السيد الحكيم مرجعاً كلاسيكياً
يتصور البعض أن المرجعية هي أمر حادث وجديد احتاجه أتباع أهل البيت في زمن الغيبة، بينما المتأمل والباحث سيجد أن المرجعية الفقهية كانت في زمان المعصوم، حيث كان الإمام يأمر بعض أصحابه بالفتيا لأتباع أهل البيت.
ورغم تطور المفهوم وأخذه أبعاداً كبيرةً، مما جعل من مسؤولية الفقيه الحفظ التشريعي والتعليمي وكذا التطبيقي للإسلام، حيث يقوم الفقيه بمراقبة ما يطرح من إشكالات عقائدية وفكرية معاصرة، إضافة لمعالجة المسائل الفقهية المستحدثة.
وبين فترة وأخرى تظهر أقلام تحاول تصنيف المراجع إلى كلاسيكي وحداثي وناطق وصامت وغيرها من التصنيفات التي لا واقع لها ولا ربط بحقيقة المرجعية وأدوارها.
فالمرجع الكبير سماحة آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم والذي انحدر من أسرة علمية ومرجعية عامة، امتازت بأدوار كبيرة في مقارعة الانحرافات التي وقعت على الأمة الإسلامية؛ فجدّه لأمه هو صاحب فتوى ”الشيوعية كفر وإلحاد“ وهو من أعمدة ثورة العشرين التي قادها الشهيد السعيد والمرجع الكبير السيد محمد سعيد الحبوبي.
فالسيد الحكيم له باع طويل في مختلف العلوم، وهو الموسوعي الذي تطرق إلى عدة أبواب وفنون؛ فالجانب العقائدي وما طرحه من خلال كتابيه في رحاب العقيدة وفي أصول العقيدة اللذان لا يستغني عنهما المؤمن لترسيخ المفاهيم العقائدية، وهو الذي تطرق إلى باب الشعائر في كتابه المعنون ”بفاجعة الطف“.
ورغم كبر عمره الشريف إلاّ أنَّه كانت له رسائل وحوارات؛ كرسالته الموجَّهة للمغتربين ورسالته للمبلِّغين وطلاَّب الحوزة، إضافة لامتيازه وهو في هذا العمر كان يقوم بمراجعة وتنقيح واستكمال كتبه الفكرية رغم انشغاله بأعباء المرجعية.
أما الكتب الفقهيّة والأصوليّة والاستدلاليّة فقد تكفَّل الأعلام ببيان شأنها ودقائق ما طرحه فيها، وأنَّى لمثلي أن يتحدث أو يصل إلى كنهها.
فأدواره الرسالية التي قام بها في مختلف الجوانب العملية والعلمية، وتحمله أعباء السجن التي كانت من أجل الحفاظ على المبادئ، وعدم المساومة بحضوره مع العائلة في المؤتمر الذي أراد البعث أخذ الشرعية في الحرب المفروضة بين البلدان الإسلامية، حيث تعرضت جُلُّ الأسرة الكريمة من آل الحكيم للاعتقال حتى طال الأطفال منهم.
فتعرضت الأسرة إلى سيل من التعذيب وبطرق بشعة، حتى نال جملة من أعلام الطائفة وسام الشهادة على أيدي البعث المعادي للدين الحنيف، فكم تعرض قدس سرّه للتعذيب الجسدي والنفسي، والذي أثَّر على وضعه الصحي، كما أُخضع خلال فترة سجنه إلى تسجيل ثلاث كلمات لإدانة الحرب، ولكنّها كانت تبوء بالفشل، ويتوقف البعث عن نشرها لأنها لا تخدم مصالحه.
ومع كل هذه الصعاب استطاع أن يحول السجن إلى حوزة علمية، فشرع بالتدريس رغم حرمانهم من أبسط الحقوق، وهي المصادر العلمية للدروس، لكنه بقدرته الفائقة وتمكنه العلمي استطاع عرض المطالب العلمية، بل قام بتأليف أحد كتبه مستعملاً أوراق السجائر، وقد اضطر لاحقاً لإتلاف هذا الجهد العظيم بسبب حملات التفتيش داخل السجن وهذا بحد ذاته مأساة على قلبه الكبير.
هذه الظروف الاستثنائية تعيد بنا التاريخ إلى أيام الإمام الكاظم، وغيره من الأئمة الّذين تعرضوا للسجن أو الإقامة الجبرية، والتي كانت أوضاع بعض السجون كالمطامير لا يعلم ليلها من نهارها، حتى إنه في استدعي ذات مرة من قبل أزلام البعث، ومن باب الاستهزاء والاستخفاف نادى أحدهم بأن جئنا لكم بموسى الكاظم، ورغم وقع المأساة على قلبه، إلا أنه بروحه المعنوية الكبيرة استجمع قواه وصموده.
فقد أصرَّ المرجع المفدّى على إقامة وإحياء مناسبات أهل البيت في تلك الظروف العصيبة، سواء داخل السجن أو بعد خروجه، متحدياً النظام البائد عبر إحياء مناسبة الأربعين وغيرها، حتى آخر عمره الشريف، وبرغم وضعه الصحي؛ فقد كانت له المشاركات الفاعلة في المواكب وخصوصاً شعيرة الأربعين الخالدة.
وهو بهذا العمر المديد في الطاعة والابتلاء بالأمراض، نجد له تصريحاً اقتبس منه بتصرفٍ لمعرفة بعض موائزه قدس سره حيث يقول: ”ولولا الخوف من الله وأداء الواجب لما استطعنا أن نقف هذا الموقف من الإرهاب، وهو موقف عنيف لهدم الإرهاب، وهذا ناشئ من المسؤولية أمام الله، وليس همنا الدنيا، فقد رأينا أن مصدر قوتنا ديننا“، ثم يعقب: ”أسأل الله أن يشركني في ثوابهم، وإنني أتمنى أن أكون معهم لكن وضعي أصبح أعجز من أن أمشي خطوات فضلاً عن أن أمشي مسافات“.
هذا النص التاريخي يحتاج أن يعطى حقه ويُستلهم منه الدروس والوقفات التي من أهمها: نظره إلى دعم المرجعية العامة، والتي هي مصدر عز المذهب، وأن حركة المراجع هي حركة تكامليّة، لذا تسمعه في أكثر من لقاء له بالشباب يذكرهم ويحثهم على الحفاظ على تلك الفتوى المباركة التي صدرت من المرجع الأعلى للطائفة السيد السيستاني دام ظله في الجهاد الكفائي، وهذه الإشارات واللطائف تنم عن رؤية ثاقبة لأهمية العمل بروح واحدة، وليست حركة فردانية، أو تنافساً للمرجعيات.
فلا غرو أن يرحل المرجع المفدى في يوم استشهاد جده الإمام السجاد ؛ فقد شاركه وراثة الشهداء وشابهه في تحمل أعباء الأسر، ولا نبالغ إن قلنا بأنه تخطيط سماوي.
فقده خسارة للعالم الإسلامي أجمع، ولجميع الحوزات العلميّة، التي لا تخلو من تلامذته الذين تربوا على يديه، ونهلوا من علومه ومعارفه، وانتشروا في أصقاع المعمورة.
فسلام عليه يوم ولد، ويوم انتقل للرفيق الأعلى، ويوم يبعث حياً، ورحمه الله رحمة الأبرار وحشره مع أجداده الأطهار، ورزقنا في الآخرة شفاعته، كما وفقت وحظيت بدعائه الخاص في كل زياراتي لأئمة العراق سلام الله عليهم.