آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

يومُ المعلِّمِ على غيرِ العَادةِ

فاطمة مهدي مويس

أَكتبُ في يومِ المعلمِ لِهذا العامِ كعادتي، لكنَّها عادةٌ مختلفةٌ، لا تشبهُ البَقِيَّةَ، يُدَحرِجُها الأسى تارةً، وتارةً أخرى تَرتدي ثوبَ الأملِ؛ على أملٍ أن تكونَ كما ينبغِي.

أكتبُ الآن دون أن أخص أحدًا في كتابتي.. أفعلُ ذلك على غير عادتي في السابق.. سابقًا كنت أحملُ كتاباتي لجميعِ من أحب.. حشدٌ من الأحرف لكلِّ معلمةٍ رافقتني، ولا أكتفي بهذا؛ بل أُعطِي كلَّ واحدةٍ منهنّ وردةً.

أذهب لبائع الورود بصُحبةِ والدي، أنتقي الورود جيِّدًا بشكلٍ لا يشبهُ غيره؛ ولكنَّه مثلُ انتقائي للكتب في المكتبة، انتقاء شخصٍ حَذِرٍ تمامًا.

وبعد.. يقومُ أبي باختيار نوعية تغليف الورد بدلاً منِّي، ولا يَكُفُّ عن الحديثِ معي؛ فصوتي تسليةٌ لأبي في وقتِ فراغِه.

أثناءِ انشغالي باختيار الورد المناسب يَنشغلُ أبي بتصويري من جوَّاله المحمول، يوثّق ما يحدثُ معنا، ويشارك كلَّ من في المنزل بتلك الصور.. الحقيقة أعلم كيف تكون الصور إذ كانت من عدسة والدي فلا بُدّ من الاطِّلاع عليها.

أبي لا يملك حواسَّه تمامًا في التصوير، ولست أعلمُ إلى وقتنا هذا ما مشكلةُ يده في أثناء التقاطه الصور.. سبق لي أن دعوته مِرارًا لجلسةِ تعليم، أخبرته سيكون عنوان الجلسة ”فنَّ الالتقاطةِ“. دعوته؛ ليتعلمَ مني كيف يلتقط صورة واضحة، واضحة فقط لا تعتليها أيةُ وشوشة، لكن.. المهم من هذا أنّ أبي لا يتنازل عن عادته أبدًا، تركَ أمرَ التصويرِ كما يَحلُو له وتركته أنا يلتقط الصور كما يشاء.

جمع بائع الورد جميع الورود المختارة في تغليفة واحدة، أغضبني الأمر، طلبت منه سابقًا أن يجعل كل وردة في تغليفة خاصة بها.

تدارك أبي الأمر سريعًا مع بائع الورد، حتَّى حلّ الأمر تمامًا.

وبعد، حان موعد التعبير عن مشاعري..

بدأت بالكتابة في المنزل.. أبي أمامِي، وعلى الجانب الآخر أمي، أمَّا إخوتي فكانوا يتناولون العشاء جميعهم عداي أنا، أشغلتني الكتابة عن الطعام وتشغلني عن الكثير أيضًا، ليس الطعام فحسب.

أبي منشغلًا يراقب الأخبار، والحقيقة أنّ تلك الأخبار ما كانت تعنينا في شيء، كانت تتحدث عن طقس الكويت، ولستُ أعلمُ ما الداعي من مشاهدة أبي ومعرفته عن طقس الكويت!

أمي على الجانب الآخر تجلس، تستمع لمحاضرة فاتتها الليلة الماضية، وأحدثت ضجة في المنزل لهذا السبب.

أنا على الجانب الآخر من أمي، أفكر هل ما إذا كانت تكفي كلمتي أم لا!

يقطع أخي هذا التفكير سريعًا بجملته المعتادة: ”بيعطوش درجات على هالورد؟“

أضحك، وتضحك أمي، ويضحك البقية.

أتفقد أبي هل شاركنا الضحك؟، لكن الحقيقة لا؛ فأبي يعرفني جيِّدًا، يعرف أنني لطالما عودت مشاعري بالمصارحة.. يعلم تمامًا أنني مختلفة عن بقية إخوتي، فأنا الوحيدة التي أجرأُ على تعبير مشاعري، لا أخاف كلمة أحبك لشخص أحبه، ولا ترعبني كلمة أكرهك بصراحتها التامة، أنا هكذا لطالما أجدت التعبير بالكتابة أكثر من إجادتي أي شيءٍ آخر، وأعلم مدى تورطي بهذا الأمر، ولا زلت أخبر أبي كل مرة؛ أكتبُ نصًّا ما ويأتيني مسرورًا بما كتبته.. أُزاحم مسرّته بقولي الدائم: أنا متورطة بالكتابة.

الكتابة عندي تشبه المكوث الدائم، تمكث في القلب وتمكث في العقل، لا يمكن للمرء أن يفر.

أحب كيف تفعل كلماتي، وكيف لكلمة مني أن تحوس بمن يقرأها، فتجعلُ منه شخصًا سعيدًا، تغمره تمامًا!

ولهذا اخترت دائمًا في كلّ عامٍ أن أكتب؛ خصوصًا في حدث يوم المعلم، أكتب لكل من علمني ولو حرفًا.

أنا لا أقصد بكتابتي أن أجمع الدرجات كما يظن أخي، ولا أقصد أن يعلم الجميع عن كتاباتي، أنا فقط أعني أن الكلمة تبقى، ”الرسالة الأولى تفعل الكثير، الثانية تفعل الأكثر.“

”الكاتب يعيش الدراما عندما يكتب.“ صحيح، وأعلم هذا جيّدًا بل أؤكد على صحته؛ فالكاتب درامي جدًّا، لكن حديثي هذا صنعته مشاعري من دون أن تزخرفه الدراما أو تلونه كما تفعل مع بقية ما أكتب.

لقد بلغتُ الثامنة عشر قبل ستة أشهر، وبلغت أمورًا كثيرة أمضتني وكأنني ابنةُ الثلاثين.

والآن، أكتبُ هذا النص بوافر الحزن لأنني كبرت، لم تعد الفصول مكاني، ولم يعد لجرس المدرسة منزلة عندي كيفما كان في السابق.

هذه رسالتي أنا التي بلغت عامها الثامن عشر، وقد تخرجت حديثًا جدًا، لا من فصولٍ، ولا من أبواب المدرسة؛ بل تخرجت من حاسوبي الخاص.. أزلت كلَّ البرامج بعدما أنهت المعلمة حديثها معنا، خاليًا من المشاعر.

فعل هذا ال ”كوفيد - 19“ ما بوسعه تمامًا؛ حتّى شاء لنا أن يكون هذا الفراق!

والآن، لا أَمْلُك شكرًا خاصَّا، ولا تهنئةً خاصَّةً، على الرُّغمِ من أنّ قلبِي قد جمع مَحبَّة صادقة خاصَّة لكلِّ معلمةٍ كانت في صورةِ أمٍّ.

شكرًا لكلِّ مَن قابَلْتُها في الصُّفوفِ أو في المَمَرَّاتِ..

شكرًا لكلِّ مَن حَمَلَت درسًا وجاءت به.