حين يكذب العالم ويكابر
دار حوار جميل في منتدى القراء الثقافي «مجموعة واتسبية تضم كوكبة من المثقفين من مختلف التخصصات والمعارف» حول رواتب العلماء والباحثين من جهة ورواتب لاعبي كرة القدم الكبار. وكان محور الإتفاق هو أن:
الناس تحتاج لمقدمي الترفيه كما هم محتاجون للعلماء المنتجين، على سبيل المثال، للأدوية واللقاحات. ولكن ”العلم لا قيمة له بدون الأخلاق والقيم والحكمة التي تقيد استخدامه فيما ينفع الناس، والترفيه لا قيمة له إذا تحول إلى صخب وضجيج وفوضى عارمة“. المشكلة في مسألة العلم والعلماء، هي افتقاد العلماء للأخلاق وبعض العلم قد يوجه لما يضر البشرية أكثر مما ينفعها، إما طلبًا للشهرة والوجاهة أو للمال، وهو حال الرياضيين وصناعة الترفيه. والأدلة كثيرة ومتراكمة منذ زمن بعيد، وهنا يحضرني كتاب كلاسيكي نشر في بداية الخمسينيات من القرن الماضي «1954» للكاتب داريل هاف «Darrell Huff» بعنوان ”كيف تكذب بالإحصاء“ «How to Lie with Statistics»، بمفارقة عجيبة لأن الراسخ في العقل الجمعي أن ”الأرقام لا تكذب“. ولكن المفارقة الأهم هو أنه قبل أيام تم اكتشاف ”كذبة إحصائية“ لأحد العلماء، في مصادفة جميلة مع الحوار الذي قدحه مشاركة من أحد أعضاء المنتدى الأفاضل.
نشرت مجلة ”تايمز أوف إسرائيل“، «Times of Isreal»، يوم 4 سبتمبر 2021، مقولة للأكاديمي الإسرائيلي الأمريكي الشهير دان أريلي Dan Ariely «باحث في علم النفس السلوكي»: إنه ”ارتكب خطأ بلا شك“ في دراسة شهيرة له تم لاحقاً اكتشاف أن بياناتها كانت مزورة.
وفي مقابلة مع القناة 12 الإسرائيلية، يوم الجمعة الماضي «3 سبتمبر 2021»، حسب المجلة المذكورة، نفى أريلي مسؤوليته عن التزوير وأعرب عن اعتقاده بأن سمعته ستتعافى من سلسلة من ”الإفشاءات الإشكالية الأخيرة“، حسب عبارته.
وأوردت المجلة في مقالها عن القضية التالي، قمت بترجمته عن الأصل الإنجليزي، وبتصرف.
أريلي أستاذ في علم النفس والاقتصاد السلوكي بجامعة ديوك «Duke University» ومؤلف الكتب الأكثر مبيعًا، بما في ذلك؛ ”الحقيقة الصادقة حول عدم الأمانة“ «The Honest Truth about Dishonesty»
في الآونة الأخيرة، أصبحت العديد من دراسات أريلي وأساليبه موضع تساؤل. كان من بين أهم الاكتشافات الإشكالية دراسة عام 2012 التي شارك أريلي في تأليفها. ووجدت أنه إذا ظهر ”إقرار الصدق“ في بداية النموذج قبل تقديم المعلومات الحاسمة، بدلاً من وضعه المعتاد في النهاية، فمن غير المرجح أن صاحبه يكذب.
تم استخدام الدراسة من قبل الحكومات وشركات التأمين في جميع أنحاء العالم التي قامت بتكييف عملياتها لاستمارات التصريح، حيث قال البعض إنها مكنتهم من تحصيل إيرادات متزايدة. لكن من المقرر الآن سحبها بعد أن اكتشف العلماء أنها تعتمد على بيانات مزيفة.
وقد قام ثلاثة أكاديميين غير مشاركين في الدراسة الأصلية بفحص البيانات وكتبوا في مدونة: أنهم وجدوا أن إحدى التجارب الرئيسية في الدراسة كانت مزيفة ”بما لا يدع مجالاً للشك“. قال الأكاديميون إن هناك ثلاثة مصادر محتملة للمعلومات المزيفة: أيرلي نفسه، أو شخص يعمل في المختبر معه أو شخص في شركة التأمين الذي قدم البيانات «على الرغم من أنه ليس من الواضح الدافع الذي يتعين على الشركة القيام بذلك».
اعترف أريلي منذ ذلك الحين بأن البيانات خاطئة، لكنه قال إنه استخدمها ببراءة، وقال لموقع Buzzfeed: ”لو علمت أن البيانات كانت مزورة، لما كنت أنشرها مطلقًا“. وقال للقناة 12: ”إن الكشف عن أن الدراسة لا قيمة لها كان حزينًا جدًا بالنسبة لي شخصيًا. إن ارتكاب الخطأ ليس جيدًا بالنسبة لي ولزملائي وعالَم البحث. لقد ارتكبت خطأ بلا شك هنا. لم أنظر بعمق كافٍ إلى البيانات وانتهى بي الأمر بإنتاج بحث أكاديمي لا يساوي شيئًا ويجب بالطبع حذفه من الأدبيات“.
في مدونة له عام 2020، اعترف أريلي وزملاؤه بأنهم عندما حاولوا إعادة إنتاج أبحاثهم، فإنهم في الواقع دحضوا استنتاجاتهم. وفي ورقة متابعة نُشرت أيضًا في عام 2020، تحت عنوان ”التوقيع في البداية مقابل النهاية لا يقلل من عدم الأمانة“، اعترف الباحثون بأن عددًا من الدراسات لم تتوصل إلى نفس نتائج البحث الأصلي.
قال أيرلي للقناة 12: ”أحيانًا تحدث الأخطاء ببراءة في البحث“، وأضاف: ”يمكنك أن ترتكب خطأً واحدًا وتقول: هذا يظهر أن كل شيء لا قيمة له، أو يمكنك أن تنظر إلى مجموعة أبحاثي وتقول تحدث أخطاء مؤسفة، وسيئة، وخطيرة، وتحتاج أن تتعلم من ذلك… وتمضي قدمًا “.
وقد تبين أيضًا أن أريلي تم إيقافه من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «MIT» وغادر المعهد في النهاية بعد أن أجرى تجربة باستخدام الصدمات الكهربائية دون الحصول على موافقة من ”لجنة الأخلاقيات“ التابعة للمعهد. ولكنه، قال للقناة 12: ”لا أحب عمومًا خرق القواعد. كان لدينا خلاف. اعتقدت أنهم وافقوا عليها، قالوا إنهم أرسلوا رسالة أخرى بها المزيد من الأسئلة. لا أتذكر تلقي تلك الرسالة... لقد علقوني لمدة عام. لم يكن الأمر مريحًا لي لكنني وجدت أشياء أخرى لأفعلها، وبعد ثلاث سنوات غادرت“.
وقد أعرب ”عضو مجهول“ من فريق البحث عن شكوكه في مثل هذه التفسيرات، حيث قال لموقع HaMakom الشهر الماضي: … ”أيرلي لا يعتقد أنه يتعين عليه اتباع نفس القواعد مثل أي شخص آخر. لم يعتقد أنه سيتم القبض عليه“.
والملفت في القضية أن هذه ليست المرة الأولى التي يتورط فيها أريلي في الجدل حول ”الخلاف حول دراسة الصدق“. في مقابلة عام 2010 مع محطة NPR الأمريكية، استشهد ببيانات من شركة طب أسنان قالت الشركة إنها لم يتم جمعها ولم تكن موجودة. قالت الشبكة في وقت لاحق أن ”تأكيد أريلي غير المدعم بالأدلة أضر بشكل غير عادل بسمعة العديد من أطباء الأسنان النزيهين وزرع بذرة عدم الثقة مع المرضى“. كما خضع عدد من دراسات أريلي الأخرى للفحص، حيث لم يتمكن باحثون خارجيون في وقت لاحق من تكرار نتائجه.
ورغم كل هذا يقول أريلي للقناة 12 الإسرائلية: ”ليس الأمر أنني لم أرتكب أخطاء قط. فلنفترض أن الناس يرتكبون أخطاء في عُشر بالمائة من الحالات - إذا قمت بأربعة أشياء، فإن احتمالات ارتكابك لخطأ أقل. إذا فعلت المزيد، فقد يكون هناك المزيد من الأخطاء“.
ولكنه يعترف أنه بسبب الجدل القائم حوله: ”أعتقد أن سمعتي الأكاديمية ستتضرر. لكن لدي صبر وأعتقد أن دراستي تتحدث عن نفسها... بعد خمس سنوات من الآن، سنقوم بمزيد من الدراسات الجيدة التي سنقوم بها وسيتفحص الناس التفاصيل ويرون أنها بخير، وسنواصل المضي قدمًا“.