آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 9:00 م

تَدرِيسُ الصَّفِّ الأَوَّلِ الابْتِدَائِي.. مُتْعَةٌ أَمْ مَشَقََةٌ؟ حَدَثٌ وَحَدِيْثٌ 2

عبد الله أمان

لا تتطلب مِهنة التدريس تأبط مَنجل؛ أَو حمل مِعول؛ أَو اصطحاب مِطرقة؛ أَو ما شَاكلهم، مِن أَدوات القطع، أَو الحفر، أَو الطرق… إِنَّما هي مهنة تربوية شريفة محترمة، تتطلب مزيدًا من الصبر الجميل، وطول الأَناة، وسعة الصدر، والمواجهة القائمة، والمثابرة الصادقة، والتجريب الميداني، والمتابعة المواكبة، والسعي المتجدد الدؤوب إلى تحقيق سلة الأَهداف المرسومة؛ وقبول متطلبات المهنة المنظورة، وانتهاج أَدبياتها ذاتيًا، كرسالة تربوية خالصة سمحة، لا تشوبها شائبة؛ ولا تعيبها عائبة؛ عندئذٍ لابد أن يُرى نصل مؤشر المتعة المتسامي الذاتي في أَعلى قمة تصاعده المستمر، وفي عَنان استقامة أُفقه الناهضة، يتقاسمه الندان: المعلم مع تلاميذه معًا، وعلى أَثر ذلك المنحى الثنائي المشترك القويم، تنتحر كُل ”تجاعيد“ المشقة الوقتية؛ وتتبخر جُل متلازمة أَعراض وأَوجاع ”الشيخوخة“ المرضية العَرَضِية، عند منبع محط قطبي العملية التعليمية - المعلم والمتعلم - وهنالك تسمو وتعلو الرسالة التربوية بأَسمى أَهدافها السمحة الراقية؛ وتتحقق جودة بوادر التعلم النشط، في عمق مساراته التربوية الصحيحة!

وفي أَقرب محطات تدريس مادة اللغة الإنجليزية للصف الأَول الابتدائِي، قاربت خبرتي العملية مِن العقدين مِن الزمن، آنذاك… ولأَن المادة جديدة ومثيرة لأَذهان وعقول التلاميذ، كان لزامًا أَن ينتحل المعلم أَقصى ما يملك مِن طريقة تريوية مُثلى؛ ويسلك أَمضى أُسلوب أَدائي مُمكن؛ ويتسلَّح، بين الفينة والأُخرى، بأَحدث مستجدات تطوير زخم الطرائق التدريسية؛ ويبادر بانتهاج واصطياد نَسق الأَساليب الميدانية المطورة؛ لإِنجاح الدرس؛ وإِحراز تقدمٍ مدروسٍ ملموسٍ؛ لإِحدات واستحثاث عملية التعلم الفعال، بدفتيها الأَنيقة المتجددة، قلبًا وقالبًا!

وكنت مِمَّن يراني مِن حولي - ولا فَخر، ولا تَمَدُّح - مِن زملائي الكرام مِن أُسرة التدريس بالمدرسة مُواضبًا، مُهتمًا، باذلًا أَقصى الجهد في تدريس مادة اللغة الإِنجليزية، إِعدادًا، وإِخراجًا، ومتابعة… وللاقتراب اليقظ مِن تقديم فنيات تدريس المادة ذاتها لأَذهان الناشئة، وقبولهم لها منذ نُعومة أَظفارهم الغضة؛ ولتحقيق جُملة الأَهداف التربوية العريضة، لا بد من زرع بذور الاهتمام التربوي الشامل الكامل؛ وتحقيق الإِلمام المعرفي العارف بطبيعة الهيكلة التكوينية للمرحلة العمرية للتلاميذ في سِني طفولتهم المبكرة، والإِحاطة بها مِن جميع جوانبها التامة الشاملة؛ ثم قدح زِناد الانطلاق التربوي المتدرج السلس؛ لتحقيق وانجاز قائمة الأَهداف البكر المرسومة العامة، جملة وتفصيلًا!… وما بين سُطور وفِقرات تلك المتطلبات المُضيئة، وبُنود ونصوص تلك المعطيات القَويمة، فقد رسمت خُططًا مدروسة؛ وأَعددت قوائم أَساليب استراتيجية عملية تربويةً رصينة، قابلة للتطبيق العملي، داخل وخارج غرفة الدرس، ومنها على سَبيل المثال، وغِرار الاختصار الشديد:

1. إِنَّ المقرر الدراسي لا يمثل المرجع الإِلزامي الحرفي لكفاءة وجدارة انطلاقة منهجية التعلم النشط، إِنَّما هو أَحد اللبنات الأَساس في زاوية مجمل العملية التربوية الشاملة؛ فالمعلم الناجح النبيه يستنطق، بذكاء وفطنة، مجمل ”زبدة“ مادة الكتاب المُقرر، ويسقيها تكرمًا؛ ويغذيها متابعةً؛ وينميها طوعًا؛ ويشبعها وَلاءً بالطرائق القويمة المثلى؛ ويرعاها تفضلًا وتفصيلًا بالأَساليب السديدة المناسبة، وفق أَفضل وأَنجع وأَنجح وأَنضج مُستخلصات منظومة النظريات التربوية الحديثة الشاملة؛ لإِحداث واستحثاث أَحدث استراتيجيات التعلم السريع النشط… لذا سعيت - منذ أَول يوم دراسي - إِلى تأْسيس علاقة وثيقة وطيدة مع تلاميذي؛ وزرع بذور الثقة المتبادَلة بين أَوساطهم؛ وإِحلال مشاعر القبول بين ?َطرافهم؛ وتعزيز وتقوية ريع وريعان الاستجابات السلوكية والتعليمية المُشاعة في أَقرب حينها، بالتشجيع الحافز، والثناء النافذ، والمديح الدافع؛ لصقل قمم تَل خِبراتهم الذاتية، وبناء هَرم مهاراتهم الفردية والجماعية، على حدٍ سواء!

2. وبادِئٍ ذِي بَدئٍ، لابُد أَن يقدم المعلم أَساليب ومجاملات التحية في بداية اللقاء الأَول؛ ويشبعها تسكينًا وتدريبًا؛ ليتبادلها تلقائيًا لاحقًا، مع تلامذته، في بداية كل درس، كمدخل أَساس، وديدن استهلال؛ لتهيئة أَذهان التلاميذ لفقرات الدرس الجديد؛ وإِزالة مخاوفهم الكامنة، منذ بداية العام الدراسي!

3. وانطلاقًا مِن حقيقة فترة زمن التركيز الذهني المواكب عند التلاميذ، لمتابعة سير الفعالية الواحدة، والتي لا تتجاوز «7-10» دقائق؛ لذا كان لزامًا تنويع وتجديد وتوسيع حلقات سلسلة الفعاليات الصفية المترابطة، طوال وقت الحصة الدراسية؛ لضمان استغلال واستثمار وقت الحصة كاملًا، تحت طائلة غِطاء مِظلة تأَجج أَشواط غاية الحماسة المتنامية؛ وتصعيد بريق الجذب المستوطن؛ وشد خيوط الانتباه المتيقظ؛ وتوسيع مُحيط دائرة الاستغراق الإِيجابي في تعلم ونهل أَساسيات ومبادئ اللغة…!

4. إِنِّه من المُجدي عِلميًا والمُفيد تَربويًا، تقديم أَصل المفردات اللغوية الجديدة، مصحوبة بأَشكالها الطبيعية، أَو بصورها المماثلة، أَو بنسخها البلاستيكية، وعرضها أَصالة أَمام التلاميذ، واحدة، واحدة؛ مصحوبة بالتمثيل اللفظي للمفردة المنطوقة المقدمة؛ إِضافة إِلى ذلك النَّسق اللغوي المتبع، لا بد مِن توخِّي جودة وسلامة مخارخ اللفظ الصحيح؛ ولا أُبالغ هنا، بتوضيح واجتهاد، برسم المخارج الصوتية للمفردة المنطوقة، لأَول وهلة، بصورة تشريحية مفصَّلة، أَمام التلاميذ؛ واتباع ذلك التمثيل الأَدائي الحي، صوتًا وأًداءً؛ وإِتاحة الفرصة للتلاميذ لاستقبال واستخدام أَكثر من حاسة، في وقت واحد، عند تلقي سماع المفردة الجديدة: «السمع والبصر واللمس…». هذا، ولا شك، في أَن مثل ذَيَّاك الأُسلوب الخاطف الجاذب يعزِّز ويسرِّع من جودة وسرعة وكفاءة التعلم الإِيجابي الصحيح؛ ولاحقًا، يطلب إِلى التلاميذ أَنفسهم بترديد المفردة، بشكل جماعي، ثم فردي؛ بعدها يطلب إِليهم، مُنفردين، بالمثول أَمام الفصل لسرد قائمة المفردات المقدمة، بأَشكالها الطبيعية، أَو بنسخها البلاستيكية، رغبة حثيثة في بلوغ مرحلة الإتقان اللفظي. ولاحقًا، يتم تشكيل ورسم الحروف؛ وبعدها تقديم رسم الكلمات المرادفة!

5. يُعدُّ اللعب المنظم أُسلوبًا أَساسًا مَاتعًا، لا مَناص منه في طبيعة غريزة النشاط الطفولي؛ يهدف إِلى تأْسيس وصقل مُدركات الأَطفال الحسية؛ وبناء ونماء مَداركهم العقلية؛ وتفريغ طاقات النشاط الزائد عندهم؛ وتحبيبهم إِيجابيًا إلى أَدوار العمل الجماعي الماتع؛ وتوثيق الروابط الاجتماعية المشتركة المُثلى بين الأَقران؛ والتدرب التعاوني الموجَّه على تقمُّص الأَدوار الفردية والجماعية؛ والتغلب على مشاكل الخجل النوعية؛ وإِنتهاج الانخراط الإِِيجابي السلس في جو ساخن مثير مِن المشاركات الجماعية التعليمية/ التعلمية الهادفة.

6. أِنَّه من حُسن الحظ، أَنِّي عملت في مدارس الهيئة الملكية بمدينة الجبيل الصناعية المتطورة، قلبًا وقالبًا؛ وقد استفاد التلاميذ كثيرًا مَن طفرة برامج وعروض السبورة الذكية المثيرة، المزودة بكل فصل دراسي، ليس كمستمعين ومتلقين، بل مشاركين نشطين فاعلين في المشاركة التشغيلية، وتقمص الأَدوار، واقتناص المبادرات؛ والتحدت الطلق، لاحقًا؛ وهذا أَصل لازم، وأَمر واجب مِن جَوف حقيبة حُقوقهم التربوية الثابتة، التي يجب أَلاَّ تُهمل، ولا تُهمَّش، ولايُنتَقص شيىء مِن شأْنها، عند تدريس مَبادئ اللغة الإِنجليزية؛ لاستيلاد وإِشاعة التَّعزيز الإيجابي المثمر لسابق خبراتهم المكتسبة منها واللاحقة، وكذا مخزون تعلمهم القَبلي!

7. ومن المواقف الصفية التي كنت أَنا وتلاميذي أَنتهجها بمرونة وسلاسة في كل حصة، قدح زناد مِزمار الإِنشاد الحماسي الجماعي، وترديد أَعرق الأَناشيد الإِنجليزية التقليدية، بزهو إِيقاعاتها المتناغمة، ورقة لكنتها الأَصلية الأَصيلة، مشفوعة بمُكملاتها مِن الإِيماءات والإِشارات التعبيرية، بغية تقويم وتهذيب أَلسنة التلاميذ، وإِمتاع أَسماعهم، وإِذكاء وحفز وِعاء حافظتهم البِكر… وكم أَفرحَ وأَثلجَ صدري، وأَثار حفيظتي المتواضعة رِزم من فَيض التعليقات الماتعة، وحُزم مِن كَثرة التغذيات الراجعة أَصالة، مِن إِهداءات أولياء الأُمور الكرام، بإِبداء سُرورهم الغامر؛ والإِعراب الذاتي عن ارتياحهم الجَم، عِندما يستمعون بأَريحية وشفافية إِلى أَولادهم وهم يرددون الأَناشيد بحرية ذاتية طلقة في عُقر منازلهم، وفي أَوقات راحتهم، وفي أَجواء رحلاتهم. والأَبلغ مِن ذلك البوح الذاتي المُجزي، أَنَّ بعض الأَطفال يتقمص دور المعلم مع إِخوته الصغار، داخل المنزل!

8. وكثيرًا ما كنتُ ”أَتمرَّد وأَتصابى“ وأَخرج مُنتفضًا مُنحرفًا عن أَساليب وقيود الدرس التقليدية، مُصطحبًا تلاميذ الصف في صفين منتظمين، إِلى خارج الفصل؛ لأَتوقف هُنيهة عند الممرات الداخلية، مشيرًا بالمؤشر إلى كل ما يواجهني مِن مُحتوى ظاهرٍ، مُرددًا مسمياتهم؛ والطلاب يرددون مِن حولي… ويبرز الهدف في توسيع المخزون اللغوي الرئيس عند التلاميذ؛ وإِكسابهم الجُرأَة الذاتية، والثقة النفسية، والطلاقة اللفظية؛ ولا أكتفي بنفرة ذلك المسعى الشاطح، بل أُكمل المسيرة الحثيثة إلى أَفنية المدرسة، في طول مِشوار جولة تعليمية ترويحية، خاصة في الحصص الأَخيرة من الجدول الدراسي، حيث يبدأُ الملل يتسرب إِلى أَذهان التلاميذ. وهناك - أَثناء مسيرتهم الحُرة المتَّئدة - يقوم التلاميذ بعَدِّ الأَشجار، والطيور...، ومتابعة ترديد الأَناشيد بصوت جماعي متناسق!

9. وكثيرًا ما أَُحضر وأََعرض كتبًا تعليمية ذات حجم كبير «Big Book»، إِلى غرفة الصف، تحوي صورًا مُكبرة مُثيرة مُلونة: «كحيوانات المزوعة» مثلًا، أصيغها في موقف جذاب؛ أَو أَحكيها مُواجهة بأُسلوب مُبسط بأَحداث قصة قصيرة… ولاحقًا يأْخذ بعض التلاميذ - بشكل فردي دور ”المعلم الصغير“ أَمام الصف، بعد التدريب المكثف… هذا النشاط الطلابي المُتقن المُميز يثير انتباه الزائرين؛ وينال إعجابهم، واستحسانهم!

10. وعادة ما يندهش الزائرون والمقيمون عند زيارتهم للصف الأَول الابتدائي، مَرة أُخرى، وإِذا بهم أَمام مشهد تمثيلي متقن، وقد أَداه مجموعة مِن التلاميذ أَنفسهم، بترتيب بادٍ، وإتقان ظاهرٍ، وحوارٍ لغوي جيد… وقد تم تدريبهم مُسَبَّقًا على تقمص مُختلف أَدوار ذلك المشهد المتكرر، على أَرض الواقع، بشكل مُطابق مُماثل، لما يجري داخل أَجنحة عيادة الحي الطبية… مريض يدخل بسعالٍ متكرر، ومِشيةٍ خَائرة مُترنحة؛ ليستقبله المُمرض في غرفة التحضير؛ ويقوم بما يلزم المريض مِن حِوار استبياني، وإِجراء تشخيصي أَولي؛ ثم يصطحبه، بعد ذلك، إِلى غرفة الطبيب؛ ليقوم الطبيب نفسه باستكمال التشخيص، مستخدمًا السماعة، وفحص حلق المريض، بمصباح ضَوئي صَغير؛ ثم يحرر له كالعادة، وصفة بالدواء؛ ليذهب إِلى الصيدلاني لصرفها، بحوار هادئ، وملفت للانتباه… كل أَطراف تلك المواقف الحوارية، بسلاسة أَدائها الحركي المميز؛ وجُل تلك المهام الأَدائية الحوارية الصِّنو، ببساطتها الملحوظة، تتم داخل غرفة الصف، على مَرأَى ومَسمع من الزائرين والمقيمين!

هذا، ولا ويُسعفني المجال؛ ولا يَسعني رقاع هذه الخاطرة الماطرة، لسرد واستطراد الكَثير والمُثير مِن تدفق سيل الأَنشطة الممارسة، ونشر تواتر الفعاليات الصفية المبتكرة، المنصبَّة في أَهدافها الجوهرية في تسكين وتمكين مبادئ وأَساسيات تعلم اللغة الإِنجليزية بكفاءة وسلاسة ذاتيتين، وتقديمهما، بحماسة ظاهرة، وعناية مُثلى، ومُتابعة دؤوبة؛ ابتداءً من بداية فترة الطابور الصباحي الباكر، وخِتامًا برُكوب الحافلة!… وهنا، تتجلَّى، بوُضوح مَلحوظ، وتتكشَّف بصُدوح مَشهود، نشوة مُتعة التعلُّم المشتركة الغامرة، التي لا تُضَاهَى، ولا تُضَارَع، بين مشاعر المعلم المخلص المؤدي لجوهر رسالته التربوية القويمة، وجَمع تلامِذته المُتشوقين المُتلهفين؛ لاستيعاب وتعلم ما يقدم لهم مِن مادة تعليمية جديدة، مَكسوة بفائق المرح؛ ومُتوجة بِبَريع المتعة؛ ومُغلفة بنسيج الدَُعابة! وهنالك ينال المعلم كامل أَجره المعنوي الفوري الأَوفى؛ وينعم المتعلم تِباعًا، في الوقت ذاتة، وفي مقعد درسه الآمن، بجذب وتسلم قِسطه الوافر الظافر مِن شِغاف قلب جَودة التعلم الفعَّال المُثمر؛ وصدق مَن قال: «مَن جَد وَجد؛ ومَن زَرع حَصد».