آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 7:35 م

ظاهرة الفراغ.. المتقاعد مثالًا

زكريا أبو سرير

تشكل ظاهرة الفراغ في الوسط الاجتماعي عند بعض الناس أزمة نفسية، بل واحدة من المشاكل الاجتماعية العويصة، وأخذت حيزًا كبيرًا من التفكير والعمل من عدة جهات سواء على الصعيد المؤسسات الاجتماعية الرسمية أو المؤسسات الاجتماعية الأهلية وصولًا إلى الأفراد المهتمين بالشأن الاجتماعي، ونُظِّمَ لهذا الجانب الاجتماعي عدة دورات ثقافية من قِبل هذه الهيئات الاجتماعية، من أجل الوصول إلى خطة محكمة ومعدة لصناعة برامج تغطي مساحة الفراغ الذي يعاني منه شريحة من الناس، إذ شكَّل هذا الأمر الاجتماعي الهام حاجة ضرورية لبحثه ومحاولة الوصول إلى حلول مناسبة لمعالجته.

لا توجد عند هذه الهيئات الاجتماعية أي بوادر عجز أو فشل لترويج ثقافة ملء الفراغ، بل يحتاج إلى تموج ثقافي واسع لدفعه أكثر في الأوساط الاجتماعية، وخاصة عند الشريحة الشبابية التي تتمتع بعنفوان في قوتها الجسدية وطاقتها الكبيرة ونشاطها الحركي والفكري، وبالذات عند الشريحة التي أحيلت على التقاعد بعد رحلة جهاد طويلة ادخرت الحياة فيها رصيدًا كبيرًا من الخبرة والمعرفة قبل أن تُحال إلى التقاعد من كراسيهم ووظائفهم التي كانوا شاغليها وشاغلة أوقاتهم تمامًا.

نجد معظم هذه الدورات الثقافية المتعلقة بمفهوم الفراغ الذي ترعاه هذه الهيئات الخيرية والاجتماعية، ركزت في تقديمها لهذا المفهوم على ملء مكانه بما هو مفيد ونافع للمجتمع، من دون النظر بشكل أوسع، ذلك أنها ركزت على الاهتمام بالجانب النفسي أو الشخصي وما يرتبط بخصوصياته، إذ تهدف غالب هذه الندوات إلى التنظير والترشيد لخدمة الآخر بما له علاقة مباشرة بالعامل الاجتماعي ومدى انعكاسه على الجانب الصحي والنفسي عبر ما يقدمه الواحد من العطاء الفردي وللكيان المجتمعي، وهذا بطبيعة الحال لا يختلف عليه اثنان، بل هو جيد ورائع، ولكن هذا البرنامج المعني بالآخر يأخذ حيزًا أكبر من الوقت والعمل، ويَغفل عن الجانب الذي يحاكي ويلامس الرغبات النفسية للفرد المصاب بالفراغ من النوع الآخر، إذ المسألة ليست متعلقة في كيفية برمجة وقت معين منذ الاستيقاظ من النوم حتى موعد الخلود إليه، بمجموعة من الأعمال الاجتماعية التي تتحول فيما بعد إلى وظائف يومية روتينية تصنع له بعد مدة حالة من التململ وترجعه إلى نقطة الصفر.

هناك مفاهيم علمية عديدة تبين مفهوم الفراغ سواء على الصعيد الفيزيائي أو الفكري أو الروحي، وما يهمنا من تلك التعاريف والمفاهيم العلمية للفراغ هنا هو الجانب الفكري والنفسي الذي يعاني منه طائفة منهم، ونعني بالفراغ الفكري أنه خلو العقل والفكر مما ينفع ويفيد، وليس شرطًا أن يكون الفارغ فكريًّا ممتلئًا بما لا يفيد، ولكنه خالٍ مما يفيد، ما يجعل صاحبه مؤهلًا للتأثر بأي فكر وأي منهج بغض النظر عن محتواه العلمي، وهذا التعريف العلمي لا يبعد مفهومه عن الفراغ الروحي أو النفسي، لما له من تأثير واضح على المستوى الفكري والسلوكي والإبداعي.

ولتقريب الفكرة أكثر، فإن التعريف العلمي الفيزيائي هو حيز من الفضاء فارغ من المادة، بحيث يكون ضغطه أقل بكثير من الضغط الجوي.

إذًا، المطلوب امتلاء الوقت والعقل والفكر والروح والنفس، بالعلم والمعرفة والعمل والحاجيات الشخصية التي ربما هي سبب توليد الفراغ، إذ ينبغي سد غالب الجوانب المتعلقة بالإنسان، لتكون له رصيدًا قويًّا يساعد لبناء حائط صد ضد الانحرافات، وليكون مانعًا صلبًا من الضلال والضياع والأمراض النفسية والعقلية والجسدية.

إن مشكلة الفراغ ليست محصورة في مسألة الوقت الزمني فحسب، بل هناك قوالب فراغية داخل الإنسان تسبب له مساحة قاتلة من الفراغ، وهذا يوصلنا إلى نتيجة مفادها إملاء كل فراغ بما يحتاج له ذلك القالب، وإخراجه من عنق الزجاجة، بمعنى ينبغي ملامسة مواقع المشكلة التي يعاني منها هذا المصاب بها، وقد يظن الشخص أن مشكلة الفراغ لديه ليست في الجانب العلمي أو المعرفي، ولكن ربما مشكلة فراغه في الجانب النفسي أو الروحي أو الجسدي أو الاجتماعي، وهنا ينبغي معرفة القالب الذي يحتاج إملاءَه بما يتناسب مع حاجيات ذلك القالب، وهذا يتطلب في بعض الأحيان «إن لم يكن إلزاميًّا» زيارة اختصاصي نفسي لتشخيص الحالة مباشرة ومعرفة مكامن المعضلة.

يذكر لي أحد الأشخاص ممن تم إحالته إلى التقاعد بعد أن عمل ما يقارب من الثلاثين عامًا، على أنه أصبح يشكو من الفراغ بعد رحلة عمل طويلة قضاها بعرضها وطولها وبحلوها ومّرها حتى انتهى به المطاف إلى أن ألقت سفينته على شاطئ التكريم بما قدمه من خدمات جليله للوطن والمجتمع وأبنائه.

والكلام مازال لصاحبنا: كنت واحدًا من الذين يشكون من ضيق الوقت، بل لا أجد في حياتي دقيقة واحدة فراغ، حتى لأبسط الأمور كمكالمة تلفونية خارج إطار برنامجي اليومي.

فجأة وإذا أجد نفسي وسط بحر واسع وكبير من الفراغ يصعب عليه العوم فيه بمفردي.

هنا أوشكت على فهم مقصد صاحبنا والمشكلة التي يعاني منها بما أطلق عليها بالفراغ الفردي، فهو يشكو من الوحدة برغم ما يملكه من ثروة مادية، إلا أنه يشعر بنوع من الفراغ، وأسبابه حسبما يذكر كان لحصره معظم أوقاته الحياتية والشخصية في زاوية معينة ومحدودة، وهي العراك على لقمة العيش، إذ حاصرته من كل الجهات ولم تبقَ له فرصة ولو لإلقاء التحية على جاره! وهنا نتقدم بدعوة إلى الهيئات الرسمية والمسؤولة بشأن جميع طبقات المجتمع وأبنائه، بإنشاء كيان اجتماعي متخصص لهذه الشريحة الاجتماعية التي كدحت طوال حياتها لخدمة وطنها وأبنائه، وكثير من هذه الفئة المكرمة ترغب في استقلالية نشاطها الشخصي بعيدًا عن عامة الناس، ولا يفهم من ذلك عزلها عن المجتمع في نشاطاتها كممارسة أنواع الرياضة وجميع أنواع الترفيه، ولكن القصد أنها تحتاج إلى أماكن مخصصة لها لأخذ راحتها النفسية، ولكي تعبر عمّا في خاطرها بكل أريحية، وهذا يتطلب تأسيس مشروع مخصص ومجهز بجميع أنواع الأدوات الترفيهية، كتأسيس نادٍ ترفيهي متنوع باسمها، يحتوي على غالب الطرق الترفيهية، تحت إدارة كادر متنوع ومتخصص في جميع أنواع الرياضة ومجهز بوسائل السلامة، وتنظيم برامج متعددة لكل فرد بما يتناسب مع قدراته الجسدية والصحية، كالسباحة، ركوب الخيل، صالة لأبناء كمال الأجسام، فضلًا عن الرياضات المتعارف عليها من قبيل رياضة المشي، كرة القدم، كرة الطائرة، كرة السلة، وما شابه، وتعزيز الهوايات الشخصية التي أُهملت بسبب الانشغال بطلب الرزق وتربية الأولاد وبعض الارتباطات الحياتية.

وينبغي تأسيس مقهى ترفيهي سواء على الطراز القديم أو الحديث، مسرح فني، مكتبة ثقافية، على أن يكون هذا النادي الترفيهي يقدم مكافأةً وتكريمًا لهذه الفئة الاجتماعية التي أحيلت إلى الراحة من أجل التفرغ والاهتمام بنفسها وإعادة تأهيلها نفسيًّا وصحيًّا واجتماعيًّا، وبهذا تكون المؤسسات قد شاركت بالاهتمام بهذه الشريحة الاجتماعية والإنسانية، وإخراجها من فوبيا الفراغ الذي كان يأخذ هاجس الكثير من هذه الشريحة بالتفكير عند قرب مرحلة نهاية خدمتها العملية، وفي حالة مواجهة السؤال المعتاد على نفسها أو من أي طرف آخر: ماذا تصنع بعدما تُحال على التقاعد؟ هنا تكون الإجابة سهلة وحاضرة، فالخيارات متاحة أمامه ومتعددة.