نزول الأمر من عالم الملكوت إلى الملك
رمزية المصطلحات القرآنية
يستخدم القرآن الكريم مصطلحات بسيطة وسهلة مشتقة من عالم الملك، وذلك للتعبير عن مصطلحات عرفانية وعالية مرتبطة بعالم الملكوت. فهو يستخدم مصطلحات لا تعتبر غريبة على العقل وعالم المادة الدنيوي، ولكن تعّبر عن معاني عالية من عالم الملكوت. ومثال على ذلك هو مصطلح السماء ومصطلح الأرض. ففي بعض الآيات يستخدم القرآن الكريم مصطلح ”السماء“ للرمز الى عالم ”الملكوت“. وكذلك يستخدم مصطلح ”الأرض“ لترمز الى عالم ”الملك“.
مصطلح ”السماء“ وعالم الملكوت
ففي الآية الكريمة ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ [الذاريات: 22,23] تتحدث الآيات من جانب عن ان الرزق الذي يرزقه العبد في الحياة الدنيا ينزل من السماء. ولكن نرى أن الرزق المادي في الأغلب من الأرض كالمسكن والملبس والمطعم، بل حتى الماء والمطر فهو أساساً مياه البحار والمحيطات. فجميع هذه النعم تستخرج من الأرض، ولا تنزل من السماء المادية. إذا الآية الشريفة لا ترمز إلى السماء المادية، ولكن ترمز إلى عالم الملكوت. ففي عالم الملكوت تقدر جميع أرزاق الخلائق، ومصطلح النزول هو تعبير مجازي لتدبير الرزق من عالم الملكوت الأعلى إلى عالم الملك الأدنى «فيها يفرق كلّ أمر حكيم».
وما تشير إليه الآية إلى أهمية الجوانب المعنوية في طلب الرزق كالدعاء والتوكل على الله والتقوى، بالإضافة إلى الأخذ بالأسباب المادية المرتبطة بعالم الملك «..لا يجرّه حرص حريص، ولا يدفعه كراهية كاره». وفي الحديث الشريف «لا يرد القضاء إلا الدعاء»، فالحديث الشريف في شطره الأول يتحدث عن نزول القضاء من السماء، وأن أحداث عالم الملك هي في الأصل من عالم الملكوت، بل إن عالم الملكوت مهيمن على عالم الملك كهيمنة الروح على الجسد. وفي شطره الثاني يوضح الحديث أن المغير الحقيقي للقضاء الذي ينزل من عالم الملكوت إلى عالم الملك هو دعاء الله عز وجل. بمعنى آخر أن الدعاء والصدقة والأعمال العبادية وذكر الله تؤثر وتغير أحداث عالم الملك إلا القضاء المحتوم لحكمة ربانية، وهذا بحث خارج عن موضوعنا.
وأما بالنسبة للرزق المعنوي وهو العلوم الربانية والهداية ومعرفة الله والأسماء والصفات، فترمز الآية إلى الرسول الأعظم ﷺ بالسماء، فهو الصادر الأول، ومرآة الأسماء والصفات، وعليه أنزل النور «وآمنوا بما نزّل على محمد وهو الحق من ربهم». فالعلوم الإلهية، ومعرفة الأسماء والصفات، بل ومعرفة الدين والأحكام هو عن طريق الرسول الأعظم، ولذلك استتبعت الآية بذكر «وما توعدون» والمقصود النعيم والجنة في الآخرة. فالذي يتبع ما أنزل على الرسول الأعظم، ينال النعيم في الآخرة والوعد الإلهي للمؤمنين. وحسب روايات أهل البيت في «والسماء رفعها ووضع الميزان» أن المقصود بالسماء هو الرسول والأعظم، والإمام علي هو ميزان الأعمال.
«خلق السماوات والأرض في ستة أيام» ومن المعوم أننا إذا اصطلحنا على أن الأرض هي الكوكب الذي نعيش عليه، فيصعب تطبيق هذا المفهوم على الآية الشريفة، لأن هناك الكثير من النجوم والكواكب. فهل هذه المجرات والكواكب مشموله في مفهوم الأرض، أم مفهوم السماء. وكما سبق وأن ذكرنا أن الآيات الشريفة تستخدم مصطلحات عالم الملك للتعبير عن العلوم العالية والمعاني العرفانية. فالأرض ترمز إلى عالم الملك «وهو عالم المادة أو عالم الدنيا»، والسماوات ترمز إلى عالم الملكوت، وبذلك تكون الآية شاملة لجميع عوالم الوجود من مخلوقات مادية، وملائكية، والجنة والنار، والروح والنور. وبمعنى آخر الآية ترمز إلى أن الله عز وجل خالق كلّ شيء.
رمزية الأرض إلى عالم الملك والدنيا
حسب التعبيرات المجازية المستخدمة في القرآن والتي تستخدم مصطلحات عالم الملك اليسيرة على العقل والسهلة على المستمع، تطلق الآيات كلمة الأرض للتعبير عن عالم الملك وعالم المادة أو بمعنى آخر الحياة الدنيا. يقول المولى عز وجل «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴿38﴾»، فالآية تعبر عن تباطئ المؤمنون أو امتناعهم عن الجهاد في سبيل الله بالتثاقل إلى الأرض. ومن المعلوم أنه ليس المقصود بالأرض المادية بل بحب الدنيا، والإطمئنان إلى عالم المادة الزائل، وقرينة ذلك قوله عز وجل «أرضيتم بالحياة الدنيا». فاستخدام الأرض يرمز إلى عالم الملك والحياة الدنيا.
وفي آية أخرى في قصة بلعم بن باعورا استخدم القرآن كلمة الأرض للتعبير عن عالم المادة والحياة الدنيا، «وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ». فذكر أنه أخلد إلى الأرض، أو بمعنى آخر آثر الحياة الدنيا عن الآخرة، والقرينة «واتبع هواة»، ومن المعلوم أن اتباع الهوى هو حب الدنيا عن الآخرة.
مصطلحا النزول والعروج
يستخدم القرآن الكريم مصطلح النزول لتحول الأمر أو الشيء من العالم الأعلى كالأمر أو الملكوت، إلى العالم الأدنى مثل عالم الملك أو الدنيا. فمثلاً يرمز بنزول القرآن من عالم الملكوت إلى عالم الملك «هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ». بينما يستخدم القرآن كلمة الصعود أو الإرتفاع أو العروج لتحول الشيء من عالم الملك إلى عالم الملكوت «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ». وفي آية أخرى «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ». فالأمر لا يمكن أن يكون نازلاً من السماء الدنيا، ولكن ينزل الأمر من عالم الملكوت «السماء»، إلى عالم الملك «الأرض». وعودة الأمر أو نتيجة الفيض يكون له جانب ملكوتي، يعبّر عنه القرآن بالعروج من الملك إلى الملكوت.
تدبير الأمر من الملكوت إلى الملك
يستخدم القرآن العزيز كلمة ”الأمر“ للتعبير عن المشيئة الإلهية أو مظاهر تجلّي الأسماء والصفات. فتجلّي إسم الخالق مثلاً، ينتج عنه وجود المخلوقات. وهذا حسب تعبيرات عالم الملك. فالتعبيرعن العلوم العالية محدود بلغة عالم الملك. ونزول الأمر، أو نتيجة التجلي، من عالم الملكوت إلى عالم الملك تحتاج إلى تدبير دقيق يأخذ بأسباب وقوانين عالم الملك. وهذا التدبير لا يستطيع ولا يقوم به إلا الله عز وجل. فهو المدبّر لجميع الأمور ونزولها من عالم الملكوت إلى عالم الملك.
فمثلاً نزول الرزق من عالم الملكوت إلى عالم الملك، لا ينزل إلا بتدبير إلهي. فعندما يكتب لشخص رزق ما فإنه لا ينزل بشكل مادي من عالم الملكوت كتابوت أو صندوق من السماء، بل إن الرزق يساق إلى الشخص بحسب قوانين وأسباب عالم الدنيا. فمثلاً يفتح له باب رزق عن طريق التجارة أو الورث أو بأي شكل آخر، ولكن بحسب أسباب عالم الملك، وهذا ما يسمى بالتدبير الإلهي لنزول الأمر. فنزول الرزق يأخذ الأسباب الطبيعية لعالم الملك، والمولى عز وجل هو المدبّر لتفاصيل هذه الأسباب، والتي لا يستطيع تقديرها غيره عزّ وجل.
نزول الإنسان من عالم الملكوت
إن نزول الأمر من عالم الملكوت إلى عالم الملك، لابد وأن يأخذ بأبعاد وأسباب وظروف عالم الملك. وكذلك العروج من عالم الملك إلى عالم الملكوت لابد وأن يأخذ بشروط وأسباب عالم الملكوت.
تتحدث العديد من الآيات القرآنية بداية خلق الأنسان، وطلب المولى عزّ وجل من الملائكة السجود لآدم ، وكونه خليفة لله في الأرض. وتتحدث بعض الآيات كآية الميثاق عن قضية الإشهاد في عالم الملكوت «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ». وكذلك تتحدث الآيات عن نزول آدم، أو الإنسان، من السماء وعالم الملكوت، إلى الأرض وعالم الملك.
وهذا يوضح أن الإنسان مخلوق في عالم الملكوت ثم هبط أو نزل إلى عالم الملك، أو الدنيا وعالم المادة. وكذلك يوضح أن للإنسان جانب روحي مرتبط بعالم الملكوت، وجانب مادي مرتبط بعالم الملك. ولكن عملية نزول الإنسان من عالم الملك إلى عالم الملكوت
إن عملية نزول الإنسان من عالم الملكوت إلى عالم الملك تحتاج إلى تدبير إلهي مثل نزول أي أمر من السماء. فنزول الإنسان لا يحدث فجأة، ولا يحتاج إلى مركبة فضائية للنزول «كتعبير مجازي»، بل إن نزول الإنسان سوف يكون له بعد زماني ومكاني. بحيث يكون وقت ولادة الإنسان محدده، ووقت وفاته أيضاً. واقتران أبواه، وأجداداه وما صعدا، وانعقاد النطفة، والتخلّق، وأسباب الحياة، وما يحتاجه من رزق، وعلم، ولطف، وأمن، ورعاية، ومرض وعافية، وما لا يستطيع إحصاؤه إلا الله «وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ».
فنزول الإنسان من عالم الملكوت إلى عالم الملك يحتاج إلى تدبير ما لا نستطيع إحصاؤه من النعم والأمور والأسباب. وهذا هو مفهوم تدبير الأمر من السماء إلى الأرض، وهو قوس النزول. ولعلنا نتحدث في بقية المحاضرات عن قوس الصعود والعروج.
نزول القرآن وتنزّله
تتحدث آيات القرآن عن نزولين للقرآن. فهناك آيات تتحدث عن نزول القرأن دفعة واحدة «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ». وبحسب بعض روايات أهل البيت أنه أنزل الى السماء، أو أنه أنزل على قلب رسول الله. ثمّ إنه أنزل تنجيماً من السماء إلى الأرض. وكل هذه التعبيرات هي توضيحات مجازية، لأنها تتحدث عن علوم عالية مرتبطة بعالم الملكوت، ولكن لتبسيط وتقريب المعنى إلى الذهن.
وطبعاً ليس هناك أي وجود مادي للقرآن في السماء، إذا تحدثنا عن السماء المادية. فهناك وسائل الرؤيا والبحث الفضائي التي لا تدل على الوجود المادي للقرآن في السماء، وليس هناك أي حكمة لذلك الوجود المادي. إذا ما هو النزول الأولى والتنزيل الثاني للقرآن.
النزول الأول للقرآن هو نزول من عالم الأمر والمشيئة الإلهية إلى عالم الملكوت، وهذا النزول كان دفعة واحدة، ويسمى في القرآن ”بالكتاب“، كما أن خلق البشر كان دفعة واحدة في عالم الملكوت كما وضحته آية الميثاق. وكان نزول القرآن في عالم الملكوت هو نزول على روح رسول الله دفعه واحده كنور وفيض إلهي. فحقيقة القرآن أو الكتاب في عالم الملكوت هو نور، قبل أن ينزل إلى الأرض وإلى عالم الملك في صورة آيات وكلمات وأسباب نزول وقصص وحكم، وهو ما يطلق عليه ”بالقرآن“. وكما أن للإنسان جانب روحي ملكوتي، وجانب مادي مرتبط بعالم الملك. كذلك للقرآن جانب نوراني ملكوتي، وجانب مادي مرتبط بعالم الملك، كحبل ممدود من السماء إلى الأرض.
لذلك فإن عملية تنزل القرآن من عالم الملكوت إلى عالم الملك كان بتدبير إلهي، وهو نزول نور الكتاب على صورة قرآن وآيات وكلمات وأسباب نزول. وإن هذه المصحف هو واسطة للحصول على النور. ولا يستطيع أن يقرأ ويتعلّم من النور إلا المطهرون «لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ». فلا يمكن للنور أن يشرق في قلب مليئ بالشهوات والرين وحب الدنيا «أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ».