آخر تحديث: 21 / 12 / 2024م - 5:28 م

مع أو ضد؟

وسيمة عبيدي * صحيفة اليوم

أجسام ناحلة جدّاً تكاد تكون مجرد عظام يكسوها جلد برزت تضاريس تلك العظام من ورائه. بشرة حرقتها أشعة الشمس حتى فقدوا إحساسهم بها. أقدام مجرحة حافية وملطخة بالطين والوحل. ثياب ممزقة ورثة بالكاد تستر تلك الأجسام النحيلة. أعين احتبست فيها الدموع ولم تعد تتطلع إلا لنهاية يومها. لم أكن أرى تلك المناظر إلا في أسفاري. في الهند مثلاً، ما أن تقف عند إشارة مرور حمراء حتى ينهالوا عليك من كل حدب وصوب يشيرون لأفواههم طالبين بعض المال لشراء لقمة تسد جوع أيام. إذا كان ما وصفته سيئاً فربما الأفضل أن تتوقف هنا عزيزي القارئ لأن الجمل القادمة ستكون أسوأ. ففي بعض الحالات كان للمتسول الذي نصادفه عاهة جسدية، مثلاً محروق الوجه، مفقوء العين، مشروم الأنف، مقطوع اللسان، أو مبتور أحد الأطراف أو أكثر من طرف. الأسوأ من كل ذلك عندما يكون ذلك المتسول ذو العاهة الجسدية طفلاً.

عندما يصادف أي إنسان طبيعي تلك المشاهد لن يسعه إلا الإحساس بالألم والشفقة عليهم ولن يشعر بنفسه إلا وهو يمد لهم يده ببعض الأوراق المالية وربما لن ينتبه لفئة الأوراق، التي أعطاهم إياها في اللحظة، التي كان لا يزال مصدوماً فيها من بشاعة المشهد، الذي رآه، والذي لن ينساه طول حياته.

لمَنْ يتذكر فيلم «المتسول» للممثل الرائع عادل أمام، الذي عُرض سنة 1983م وكان يحكي قصة شاب قروي «حسنين»، الذي ذهب لخاله في المدينة بعد وفاة والدته على أمل أن يجد له عملاً فيفشل في كل الأعمال ثم يقابل «خليل» سيد زيان، الذي يعده بالمأكل والمشرب والمسكن ويأخذه لوكر عصابة تستغل المتسولين باحترافية وتنظم شؤونهم ليعمل معهم كمتسول ثم تتحسن حياته. كل ما يهمنا في الفيلم هو المشهد، الذي يقوم فيه بعض أفراد العصابة بحمل طفل يصرخ ويحاول مقاومتهم لكن بدون جدوى. يدخلونه لغرفة ويستمر في الصراخ فيسأل حسنين خليل ماذا يفعلون به؟ فأجابه أنهم يعطونه شهادة بكالوريا للمتسولين، التي سيأكل من ورائها الذهب. كيف؟ بفقء عينيه!

لقد فتح هذا الفيلم أعيننا على إمكانية استغلال المتسولين لنا ماديّاً عن طريق استجداء عطفنا وشفقتنا وأعتقد أنه فتح أعين أشخاص آخرين أيضاً على إمكانية استخدام التسول كمصدر رزق أو حتى كمصدر للثراء الفاحش.

لنستعرض الآن معضلتنا الأخلاقية لهذا الأسبوع، التي أنا شخصياً كثيراً ما أواجهها وأحتار في أمري. لتتخيل أنك تمشي في الشارع وأنت في عجلة من أمرك، يتقدم ناحيتك طفل في الثامنة من عمره، مهلهل الثياب، حافي القدمين، يطلب منك بعض المال ويخبرك بأن لديه أمّاً وإخوة صغاراً ينتظرونه ليجلب لهم بعض الطعام. تنظر له وتتساءل ما الذي يدفع طفلاً في هذه السن للخروج من المنزل في هذا الجو الحار وتحت أشعة الشمس اللاهبة والسير لساعات طويلة حافي القدمين ليستجدي عطف وشفقة الناس؟ إن لم تكن الحاجة فماذا إذا؟ أنت تعلم أن هنالك جمعيات خيرية كثيرة تساعد الفقراء لكن ربما أم هذا الطفل لا تعرف الطريق لها. أو ربما إجراءات الحصول على المساعدة طويلة ومعقدة. ماذا ستفعل؟ هل ستتركه دون مساعدة لقناعتك بأن الجمعيات والمؤسسات الخيرية تقوم بواجباتها وأكثر، وربما هذا نوع من التسول الاحترافي باستغلال هذا الطفل ليجمع الأموال باستدرار عطف الناس! أم ستساعده وتكون بذلك قد شجعت على التسول بالرغم من علمك بأضراره على الوطن والمجتمع وبالرغم من إدراكك أنك ربما تضع صدقتك في غير موضعها الصحيح؟