مقهى سقراط.. مختبر الأسئلة
الكتاب: مقهى سقراط - نكهة مختلفة للفلسفة
المؤلف: كريستوفر فيليبس
ترجمة: هادي آل شيخ ناصر
الناشر: دار أثر - 2021
عدد الصفحات: 300 من القطع المتوسط
الفلسفة ليس قدرها أن تغفو داخل الكتب، أو تستريح على باب الصروح الأكاديمية، ففي تجربة مقهى سقراط التي يعرضها كريستوفر فيليبس في كتابه الذي يحمل ذات العنوان تستحيل مواضيع الفلسفة وأدواتها إلى تجربة حياتية، يمارس فيها الناس فضيلة السؤال عن كل الأشياء التي تمس وجودهم، من أجل اكتشاف المعاني واستجلاء المعارف، فالحياة المستكشفة كما يقول سقراط هي التي تستحق العيش.
ومقهى سقراط هو لقاء أسبوعي يشارك في حضوره وجوه مختلفة من الناس، لنقاش سؤال محدد يجري الاتفاق عليه في كل جلسة، وعادة مايكون الحضور متنوعا، ما يهب الحوار تنوعه وثراءه، ويجعل من فعل السقرطة هو العامل المشترك الذي يجمع هذه الأصوات، أي الشغف في صناعة السؤال وتفحص الآراء ونقدها.
يراهن فيليبس في هذه التجربة التي أخذت تتمدد عبر العالم على تحويل الفلسفة من مجرد“قطعة أثرية”على حد وصفه إلى مادة حية ولغة يتعاطاها الناس في حياتهم اليومية، إلى غرس حب التفلسف عند الصغير والكبير، بدلا من تلقي الإجابات الجاهزة واستهلاكها، يريد أن يخرج الفلسفة من برجها العاجي لتمشي بين الناس، وتتحدث بلغتهم، وتتناول مشاكلهم، تماما كما كان يصنع سقراط في أثينا وهو يفتض سكون المدينة بأسئلته.
في هذا الكتاب الذي ترجمه الدكتور هادي آل شيخ ناصر، صاحب مقهى سقراط في مدينة سيهات شرق السعودية، يعرض فيليبس ليوميات هذه اللقاءات التي انطلقت منذ التسعينيات، في صورة حلقات نقاشية، تنقل معها من مدينة لأخرى، ومن مكان لآخر، من المدرسة إلى الكنيسة، ومن السجن إلى دور المسنين، يحدثنا عن الإنسان بوصفه كائنا مفكرا، حين يكشف في داخله ملكة التفكير وصناعة الأسئلة، روح الاستكشاف هي ما يقود هذا الشغف عند الحضور الذين ستتأسس علاقتهم مع المقهى مع الوقت، ليصبحوا بعدها شركاء في إدراته وتوجيه مناقشاته.
سنرى أسئلة بسيطة وأخرى معقدة في هذه التجمعات الحرة، فتارة يجد نقسه في نقاش عميق عن“ماهو الوطن”، في تجمع لكبار السن، يقلبه كل واحد منهم على طريقته، وبحسب تجربته في الحياة، وتارة يصبح سؤال الحكمة محور النقاش مع مجموعة من السجناء، هذا النقاش الذي سيدفع المؤلف إلى الاعتقاد بأن نزلاء السجن يمتلكون نصيبا وافرا من الحكمة.
تجربة المقهى مع الطفولة تهبك الدليل على أن الطفولة باب السؤال والفضول الدائمين، تجربة شجعت صاحب المقهى أن يجمع الصغار مع الكهول في واحدة من الجلسات، ليتبادلوا الحوار حول معنى الكبر في السن، تعليقات تضج بالنضج، وبروح التأمل لدى الاثنين، وهو مايجعله يستنكر انصراف الناس عن الاصغاء للأطفال في أسئلتهم، والكبار في تأملاتهم.
مقهى سقراط هو المختبر الكبير الذي يريد من خلاله فيليبس تخليق أرواح سقراطية، وتقديم الفلسفة بنكهة مختلفة عن الرطانة الأكاديمية، في ممارسة يتعرف فيها المشارك على ذاته أولا، ليتكشف العالم من حوله، هذه الممارسة التي قد تهبه الشك والحيرة والاضطراب أحيانا، فالأسئلة برأي فيليبس“تزعج وتستفز وتثير وتهدد”، لكنها في المقابل تشعره بالنشوة لأن الواحد منا أصبح يمتلك وسائل وطرق عدة لاختبار وفحص المفاهيم في هذا الوجود.