وجع الشعور باليُتم!
قال الشاعر الكبير أحمد شوقي: «ليس اليتيمُ مَن انتهى أبواهُ مِن هَمِّ الحياةِ وخَلّفاهُ ذليلا، إنّ اليتيمَ هو الذي تلقَى لهُ أُمّاً تَخَلّتْ أو أباً مَشغولا».
لقد أراد الشاعر أن يُلفت انتباه كل من قرأ هذه السطور إلى وضع اليتيم ومعنى اليُتم افي نظره هو مُستعملا صيغة النفي بالأداة «ليس» ومن ثم التوكيد بالأداة «إنّ»، لينفي ويؤكد بأن الُيُتم ليس بالضرورة أن يكون بفقد او انتهاء الوالدين ورحيلهم من هذه الدنيا وخلاصهم من همّها وغمّها وشقاءها، بل إنّ اليُتم بنظره هو عندما يشعر اليتيم بأنّ أُمّه ولأسباب معينة قد تخلت عنه وتركته يُصارع ويُواجه الدنيا بحلوها ومرها، وأنّ أباه مشغولا عنه لأي سبب كان وهذا ما يؤدي الى إهماله وعدم الاهتمام به وبأمره.
هذا هو الُيتم الحقيقي في نظر شاعرنا شوقي، إنما أرى من وجهة نظري الشخصية يأنّ اليُتم معنى واسع يتسع ليشمل أحوالا وأوضاعا معينة أخرى ومشاعر مختلطة يمرّ ويشعر بها بعض البشر في مراحل معينة من حياتهم.
إنَ اليُتم حالة إنسانية مُوجعة ومُؤلمة لا يشعر بها الا من تجرَع مرارة اليُتم، هو يؤدي إلى إحداث شعور داخلي مُؤلم يُولد في داخل الانسان نتيجة ظروف قاسية وصعبة عليه وبالأخص حين يُعاني الوحدة والألم، وحين يفقد البهجة والسرور والفرح بوجود الأحبة والأصدقاء والاقارب من حوله، وحينما يفقد حُب أقرب الناس صلة به، وعندما يشعر بأنه نكرة ولا أهمية لوجوده، مُهمش مُحطم.... فما أقسى الإحساس باليُتم.
إنّ اليتيم الذي فقد أبويه او أحدهما، يعيش معاناة نفسية صعبة للغاية وفوق مستوى طاقته وقدرته على الصبر والتحمّل، يتعذّب وقلبه يعتصر ألما، وهو دائم الخوف من هذه الدنيا ومما قد تُخبئه له الأيام وما سيحلّ به في قادمها، هذا الشعور بالقلق وبالحزن والخوف والهم هو شعور اليتيم الفاقد، ولكنك قد تلاحظه في شخص وأبواه على قيد الحياه، ولكنه مع ذلك يُعاني إهمالا وتقصيرا معه من جانبهما وكذلك غياب الحب والحنان والعطف منهما، صحيح أنَ وجعه لا يُضاهي وجع فقدهم «الابوين» أو خسارتهم بالموت، ولكن كلَ وضع يمرّ بالإنسان ويشعر فيه بالوحدة وباليأس وبالوجع والذل والحسرة والانين والحنين والضياع من جراء غياب السند ولا من يهتم به ولا من يحميه من نكبات الدهر وأهواله وتقلباته المُوجعة فهو كاليتيم، وتظل هذه المشاعر ملازمة له طوال حياته، وان لم ينجح في تخطي هذه المشاعر الموجعة فلن يكمل حياته بالطريقة التي يتمناها هو بنفسه وسيقع ضحية للأمراض والاوجاع النفسية الشديدة. لقد نهى الله تعالى رسوله الكريم عن قهر اليتيم في قوله تعالى: «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ»، بمعنى لا تكسر قلبه وأكرمه وارفق به وواسه، لأن اليتيم حين يفقد والديه يصبح ضعيفا هشا حزينا وحيدا مُتوجّعا ومُنكسرا، يشعر بالذلّ والمهانة، فيصبح من السهل عليك - والعياذ بالله - أن تقهره وان تُوجعه وتثُير في نفسه الحزن، ينجرح احساسه بسهولة من أدنى كلمة وأبسط نظرة، ولذلك تجد بعض البشر من أصحاب القلوب المريضة القاسية كالحجارة والاشد قسوة منها، يتعمّدون إيذاء اليتامى وقهرهم وإهانتهم وظلمهم وإذلالهم والإساءة إليهم لعلمهم بضعفهم وقلة حيلتهم ووحدتهم.
لقد سُمّي اليتيم يتيما لأنه تيتّم حين فقد والديه أو أبويه كونهما يُمثلان قيمة عظيمة بمفهوم الوالدين الحقيقي وبدورهما الطبيعي المنوط بهما تجاه ابنائهما، فالأب حماية وأمان وستر وقوة وسند وعزّة لأبنائه ويُعتمد عليه بعد الله في كل الامور، والأم هي الرفيقة والصديقة ومصدر العاطفة ورمز الحنان والرعاية والدفء والسكينة، وبرحيلهما عن الدنيا تتغيّر الدنيا في نظر الأبناء فلا تكون كما كانت بوجودهما معا مُجتمِعَين على قيد الحياة، عندما يتعرّض الابن لمشكلة ما، سواء مع نفسه او مع أقرانه وزملاءه او معارفه فلا أحد سوى أبويه _ «أقرب الناس اليه وأهمّهم» _ يُصغي إليه ويُعالج مشاكله، يُفضفض لهما عما يُحس به ويجول في خاطره أو يقع فيه من مآزق، يلُقي بثقل همومه على عاتقهما لكي يُخفّف من ثقل تلك الهموم عليه لأنها أحيانا تكون اكبر من مستوى تحمُله ومن أن يستوعبها عقله وقلبه معا.
وبعيدا عن قيمة الوالدين ومكانتهما العظيمة في حياة الأبناء، بنظري أرى أنه حين تُنزع الرحمة والشفقة من قلوب أقارب ومعارف من يصحُ أن نصفه باليتيم مما يؤدي إلى فقدانه لتأثيرهم الإيجابي عليه ولا يجد عطفا ولا مواساة ولا كرما ولا إحساسا به ولا حبيبا مقربا منهم إليه فهو يتيم، يُصاب بالحزن والهمّ، ويشعر بالقهر وبخيبات الامل والفشل، يصبح هشّا ومن السهل كسره وتحطيمه وقهره وإذلاله، وحيدا مُنعزلا، لا يشعر بمحبة اقربائه ولا بعطفهم ولا تحدوهم الرغبة بتاتا بالتواصل معه «اعتبارا ومراعاة لفضيلة صلة الرحم أو صلة الارحام» وهذا هو اليتم الحقيقي في نظري، والمعروف للجميع معنى أن تفقد والديك أي أن تبقى وحيدا في هذا العالم، وبقاؤك وحيدا يُعرّضك للكثير من المخاطر والمتاعب ولصنوف الأذى والعذاب، إنّ خذلان الأصدقاء وظلم وعداوة الأقارب، وحين يتخلى عنك شخص مقرّب وأنت في اشد احتياجك اليه والى وجوده بقربك ولا تجده، حين تتعرّض لطعنة في الظهر من أقرب المقرّبين إليك، وعندما لا يعترف أحد بأهمية وجودك في المجتمع، وعندما تتعرض للغدر وبسبب طيبة نفسك وطيبة قلبك أيضا....كل ذلك وأكثر يُوصل الانسان إلى الشعور بالوحدة ويصاب بالهم والغم ووبأنه منسيّ لا قيمة له، فيقع ضحية للإحباط واليأس ويُعاني الوحدة والعزلة والضياع والتشتت، يلتفت حوله فلا يجد أحدا ليواسيه ويربّت على كتفه فيُعاني وحيدا بصمت وألم مرير، وحالته في هذا الحالة تكون مشابهة الى حد كبير لحالة اليتيم الذي فقد أبويه بالفراق الابدي.
فالفراق بمختلف أنواعه هو يُتم في حدّ ذاته، لأنُ الفراق يُحدث جرحا عميقا ومُؤلما في القلب والنفس والروح، ويجعل المفترق عنه يشعر بشعور قاتل وبفراغ داخلي كبير وعميق وبإحساس بالتيه والضياع.
الغربة في البعد عن الوطن الامّ هو يتم كذلك، ذلك لأنّ الغريب ومن يعيش غربة في غير موطنه تكون ظروفه عادة صعبة، ويشعر بالوحدة وبالخوف من الغرباء من حوله، الا إذا تأقلم مع وضعه ومع المجتمع الجديد عليه وكوّن رفقة هنالك «التي لابد منها في حياة الغربة» فمن الممكن جدا أن يعيش حياة اجتماعية هادئة ومطمئنة وسعيدة.
قد تُصادف في حياتك أحيانا، طفلا بريئا او أكبر بقليل او حتى كبارا وعيونهم تلمع حُزنا من أثر دمعة مكبوتة آثرت عدم السقوط لكيلا تفضح ما بأعماق صاحبها، صحيح ان أسباب دمع العين ودواعي البكاء كثيرة وعديدة، ولكن الدمعة او دمع العين الناتج من الشعور بالألم والمعاناة من الوحدة واليُتم نتيجة فقد او خسارة او فراق تكون عادة مختلفة ومُوجعة، هذا شعور داخلي يأكل النفس ويلتهم كل ما هو جميل بداخلنا ويُمزّق القلب ولكنه مع كل هذا قد يكون عند البعض دافعا للقوة والصمود ومواجهة الحياة بكل شجاعة واصرارا على النجاح والتميز وقهر الصعاب وتخطي العقبات.
إن فقد الاخوة بالموت هو يُتم أيضا، أو قد يكونون على قيد الحياة ولا علاقة بينهم او صلة تربطهم مع بعضهم البعض ولا يعترفون بحق الاخوّة الواجب عليهم تجاه بعضهم، أحيانا يظهر شخص من الأقارب حاسد وحاقد، يحاول وبشتى الوسائل أن يقطع صلة قريبه بأقاربه أو بإخوته وبمن يحبهم ويحبونه وأن يُفرّق بينه وبينهم، مثلُ هذا القريب الحاسد يتسبب في جرح وإيذاء شعور قريبه عامدا متعمدا قاصدا أن يُوصله لمرحلة اليُتم والتي سيعاني فيها فيما بعد من أثر القطيعة وألم الوحدة، وبأنه منبوذ ومُحتقر، يطلب العون ويتوسّل منهم المحبة والود فلا يجدهما، لأنّ قريبه الحاسد قد حقّق غرضه ونال مُراده، وبذل مجهوده وسعى سعيه بالمكر وبالمكيدة ليُفرّق بينه وبينهم ويُبقيه وحيدا حائرا وعاجزا.
وقد يشعر الانسان باليُتم أيضا، حين يفقد شخصا عزيزا من أقاربه غير الوالدين، خاصة حين يكون هذا القريب الحبيب مُقرّبا منه بدرجة أكبر من قُربه من والديه، فيكون بمثابة الأخ بالنسبة له، يستمع إليه ويسعى لحل المشاكل إن واجهته، وبالأخص إذا كان أحد الوالدين او كلاهما مشغولين عنه او لا يُعيرانه أهمية ولا يهتمان به ماعدا هذا القريب المُتعاطف المُحب الودود صاحب القلب الكبير والحنون.
اليتم كذلك هو ان تفقد محبة اخوانك ووالديك واقاربك فتخليهم عنك بجعلك تشعر بوحشة فظيعة فتعيش وجعا لا يُضاهيه وجع.
يُصبح الابناء وحيدين أيضا ويعيشون مرارة اليتم ويتجرّعون العذاب والوجع من أثر طلاق او انفصال والديهم، بالأخص عندما يتركان ابناءهم أو ينسوهم، ويتحولان إلى أنانيين هم كل واحد منهما نفسه وراحته فقط متناسيين أن لهما أبناء يحتاجونهم في كل الأوقات.
لا يمكننا حقيقة أن ندُرك مقدار وحجم معاناة اليتيم النفسية، ولكن بإمكاننا ان نتصوّر الى مدى شديدة هي معاناته، تخيّل فقط بأنك غريب عن هذه الدنيا وعن مجتمعك الذي يحتويك، وبأنك وحيد غريب بين الناس لا يوجد أي أحد حولك يغمرك بالحب والحنان وانت على هذه الحال ردحا من الزمان وفجأة وبدون سابق انذار وقعت في مشكلة صعب حلها، ولا يوجد من ينصحك أو يُنقذك من آثارها، وأنت عاجز من أن تخلّص نفسك منها أو أن تُصادف من يهوّنها في نظرك، أو أصبت بالحزن دون أن يخفف أحد عليك حزنك ولن تجد من يُعانقك ويمنحك حبا وحنانا ويُغدق عاطفة عليك فماذا سيكون شعورك يا ترى حينها؟ المؤكد بأنك ستعاني صدمة ووجعا داخليين، وسيتمزق قلبك ألما وستتعذب روحك كدما، فمن لم يتعوّد على غياب ابويه فلن يعرف مقدار معاناة من فقدهما، ومن لم يُجرّب مرارة ظلم الأقارب وقسوة الأصدقاء وجرأة ووقاحة الغرباء وغطرسة وتكبّر الأغنياء، فلن يستوعب مُطلقا كم يعاني اليتيم في حياته فلا يشعر بآلام الغير إلا من جرّب مرارة الدنيا وتعرّض هو نفسه لوحشية وقسوة الدنيا وأهل الدنيا عليه، إن اليتيم الذي ذاق مرّ الُيتم شعوريا هو مسكين يعيش منتظرا الرحمة واللطف من الله ويتمنى ان يقذف الله في قلوب من حولة الرحمة والعطف عليه وقبل كل ذلك أن يخافون الله فيه وأن لا يناله منهم أي نوع من أنواع الأذى والاذية او جرح لشعوره بالقول والفعل، ويُواسونه ويكرمونه ويرفقون بحاله وأحواله.
فرفقا باليتامى، رفقا بأحزانهم وبآلامهم، رفقا بمعاناتهم وبأوجاعهم وبأحوالهم وبمشاعرهم وبظروفهم، كن لينا معهم وستنال الاجر والثواب من الله سبحانه... فرفقا بهم.