من أجل شخصيتنا الثقافية
تستهدف الحوارات الثقافية والفكرية، خلق التراكم المعرفي، والمشاركة في الرأي والفكرة، والتواصل الإيجابي بين المهتمين بشئون الثقافة والأدب، وصولا لبلورة الأفكار وإنضاجها، وتقليبها على أوجهها المختلفة لتكاملها. وإن من أعمق المشكلات التي نواجهها كأمة، هي المشكلة الثقافية، التي تلقي بظلها على تفاصيل حياتنا، والتي نرى جذورها في طريقة تفكير إنسان مجتمعنا وأمتنا، وطبيعة شخصيته، ونوعية طموحاته، وعلاقته بالزمن. لذلك فإن استعادة شخصيتنا الثقافية والتي كانت ولا تزال حائرة وضائعة بين تيارات ومدارس فكرية مختلفة، وتتآكل على صراعاتها، من أوليات الفعل الثقافي الناجح، والذي ينبغي أن يوليه المثقفون العناية والاهتمام.
في هذا الإطار تبرز، جملة من الأفكار الكبرى، والتي تحتاج إلى المزيد من الحوار والتلاقي الثقافي المستمر لإنضاجها، وهي في المحصلة النهائية تشكل بعض طرائق استعادة الشخصية الثقافية لأمتنا، حتى تمارس دورها الحضاري والعالمي، انطلاقا من انسجامها مع منظومتها الفكرية والثقافية، ومن أهم هذه الطرائق الآتي:
1- منظومة جديدة من المفاهيم الثقافية والمعرفية، إذ أن إعادة الشخصية الثقافية لأمتنا العربية والإسلامية، يتطلب منظومة جديدة من الأفكار، التي تجدد الحياة العربية والإسلامية وتخرجها من الآفاق الفكرية الضيقة، ومن الجمود الثقافي الذي يتسم به أجزاء أساسية من واقع العرب والمسلمين اليوم، ومن الانغلاق القاتل واجترار ثقافة الغير.
إن الواقع العربي والإسلامي اليوم، لا يتمكن من الانعتاق من آسار مشكلاته وأزماته ومواكبة متطلبات راهنه وعصره إلا بخلق منظومة جديدة من الأفكار والقيم الثقافية والمعرفية، وتجاوز حالات اليباس الثقافي التي تجعل العرب والمسلمين اليوم يدورون في دوائر مغلقة لا يستطيعون الفكاك منها.. ولا بد من بيان أن المنظومة الفكرية والمفاهيمية الجديدة، لا تتأتى عن طريق الاستيراد أو الإسقاطات المعرفية والمنهجية، وإنما عن طريق إعادة قراءة مفاهيم الفكر العربي والإسلامي، قراءة جديدة، وبعقلية نهضوية متحررة من آسار ورواسب عهود الانحطاط والجمود.
فالحوارات الثقافية التي لا تخرج من الشبكة الثقافية السائدة، وتسعى بوسائل مختلفة لإبقائها مهيمنة ومستمرة، هي حوارات لا تؤدي إلى نتائج نوعية وذلك بفعل تأخرها أو عدم مقدرتها على المساهمة في خلق منظومة فكرية جديدة، تغرس روح التحدي والنهضة في جسم الأمة، وتحاصر كل أشكال الجمود والتخشب.
ونظرة فاحصة إلى المشهد الثقافي العربي والإسلامي العام، تدفعنا إلى الاعتقاد الجازم بضرورة بلورة منظومة مفاهيمية وفكرية جديدة، ومتناغمة ومنسجمة وأصول الثقافة العربية والإسلامية، وتواكب متطلبات اللحظة التاريخية التي يعيشها العرب والمسلمون اليوم.
وبدون هذه المنظومة، سنبقى نعيش الفوضى الفكرية والمعرفية، ونلهث وراء لافتات وعناوين لا تزيدنا إلا ابتعادا عن مقاصدنا وغاياتنا الكبرى.
ومن المؤكد أن هذه المنظومة المفاهيمية والفكرية الجديدة، ستخلق حالة ثقافية متحركة وفاعلة في واقعنا العربي والإسلامي، نتعايش معها ونتفاعل مع حركتها وتكون شيئا ملموسا على الأرض لها مشخصاتها وقسماتها وآلياتها وفعلها.
وتبرز هنا حاجتنا إلى تطوير كل ماله صلة ودور وتأثير في تحريك المياه الراكدة وتطوير النظرات الثقافية، وتبديد الأوهام المعرفية، حتى تتوفر كل العوامل والأسباب المفضية، إلى خلق منظومة فكرية جديدة للواقع العربي والإسلامي، تأخذ على عاتقها تعبئة كل قوى الأمة في مشروع النهضة والعمران الحضاري.
وهذا بطبيعة الحال، بحاجة إلى تكثيف قيم التواصل الثقافي والمعرفي والإبداعي بين مختلف المدارس الثقافية والفكرية، والحوار بين أهل الثقافة والأدب والإبداع، وخلق الطموحات والتطلعات العلمية الجادة، وتحسين مستوى العطاء والإنتاج الثقافي والإبداعي، حتى تشارك جميع هذه العناصر في خلق وإنضاج الظروف المؤاتية لخلق منظومة فكرية جديدة.
2- النهوض بحركة نقدية في الوسط الثقافي والأدبي والإبداعي العربي، تحمل ملامح الثقافة الجادة، لنقد وتطوير الحياة الثقافية العربية.
فالحياة الثقافية لا تؤتي ثمارها على مستوى البناء، ورفد الواقع العربي العام بمقومات المنعة وأسباب القوة، إلا بحركة نقدية جادة وأصيلة تنقد الأفكار لتطويرها، وتراقب المشروعات لبلورتها وغرس قيم التطور النوعي في مسيرتها.
لذلك ينبغي أن تهتم الحياة الثقافية العربية، بخلق آليات وأطر تمكن المجتمع العربي من تطوير حركة النقد البناء في مسيرته، حتى يتمكن من حل مشكلاته بنفسه، بدون الاستجداء من الغير الحلول والمعالجات لأزمات الواقع العربي والإسلامي.
وذلك لأن المجتمع الذي يتمكن من حل مشكلاته بنفسه يستطيع عبور أزماته، دون انتظار للقوة المؤثرة، أو التلهي بالشكوى، مما يعزز الروح الإيجابية والجدية في التعاطي مع الحياة والمستقبل، ويوسع من نطاق التفاعل الداخلي بين قوى الأمة ومدارسها المتعددة، في سبيل معالجة الشعور بالعجز أو النقص الذي يعاني منه الواقع العربي والإسلامي.
لأن هذا الشعور يؤدي إلى الإعراض عن التواصل والحوار والتعاون لحل المشكلات العامة التي يعاني منها العالمان العربي والإسلامي. فالضعف والنقص لا يحلان بالتستر عليهما، ومنع عملية الفحص الموضوعي، التي تتجه إلى نقد بناء إلى تلك المكامن، يبدأ بتعريتها وتقويمها وصولا إلى بلورة البديل والفكرة أو الرأي الجديد. فالنقد ضرورة من ضرورات الثقافة والمعرفة. ولم يسجل لنا التاريخ الإنساني، أن ثقافة ما نمت وتوسعت وتعمقت، بدون حركة نقدية جادة رافقت تلك الثقافة، وأخذت على عاتقها نقد نقاط الضعف لتقويتها، ونقد المسار لتصحيحه، وبيان النقاط والمواقع التي ينبغي أن تتجه إليها الثقافة لتتكامل. فاستعادة الشخصية الثقافية العربية والإسلامية، لا تنجز إلا بعاملين أساسيين وهما: منظومة مفاهيمية وفكرية جديدة، تطرد الجمود، وتحارب الانهزام النفسي والأفكار القدرية والجبرية وتطور من طموحات أبناء الأمة العربية والإسلامية، وتنضج من خياراتهم في الراهن والمستقبل، وحركة نقدية جادة وبناءة، تأخذ على عاتقها التجديد في طرائق التفكير، والعناية بالنواقص لتكميلها، والعمل على رفد الواقع بأفكار وآفاق جديدة.
فالشخصية الثقافية المسؤولة، لا تخلق إلا في محيط اجتماعي دينامي، يأخذ على عاتقه تطوير ذاته، ومقاومة كل عوامل التكلس التي تعترض واقعه.
والحوارات الثقافية والتواصل المعرفي، من ضرورات الحياة الثقافية، لأنهما يساهمان في خلق المنظومة الفكرية الجديدة، التي هي رهان الأمة وسبيلها لبناء راهنها والتحكم في مصائرها المستقبلية.
والرهان الثقافي الذي نتطلع إليه وندعو الجميع إلى الالتزام بموجباته، ينطوي على العديد من المسؤوليات والآفاق. لذلك فإن العناصر الأساسية التي تشكل بمجملها رهاننا الثقافي الجديد، بحاجة دائما إلى جهد إنساني متواصل ينقل الوعد إلى الإنجاز والمفروض إلى واقع. وبدون هذه الإرادة الإنسانية النبيلة، تبقى تطلعاتنا حبيسة صدورنا، ولا تتوفر ممكنات التنفيذ.
لذلك فإن الرهان الثقافي الجديد، بحاجة إلى إرادة إنسانية مستديمة، تعمل على تحويل عناصر هذا الرهان إلى حقائق في الواقع الخارجي.
ومجالنا العربي والإسلامي، أحوج ما يكون اليوم إلى ثقافة جديدة ورهانات معرفية مستقبلية تلحظ حاجات الواقع ومتطلبات العصر وقيمنا الحضارية الكبرى. فهذه القيم والموجهات الكبرى، هي جسرنا الراهن لتجسير الفجوة بين الوعد والإنجاز، الواقع والأمل. فاللحظة التاريخية الراهنة، بحاجة إلى نمط جديد للتعامل مع جملة الظواهر الإنسانية، حتى يتسنى للأمة الانطلاق في رحاب البناء والتنمية والعمران الحضاري.