آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:41 م

صَحْوَةُ اللَّذَّةِ

عبد الله أمان

يعرِّف مُعجم المعاني الإِلكتروني ”اللذَّة“ بأنَّها: «إِدراك الملائم مِن حيث إِنَّه ملائم، كطعم الحلو عند حاسة الذوق، والنور عندالبصر، وحصول المرجو عند القوة الوهمية، والأُمور الماضية عند القوة الحافظة تلتذ بتذكرها». وهُنا يبدو لنا من تعريف مُصطلح ”اللذة“ المُعجمي المَعنِي هو شعور عام شامل متكامل، تتقاسمه وتتحاصصه سائر مُختلف الحواس الوقَّادة بنسب مُتفاوتة، فلذة الطعام ”المُسَبَّك“ الجيد الإِعداد والطهي مثلًا، تكسبه نكهة؛ وتمنحه رائحة مميزتين، اشتهاءً واستهواءً، رغبة في تقديم وتناول الطعام الشهي الهنِي، ذاته ”ساخنًا أو باردًا“ يُضاف إِلى حُضور رَسميات ذلك ”الأتيكيت“ التقليدي، الباعِث على حَفز واستحثاث بوادِر اللذة البيولوجية الوقتية الظاهرة، بحضرة بيئة ”السُّفْرَة“ المُعَدَّة الجاذبة، والمُرتَّبَة مُسبقًا؛ وما يحيط بأَطرافها مِن أَثاث فاخر؛ وما يعلوها من لمسات مَكانية ناعمة مُريحة؛ وما يزينها مِن إِنارة هادئة مُختارة؛ مُتوجة بشيوع جو شاعري جذاب؛ ومُزودة بتكييف مناسب؛ ومُحاطة بنظافة ملحوظة؛ ومُجهزة بديكورات جميلة؛ ومُخرجة بحُسن إعداد؛ ومُتابعة بفائق براعة؛ ومُسداة ببالغ ترتيب، وحُسن تدبير… وهنا يبرز، بوضوح، مَفهوم مَوصوف؛ وينتصب بصدوح مَدروس مَعروف ”بالتواصل البيئِي“ لَطَالما استلطفه واستخدمه - في عمق مَيدان بيئة الاتصال القائمة - الباحثون المهتمون بدراسة مفاهيم علم ”التواصل الشامل“. هذا، وتهدف بؤرة المكان المذكور الموصوف آنِفًا إِلى إِضفاء وإِسداء أوسع أَحاسيس اللذة الشهية؛ وإِحلال أَصدق مَشاعر المتعة المِضياف، المتزامنتين في صَهوة سَناء ضمير الوجدان؛ واستشعار طائفة مثلى مُتداخلة مِن أَسمى مُحفزات الاسترخاء؛ لإِِكساب وجلب فيض مِن أَرق طيات مشاعر الراحة والاستجمام، والقبول…!

ولا أَكاد أُنكر بأَنَّ هناك حَواسًا أُخرى، تُسانِد وتُساعِد وتُعاضِد حَلاوة الطعم الطيب المُستساغ، وكأَنَّها تهتف، مُجاملة ومُلاطفة، بلسان حالها اليقظ الجَواد، برفق مِن حَولك؛ وتجامل بأَصدق سماحة؛ وتشافه بأَلطف أَريحية، ذاتيتين: ”هنيئًا ومَريئًا“ … فبيئة تناول الطعام الفاخرة الزاخرة بحُسن إِعداد؛ والمُعَدَّة بكمال تنسيق، وتمام ترتيب، لها مَفعولها السحري الجاذب الموآزِر، ومُحفِّزها المسترسِل الشاطِح في شُيوع وذُيوع طُعوم اللذة الظاهرة. إِضافة لِمَا يحيط بأَطراف ”سُفرة المائدة“ اللاَّفتة للنظر، مِن أَعز ثُلة الأَحباب، ومِن خَاصَّة جُمعَة الأَصحاب، وما لهم مِن عظيم الدور الإِِيجابي النشط الملموس في إِشاعة وإِظهار وتقاسم مَراقي اللذة البِكر، القائمة المستشعَرة فسيولوجيًا ووجدانيًا واجتماعيًا، وبشكليها التوأَمين: ”البينشخصي، أَو الجماعي“!… ولعل إِحساس مَشاعر اللذة الفسيولوجية المُستنفرة المحسوسة ذاتها - في زَهو مُجمل وُرودها السَّلِس، وكمال حُسن بزوغها الدَّمِث - سلسلة ذهبية نفيسة مُترابطة مُتداخلة الحلقات، تُوثِّق أَصل مَنظومة مُتجانسة مُميزة مِن نسيج مُلون مُتباين مِن نُسق متماثل، مِن خليط مِن باكورة صحوة اللذات، ورَيعان رِفد الملذات المتمازجة، تتقاسمها وتتحاصصها مختلف مَجاس ومَسابر الحواس الند الحاضرة، ولكنها تختلف طَرديًا في شدة توثيقها، وتمام قوة تأثيرها الحافز؛ واكتمال تحمل مَفعولها النشط؛ واستتمام تجشم مُعظم مَراحل مهامها المشتركة التكميلية؛ فلذة الطعام البيولوجية المحسوسة قد تكون وقتية، مُحددة بمكان وزمان آنيين. وهناك تسود وتجود بحلاوتها الضافية، بفائق لُطف؛ وتندى بطلاوتها البرَّاقة، بأَنعم طلعة؛ وتطيب بنمِير تحنُّن رائق، بأَوسم رِقة، أُختها الكبرى ”اللذة المعنوية الروحية“ إِذ ربما تحظى الأَخيرة - بجُل قضها وقضيضها - بنصيب الأَسد الوافر مِن النشوة الجاذبة الظاهرة؛ وتنال فَيضًا مُدركًا مُستضافًا مِن أَرق وأَرهف مَشاعر الانتعاش المصاحِب، كنشوة النجاح المُثارة هُنيهة، ولحظة الكسب المادي المُعاشة بُرهة، أََو ساعة سعادة إِنجاز وإِتمام مهام برنامج عمل يومي ناجح، باستحسانٍ ورِضاءٍ فائقين!

وهناك لذة أَسمى وأَنمى، تقطُن، برغيدِ عيشٍٍ، في أَعلى مَراتب درجات سُلم المشاعر المبتهجة؛ وتستوطِن، مُعزَّزة مُكرَّمة، في أَرفع عُلو قمم صِهاء الأَحاسيس المتيقظة؛ بل تستقطب وتستحوذ لِزامًا، على مِسَاحة رحبة؛ وتستولي على فَسَاحة واسعة في ناصية مقام سُدة حضور الوجدان الواعي، انتباهًا واستيقاظًا قائمين، ببزوغ صَحوتها الناهضة البِكر؛ الواعدة الملتزمة،

حِسًا وصِدقًا، بخِفة ورِقة انبلاجها المُشرق النشط، عقب أُفول وغياب رُكام أَشلاء عتمة الغفلة الساحبة، أَلا وهي أَصالة ورصانة ”لذة الارتباط الروحي“ الأَعلى المُوطَّد مَع خالق هذا الكون، ومدبر أَمره، الواحد الأَحد، الفرد الصمد… المرتبطة مَدارج مَراقيها السالكة السامية بيُسر وسَماحة أسرار كنه داخِلة الروح، وامتثال طوعي ذاتي مُماثل لمنهج الأَوامر الإِلهية المُستترة، بغمد خَبيئة أَسرار عُقر كنهها المحجوبة، وكامن خفايا حقيقة غايتها الحاضرة المُغيبة… إِنَّها أسمى لذة الارتباط التبتلي التعبدي الممنهح، بخالق هذا الكون، ومدبره، وموجده، ومديره، وسَائسه... فالعلاقة الروحية الثنائية الوثيقة الامتزاج والخلط، في نصل قامتها الرشيقة، هي أَول همزة وصل مُثلى، وريعان علاقة اتصال فُضلى، يتقرب بها العبد المؤمن الصالح إِلى مقام ربه الكريم، بالتزامه الناصح الناصع بتعاليم السماء السمحة، التي تناديه وتدعوه إِلى الابتعاد المشبُوه عن الركض التائه الزاحف إِلى مَحط مستنقعات مُرديات الهوى؛ وتثنيه عن الجري الضائع الزائغ وراء آسن رِزم الشهوات المُهلِكة؛ وتَحول بينه وبين زحمة التسابق الحائر الجائر في تتبع حِزم المعاصي العِظام؛ وتتوعده بوأد وترك الاستغراق المُقيت في نُهيَة الانغماس في مَسيرة مَغبة الملذات الساحبة الزهيدة. وإنَّ مِمَّا يميز ويربأ بصفاء ونقاء، وسمو وعلو اللذة الروحية المُجِلَّة؛ ويأْخذ بأطراف تلابيبها المَقُودَة إِلى أَهم وأَعظم مراتب ومقاعد سُدَّة جانب مَنازل كنف ”الضيافة الإِلهية“ المُترفة المُنعَّمة، ويُوصلها إِلى أَقصى وأَنمى درجات شَمم السماحة؛ ويسوقها، طَوعًا ويُسرًا، إِلى أَرفع وأَعلى قِمم الرحَابة العُليتين! … فذلك المنحى التعبدي مِن أَندى تَجليات رِفد العطاء الرباني الأَسمى، وتلك الهبات الإِلهية السَّنية الموعدة، هِبةً وإِهداءً، لا شك، ولا ريب فيه، إِنَّهما حبل متين ممدود، مُوصل إِلى رَشاقة السعي، وأَناقة وَسَاعة السكة السالكة القائدة، إصلاحًا وتهذيبًا، إِلى وُرُود ضِفاف مَحطات الخير؛ والدَّالة القائدة، بامتنان واصطبار، إِلى نيل مَنابع المغفرة؛ والهادية السائسة، بإِحسان وعِرفان، إلى اجتناء سُبل الرحمة؛ والمُهيأة، تكسبًا وشوقًا، إِلى طلب مُكتسبات النعيم المقيم في الدار الآخرة؛ والقائدة، بكريم عَطاء، وثمين رِفد، إِلى جَني واكتناز ”مَوعودات ومُعطيات ومَسكوكات“ الجزاء الرباني الوافر الأّوفى، في عُقر مُستقر مَساكن غُرف الفِردوس المُتعددة الآمِنة، في عُلو نعيم الدار الآخرة، عند مَقام حَضرة مَليكٍ مُقتدرٍ!: «ولِمَن خَاف مَقامَ رَبه جَنتان».