والثقافي والديني.
ما شهدته الساحة الدينية والاجتماعية والثقافية من نقد وتنظير عبر ما قدمته هذه المجموعات العلمائية عند مواجهتها هذه الموجة الإعلامية العنيفة والمتطرفة والهوجاء تمثلت في افتقارها الى العقل الراجح عندما اختارت منهجية المثل بالمثل، وهي آلية الاحتراق الجمعي، بدلًا من اختيارها منهجية رد السيئة بالحسنة، وهي طريق السلام والعقل لأنها سوف تحفظ الروحية المجتمعية، كما دعا إليها القرآن الكريم والسنة المطهرة، ما أحدثت هذه المجموعة نتيجة هذا الأسلوب العبثي انعكاسًا سلبيًّا في اتساع رقعة المشكلة وتضخيم دائرة اللهب البركانية بصب جام غضبها العدواني التطرفي على طرف آخر بريء، وأشعلت وقودًا مضادًا لزيادة إشعال نار الفتنة الدينية والاجتماعية على أوسع نطاق، بدلًا من إخمادها وإطفاء جمرتها بروحية باردة وعقلية تستشعر المخاطر التي تتولد من مثل هذه الفتن على المجتمع، ورأينا تغافلها العمدي بعقلية اللامبالاة من عدم اهتمامها بانقسامات المجتمع وأبنائه في السقوط في الهاوية الخلافات الفكرية والدينية الشيطانية حين شخصتنهم للمشكلة.
في مقابل هذين الهجومين العنيفين شاهدنا حضور العقل وبكل جدارة عند أبناء المجتمع، فتبلورت ردة الفعل عندهم حول هذا الصراع الشخصي في إثبات الذات باسم الدين أو باستجلاب عواطف خادعة ترك حلبة النزاع الذي نشأت بينهما فارغة من حضور الجمهور، وهذا في ظني شكل نقطة تحول فعلي عند أبناء المجتمع، إذ لم تركبهم الموجة وتغرقهم في التفكير العبثي حتى ولو خرج ذلك السم من بوق رجل بزي ديني، وهذا الوعي يحسب للمجتمع، إذ بان لهم أبعاد المشكلة من اللحظة الأولى من انطلاق الفتنة، وهذا ناتج من التجارب التي مرت على المجتمع وأبنائه عبر الأحداث السابقة. هذه التجربة كشفت أيضًا لأبناء المجتمع ضحالة بعض من كان يعول عليهم بقيادة مجتمعاتهم الى دار السلام.
وننبه وندعو في مثل هذه الحالات من الفتن الفكرية الحساسة والمتفرعة في أبعادها، أنه ينبغي أن يكون المتصدي لها خبيرًا بها وبإفرازاتها ومشاكلها الاجتماعية والدينية، وأن يكون على وعي كبير يتمثل في استحضار العقل الرشيد في إدراك خطورة الحدث وطرق إدارتها عن طريق تسويتها وإخماد نارها بروح أبوية اجتماعية عالية، عبر إبعاد المشاعر عن الشخصنة والحالة الحزبية أو التيارية أو المرجعية أو المناطقية أو أي تيار آخر، ويرى المشكلة على أنها نار هبطت على المجتمع وغايتها إحراق الجميع دون تميزها جهة عن جهة أخرى.
وبهذا التفكير الجمعي والأبوي والإيماني سوف يتدفق منه الحكمة والرشد، وبهذا النفس الإنساني الرائع والروحية الجمعية الأخوية، سنجد النقد العقلاني والثقافي ذا التفكير الثلاثي النافع، وهذا بالفعل ما يقدم الحالة النقدية الثقافية وما يحسن نوعية التوجيه، ما يعزز الروابط الاجتماعية عبر الحس الحقيقي والصادق نحو المجتمع، وهذا ما يصنع جدارًا صلبًا ضد أية فتنة تحاول اختراق قلب المجتمع، ولن نجد ناقدًا متطفلًا في هذه الأجواء الإيمانية يقود الفتنة إلى ما يريده الشيطان.