آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

سلة رطب

عبد الله الناصر

مضت ربع ساعة، ومازالت يد «علي» تطرق باب منزل «أبي حيدر»؛ فجرس منزله معطل. منزل ذا ثلاث طوابق من سيسمع صوت الباب فيه؟ محاولات الاتصال به فشلت، فخدمته مقطوعة. كانت رائحة نبات المشموم العطرة هي المشجع لعلي وقت انتظاره، عندها فُتح الباب.

بابتسامة يسبقها الترحيب والسلام، رحب أبو حيدر بضيفه الذي يجهل هويته، واعتذر منه بأدب عن مدة انتظاره بهذا الجو الحار. فتح له باب المجلس ودعاه للجلوس، وذهب للداخل وعاد بكأس من الماء وضعه لضيفه، كانت حبات العرق واضحة بجبين علي فاعتذر أبو حيدر بأن جهاز التكييف لا يعمل فدار الحوار التالي بينهما.

- علي: لقد شاهدت إحدى أعمالك الخشبية وجئت كي أطلب منك عمل 100 ميدالية خشبية للشركة التي أعمل بها. ومبلغ التكلفة سوف أسدده لك بشكل كوبون للشراء من إحدى محال «السوبرماركت» أو كوبون شراء بمحل إلكترونيات لأن الشركة تتعاون معهم، فماذا تفضل؟

- أبو حيدر وهو في حيرة من أمره: الكوبونان مناسبان ولكن كوبون المشتريات أفضل ويناسب لسد نواقص المنزل.

- علي: لقد شاهدت جهاز تكييف وغسالة معطلين في داخل كراج السيارة، ويبدو لي أن كوبون الالكترونيات سيفيدك أكثر.

- أبو حيدر: إن شاء الله بالرزق القادم سأحل هذا الموضوع.

- علي: هل تستطيع إيصال الطلبية للشركة عند اكتمالها وسوف يغطي المبلغ قيمة التوصيل.

- أبو حيدر: أعتذر يا ولدي فسيارتي تحتاج لتجديد رخصة التأمين والتسجيل ولا يمكن استخدامها قبل ذلك، البيت بيتك احضر متى شئت لاستلامها.

- علي: بارك الله في أصلك، ولكن كيف تسير أمور حياتك بدون سيارة؟

- ابو حيدر: الحمد لله على جميل نعمه التي أكرمني بها، هي أوجب بالحمد دائما، ويكفيني أن أرى ابني يعيش حرا معاودا لدراسته؟

- علي: هل كان ابنك سجين؟

- أبو حيدر: نعم، تعرف ابني على أفراد أوهموه بالربح وأدخلوه في دهاليز تجارة غامضة فراح ابني ضحية نصب منهم وحكم عليه لسنوات، وما استطعت إخراجه إلا بعد استدانة ثلاثة قروض حتى أكمل مبلغه، وهذا دفعني للعمل في النجارة كدخل إضافي لي.

- علي: إن كفاحك هذا حافز للفخر، إذا سمحت لي بالمساعدة لنشر أعمالك وتصاميم بضاعتك في بعض المكاتب، ورقم حسابك البنكي مع صورة تثبت قيمة قروضك فهناك الكثير من يرغب بالتعاون مع الكادحين مثلك.

- أبو حيدر: سأكون ممتنا لك يا ولدي لو استطعت ذلك، تعال بالغد وسوف تكون الأوراق جاهزة لك.

عندها قام بقطف عدد من الرطب من نخلة منزله وأهداها عليا ليتذوقها معتذرا عن تقصيره في ضيافته.

خرج علي دون أن يدرك أبو حيدر أنهُ اختصاصي اجتماعي من إحدى المؤسسات الخيرية حيث كتب تقريرا لمؤسسته قال فيه: «جاءنا اتصال يطلب منا مساعدة رجل متعفف لا يدرك الناس حاجته كونه يسكن في منزل كبير ومتقاعد براتب جيد، وبعد الزيارة اتضح وجود ثلاثة قروض أرفق لكم أوراقا تثبت صحتها فهي لا تبقي من راتبه إلا القليل الذي لا يسد احتياجات عائلته، الحاجة لا تسكن البيوت الصغيرة فقط فهناك منازل كبيرة تعيش بظروف قاسية والمقترح لمساعدته التعاون مع المكتبات الداعمة للأسر المنتجة لعرض منتوجاته، ومنحه تخفيض نصف السعر لمحل الأخشاب لشراء مستلزماته، ومبلغا ماليا يسدد به قيمه فاتورة هاتفه لمدة ثلاثة أشهر قادمة وتوفير صيانة مجانية لمكيفات منزله المتهالكة».

بعد عدة أيام جاء علي لاستلام طلبه، يحمل بيده الأولى علبة تحوي ما خصصته المؤسسة له وباليد الثانية سلة رطب قدمها إلى أبي حيدر وقال له: «كان جودك كثيرا مما تملك والله يكرمك أضعافه» احتضنه أبو حيدر بقوة مع صوت تنهيدة شكر عميقة من داخله تغني عن ألف كلمة شكر.

علي هو النموذج الذي يطالب الشيخ حسن الصفار في تواجده في مؤسساتنا وجمعياتنا الخيرة التي تتعامل مع أهل التعفف والحاجة ضمن محاضرته بعنوان «الفقر البغيض»

نزعة التملك وحب الذات نزعة فطرية نولد بها وتظهر منذ بداية إدراك الطفل لما حوله، ويكبر وتكبر معه النزعة، هذه الرغبة يتمسك الإنسان بها من أجل مصالحه وهي التي تدفعه وتحفزه للعمل وتملك الأشياء، الدين يرى أن «حب الذات يولد التملك» لكن المدرسة الشيوعية ترى العكس «حالة التملك تولد حب الذات» وترى أن نزعة التملك تكتسب من المحيط للإنسان وحتى لا يشاع حب الذات يجب أن يقوم المجتمع بملكية جماعية وليست فردية.

ويعطي الشيخ الصفار مثالا لما طبقته المدرسة الشيوعية عند احتلال روسيا وما حولها، حيث أخذوا ملكية المصانع والأراضي والمنازل باعتبار الدولة المسؤولة عنهم ونشروا ثقافة «أنت تعمل حسب قدرتك والدولة تعطيك مقدار حاجتك» لكنهم صدموا بطبيعة الإنسان لحب التملك فقام الناس بالعصيان والاحتجاج على ذلك حتى تراجع الشيوعيون عن الفكرة ولكن بشكل تدريجي فسمحوا للناس تملك الأراضي وأعمال التجارة الصغيرة فقط.

الدين من الله وهو من وضع فطرة التملك في عبده لذلك جاء الدين منسجما مع ذلك ولكن قدم تشريعات تهذب الإنسان وترشد الملكية الفردية ليبتعد عن الأنانية وحب الذات بشكل مفرط فيحرم بعض طرق الكسب التي تتعدى على حقوق الآخرين أو تظلمهم ووضع ضرائب يدفعها المتدين مثل: الخمس والزكاة ويدعو لتخصيص جزء من مال الفرد لغيره كحقوق إسلامية هكذا عالج الدين مسألة حب الذات التي تسبب الكثير من المشاكل بالمجتمع.

ثم يطرح الشيخ الصفار واحدة من أكبر مشاكل المجتمع وجعا، ألا وهي الفقر، ولكون الشيخ يحرص على الدقة في مفردات محاضراته دائما، فقد وضح أن للفقر مستويين:

- حد الكفاف: وهو الحد الأدنى ليستطيع الإنسان البقاء على قيد الحياة ويسمى عالميا «خط الفقر» وعالميا حد من لا يملك قيمة دولارين يوميا هو تحت خط الفقر.

- مستوى الكفاية: وهو أن يعيش الإنسان المستوى اللائق المتعارف عليه في الحياة داخل مجتمعه، فلا تقوم فقط على مأكله ومشربه بل حتى على احتياجاته الشخصية والسكينة التي يجب أن تتوافر لديه بما يناسب مجتمعه فالكمبيوتر يعتبر اليوم حاجة ملحة في كل بيت.

ويفتخر الشيخ الصفار لأن الدين يريد للإنسان العيش في مستوى الكفاية، فالإسلام يرفض الفقر وكل قوانينه وضعت لمنع هذه الحاجة، فالفقر:

- يمثل جرحا عميقا بكرامة الإنسان وانكسار بداخله.

- الفقر يسلب من الإنسان دينه فيجعله يشك بعدالة ربه وبالنظام الديني الذي يعيشه.

- الفقر يدفع للإجرام فيفقد المجتمع أمنه.

وينطلق الشيخ الصفار بعد ذلك إلى الجانب الإصلاحي ويطرح الجهات المسؤولة عن محاربة الفقر في المجتمع:

- الدولة: خاصة في ظل الدولة الحديثة، على الدول وضع برامج وخطط تنموية، ترتقي بمعيشة الفرد وتوفير فرص عمل ونظام تعليمي وصحي يسعى لمساعدة الأفراد نحو حياة كريمة لهم.

- الإنسان نفسه: فإذا كنت فردا لست كبير السن ولا يمنعك مرض من العمل، فأنت مطالب بالسعي للخروج من حالة الفقر لديك، لأنك مسؤول أمام ربك فلا تعرّض نفسك للحاجة، وللأسف في مجتمعنا الكثير من الناس تحصل على مساعدات من الناس والجمعيات مما يجعلها تكتفي بها وتتكاسل عن السعي.

- المؤسسات الاجتماعية: المجتمع عليه دور ومسؤولية مساعدة المحتاج وهو ليس تفضلا منه بل حق واجب لذلك حُدد تاريخ «17 أكتوبر» من كل عام يوما عالميا للقضاء على الفقر من أجل أن يتحسس الناس معاناة من حولهم.

- الجمعيات الخيرية: المتوفرة في أغلب القرى تحتاج دعما ماليا وتطوعيا منا لنستطيع خدمة أهل الحاجة حيث إن لها أدوارا كبيرة تعليمية وصحية واجتماعية وحتى دوراً يهتم بترميم وبناء المساكن.

يذكرنا الشيخ الصفار بأمير المؤمنين كيف حرص على البحث عن الفقراء والأيتام ومباراتهم ومعاملته لهم بتكريم وتقدير كبيرين لحساسية حاجة الفقر داخلهم، لذا كان اسم بطل قصتنا بالأعلى «علي» اسم يليق سلوكه سلوك الإمام في أدب التعامل مع المحتاج.

كان بالإمكان من علي أن يحمل ورقة كما يحملها بعض أخصائيي الجمعيات تحتوي أسئلة محرجة يجيبها صاحب الحاجة بخجل، استخدم علي عينيه ليشاهد مستوى الاحتياج واستخدم الحوار الذكي ليفهم وضع أبي حيدر دون إحراج وطلب الأوراق الرسمية بحكمة دون فرض وإجبار والأهم أنه استطاع أن يشعره بالفخر والتقدير رغم احتياجه ووضع خطة مساعدة لا تهدف للتبرع والمساعدة الوقتية بل لمساعدة هدفها تأهيلي وتدريبي تجعل الفرد يخرج من حالة الحاجة بجهده واجتهاده دون أن يشعر بفقد كرامته.

لنكن جميعنا تلاميذ أمير المؤمنين في سلوكنا مع أهل الحاجة، ولتكن أيدينا معطاءة بسخاء، وللأسف سلوك الناس بالأنانية والبخل أعاق تشريعات الله التي تجعل المجتمع متوازنا دون فقر. وحرص الشيخ والتأكيد على أهمية ودور المجالس الأسرية في تفقد أحوال عوائلهم وتجنب مشاكل الإرث خاصة بين الأخوة وتشجيع الناس في دعم الأسر المنتجة التي تكافح للقمة العيش.

ليكن بيدك دائما شيء مخصص لمن حولك، لا يهم مقداره بقدر كيفية إعطائه، فسلة رطب كانت سببا في احتضان شخصين لا يعرفون عن بعض شيئا سوى أن كلا منهما يملك قلبا إنسانيا صادقا محبا للخير دون مصالح.