الوطن في لغة الفقهاء*
بعد مقالي ”الوطن: لغة وعقيدة“ «تاريخ ورابط المقال هنا»، وردتني أسئلة كثيرة، من ضمنها عن تعريف الوطن في الفقه.
الفقهاء يتعاملون مع مفردة ”الوطن“ من عدة أوجه ترتبط بالأحكام الشرعية في الموضوع[1] ، وبالمفردات ذات الصلة ك ”الأجنبي“، و”الغريب“، و”المبعد“ و”الإبعاد“، و”السفر“، و”كثير السفر“، وغيرها.
والظاهر هو عدم وجود تعريف اصطلاحي ثابت خاص للشرع «أو المتشرعة» للوطن، بل يستخدم بالمعنى اللغوي، الذي بيناه في المقال المذكور آنفًا. وقد يكون سبب هذا الغياب، أو عدم الاتفاق، إلى بحث الفقهاء عما يمكن أن يكون تعبديًّا للموضوع أو شرطًا للحكم.
ولكن بعد تحييد كلَّ هذا، قدر الإمكان، يمكننا أن نذكر أن الوطن عند الفقهاء هو ”البلد“ [2] الذي يقيم فيه الإنسان ويعيش، أي الذي فيه سكنه ومصدر رزقه، وهو البلد الذي يوجب تمام الصَّلاة ويوجب الصِّيام، أي لا يصلي فيه المرء قصرًا ولا يفطر. ويرتبط المرء بهذا البلد بأحد الوجهين التاليين:
الأول: تأريخيًّا، أي يكون هذا البلد «البلدة» مسكن أبويه وعائلته وتكون مسقط رأسه عادةً، وحينما يراد أن ينسب إلى بلدة عرفًا ينسب إليها. ويسمى هذا الوَطَن ب ”الوطن الأَصْلي“ ولا يزول عنه حكمه - وإن سكن غيره - إلا ب ”الإعراض“ عنه.
الثَّاني: البلدة التي يتخذها وطنًا له ومقامًا بقية حياته، كحال المتقاعد عن العمل يهاجر إلى بلد «بلدة» أخرى ويستقر فيها إلى أن يموت. على سبيل المثال، حين يبلغ ”تاروتي“ سن التَّقاعد ويقرر الهجرة إلى المدينة المنورة لمجاورة النبي الأكرم ﷺ بقية حياته، تعتبر المدينة وطنًا له. ومثله ”البغدادي“ الذي يرحل إلى مدينة النجف لمجاورة الإمام علي بن أبي طالب في ما بقى من عمره، تعتبر النجف وطنًا له، وهكذا. وهذا يطلق عليه ”الوَطَن الاتخاذي“ أو ”الوَطَن المُسْتَجَد“، وقد يتعدد هذا الوطن بأن يتخذ المرء بلدًا يسكن فيه في الصِّيف في كل عام وآخر في الشِّتاء فيكون له وطنان.
أَمَّا مقر العمل أو مقر الدِّراسة، وهي البلدة التي يتخذها المرء مقرًا له مدة مؤقتة من الزَّمن وإن كانت طويلة نسبيًّا على نحو لا يعتبر تواجده فيها سفرًا، كالطَّالب الجامعي الذي يتخذ المدينة التي فيها الجامعة مقرًّا له مدة دراسته تأخذ ”حكم الوطن“ ولكن ليس بوطن عند الأكثرية «من الفقهاء»، حيث يشترطون في الوطن قصد ”التوطن“، وهو الإقامة، أبدًا؛ فعليه قصد الإقامة - في مكان - المحددة بوقت ولو لمدة طويلة لا يجعله وطنًا. وهذا ينطبق على ”البلد المؤقت“ الذي فيه الموظف حسب ما تفرضه عليه وظيفته في غير وطنه الأصلي ولا يعرف المدة التي يقضيها في ذلك البلد، فهو بحكم الوطن وليس وطنًا. أمَّا ”الوطن الشَّرعي“، وهو البلد الذي يملك فيه الإنسان منزلًا قد استوطنه «أقام فيه» ستة أشهر متصلةً عن قصد ونيَّة، مختلف في كونه بحكم الوطن الفعلي «الأصلي» أو لا.
وفي الختام، بالنظر إلى ما ترتب من أحكام بخصوص ”الوطن“ يمكن القول: أن الأقرب في تعريفه فقهيًّا هو ”المكان الذي اتخذه المكلف مقرًا لنفسه ومسكنًا دائمًا أو من غير تحديد الوقت «المدة»“.
ما أغراني في مفردة «الوطن» بوصفي باحث لغوي هو سيولتها في العلوم الاجتماعية «وما يدخل فيها من جنبات سياسية»، وحين ننظر لها من منظور العلوم الشرعية «والفقهية» نزيد إلى ذلك الارتباك ارتباكًا أكثر تعقيدًا، فهناك أسئلة يحتاج أن يمر عليها الباحث، مع مفاهيم صغرى مرتبطة بتشابك صعب التفكيك، إضافة إلى تداخل العرفي والفقهي والديني منها في مفهوم الوطن، ناهيك عن اتساع الواقع نتيجة تغيره السريع.
فأتمنى أن يتصدى أحد الباحثين لدراسة أكاديمية «علمية» هدفها الوصول إلى مناط الوطن «الشرعي»، بقراءة فقهية تأسيسية، مرورًا بأدبيات العلوم الاجتماعية السياسية الحديثة وابتداءًا بعلم اللسانيات المعاصرة في مقارباتها لمفردة ومفهوم الوطن[3] .
وما ”الوطن“ في الأصل إلا مفردة لغوية بمعانٍ تلامس داخل الإنسان وخارجه يستخرج منها اللغوي والفقيه والسياسي والاجتماعي والفيلسوف ما يتناسق مع رؤيته لهذا الإنسان والكون.