آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

الضياع

عبد الله الناصر

موظف ذكي في أحدى الشركات العالمية، يخرج في رحلة عمل بطائرة خاصة، وسط عاصفة قوية، تسببت في وقوع طائرته في المحيط لكنه بفضل طوق النجاة تحمله الأمواج ويجد نفسه في جزيرة غير مؤهولة بالسكان.

حاول كثيراً الخروج من الجزيرة بطوق النجاة لكن الأمواج كانت سببا في تمزيق الطوق، وإصابة قدمه، بعدما رمته الأمواج على الصخور. هذه ليست النهاية، فبداية الصراع الحقيقي والمأساة للتوّ ابتدأت.

الليالي الأولى كانت مرعبة، موحشة، فكرة الموت والضياع والنهاية المحتومة لديه، والخوف من المجهول سيطر عليه، فكان يبكي داعيا ربه أن ينجيه، حتى قرر التحدي والصراع لآخر لحظة من عمره للنجاة، لأن الجلوس والدعاء بمعجزة لإنقاذه لن تسد جوعه ولن تخفف ألم جروحه، ولن تعيده لدياره.

ستعيشون المتعة لحظة بلحظة، وأنتم تشاهدون كيف استطاع بطل هذا الفلم الامريكي من تحويل كل الأمور الموجودة في هذه الجزيرة لخدمته، فقط باستخدام عقله، كان يحاول إيجاد الحلول لكل المشاكل التي تمر به، بدأ بصنع أدوات من الخشب لصيد الأسماك وكيفية كسر جوز الهند ليضمن غذاءه، صنع له مأوى يحميه من حرارة الشمس الحارقة، وحاول إشعال النار مراراً حتى نزفت وتجرحت يداه، صنع من الأوراق حذاء له، وصنع من المواد الطبيعية مرهما لجراحه، وكم كان مؤلما قيامه بقلع سنه بطرق غريبة ليوقف أوجاعه.

بعقله استطاع أن يكيف ما حوله لخدمته ليغطي أغلب جوانب حياته حتى الجانب الاجتماعي صنع له دمية كصديق بوجه مبتسم يحادثه باستمرار. ورغم مرور الزمن لم ييأس من صنع السفن التي تتحطم بفعل قوة الأمواج، وتحطم معها أحلامه.

وبعد أربع سنوات ولأول مره تنجح سفينته بالصمود لتبدأ رحلته في الإبحار للمحيط، لكن أماله بالنجاة تدمرت بعد أن وجد نفسه ضائعا في وسط الماء والشمس، بعد أيام هذا المقاتل للحياة استسلم أخيرا وقرر أن يوقف التحدي فقوته ضعفت وجسده هزل وجلده أصبح كالخشب من جفافه، اغمض عينيه لينام آخر ساعاته بانتظار الموت، وعندما أفاق وجد نفسه في على سرير أبيض محاطا بالأجهزة وأنابيب التغذية في غرفة المستشفى، ليعلم بعد ذلك أن سفينته مرت ووجد في الوقت الذي كان مغمى عليه في قاربه وتم إنقاذه بأعجوبة.

هل كان سيعيش لو ترك عقله وجعل الدعاء فقط يقوده؟ كيف حول اليأس إلى أمل؟ التحدي للحياة هل يكتمل دون ارتباطه بالقلب واليقين بمساعدة الله لنا؟ عقل واحد استطاع تطوير الحياة لخدمته كيف لو أننا جميعا تعاونا وتحدينا الحياة بعقولنا؟ كم من الإنجازات سوف نحقق؟ هل تعلم ما هو دورك بهذه الحياة؟ «تطوير الحياة مهمة الإنسان» عنوان محاضرة الشيخ الصفار التي ستوضح لك كل ذلك.

نستحق جميعا أن نعلم ما موقعنا في هذا النظام الكوني بين مخلوقات الله، والقران الكريم تحدث عن ذلك في قوله تعالى «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا»

استرسل الشيخ الصفار في شرح هذه الأفضلية للإنسان فهو المخلوق المميز لله تتجلى فيه عظمته

خلقه من تراب الأرض واختاره الخليفة فيها لإعمارها، أعطاه العقل والطاقات وكنوز الأرض بكل مواردها ولم يكتف بذلك بل سخر الكون كله لخدمته وطلب منه بعد ذلك العمل بتلك المهمة.

إن الحياة المنعمة هي بالجنة لذا ففي هذه الدنيا على الإنسان العمل لأجل نفسه واحتياجاته فالله سخر لك السمك بالبحر لكن عليك السعي لاصطياده.

حمل الأنبياء والرسل الدعوة لتشجيع وهداية الناس وارشادهم لاستخدام عقولهم ليس في تعاليم الدين فقط بل في جوانب الحياة بأكملها. فالمسلم وغير المسلم تقع عليهم مسؤولية تطوير هذه الحياة. الدين يعطينا التوجيه ولكن يبقى القرار مرتبطا برغبة الإنسان نفسه وبالعادة هناك دافعان يدفعان الإنسان لاستخدام نعمة عقله ليواجه صعوبات حياته.

- الحاجة: التي تجعله ينتج ويكتشف ما يعينه لتسهيل حياته وحل مشاكله فشدة الحر دفعت الإنسان لاختراع مكيف الهواء

- الفضول: من صفات العقل حب الفضول والتفكير بالتعرف على الأشياء التي لا يدركها الإنسان فيكشف حقائق الكون ومعادلاته

الإنسان مسؤول ان يتعلم فالجهل ليس عذرا لذلك. المتدينين قديما اجتهدو بالعلم حتى اشتهروا بالرقي والتطور حتى صارت كتبهم متداولة بين الجميع وإنجازاتهم. وللأسف جاء بعدهم مسلمو عصر التخلف الذين ركزوا على الآيات التي تشجع للعبادات وأهملوا الآيات الداعية للتأمل والتفكر مما جعلهم في حالة ركود وخمول متخلفين عن سواهم.

وعبر الشيخ عن دور فقهاء الشيعة فهم رغم مكانتهم إلا أنهم لا يضعون خطط تطوير البرامج الصحية والتعليمية والسياسية لمجتمعاتهم بل يتركون المهمة للعقول البشرية المبدعة لتعمل في حدود الدين دون تجاوزه وتنهض بالمجتمع.

يتساءل الشيخ هل دعاؤنا اليومي بعدم الموت سيمنع الموت؟ هل الدعاء هو ركيزة العمل الأساسية التي يجب أن نؤمن بها ونعتمد عليها لحل مشاكلنا؟

أجاب الشيخ بشكل جميل عن ذلك حيث إن الحياة لا تسير بشكل فوضوي بل قائمة على سنن الله التي لا تبدل، وأن الدعاء يجب أن ينضم للعمل بشكل متناسق لينال الإنسان جزاء ذلك من بركات الله وتوفيقه.

سعي الإنسان هو ما يصنع واقعه ويحل مشاكله وليس التفكير الغيبي، من هذا الباب نحن لا نشكك بقيمة الدعاء في الدين ولكن يجب أن ندرك فلسفتها التي لخصها الشيخ في:

- الدعاء عامل روحي يفتح أبواب الأمل

- الدعاء يدفع للعمل

- الدعاء يطلب من الله حل المشاكل بطرق يجهلها الإنسان.

عندما نفهم أن هناك دعوة ضالة ودعوة صالحة ذلك يجعلنا ندرك أن الدعاء هو لقضاء الحاجات بعد السعي طمعاً من الخالق للاستجابة. للأسف تعلق الإنسان بالغيبيات دون تفكير جعل بعض الناس تقضي كل تحركاتها باستخدام «الخيرة» لذا يجب التعقل إن الخيرة تعني طلب الخير لا اكتشاف طرقه.

كل ما يجب فعله أن نقدر نعمة العقل الذي أنعمنا الله بها، وأن الإنسان بتكافله مع أخيه يدا بيد حبا ودعما سيتمكن من الوصول لراحته وسعادته وحل المشاكل التي تعيق حياته، اليابان هي أكثر دول العالم تطورنا بسبب إيمانها بقوة العقول البشرية وتشجيعها ورفض خمولها.

علينا جميعا من نقطة ما البدء بالتغيير فحياتك أنت من تعد مساراتها ولا تتعذر بالجهل أو الخوف والضعف فالله سخر الكون لأجلك «أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبر». الضياع لا يعني العيش في جزيرة مجهولة، الضياع اليوم على صورة اعتمادنا على الآخرين، وعلى شكل الكسل في تطوير أنفسنا وعلى لبس ثوب الجهل. والأصعب من ذلك هو الضياع داخل أنفسنا فلا ندرك تكريم الله لنا كأفضل مخلوقاته.

والأصعب من ذلك هو الضياع داخل أنفسنا فلا ندرك تكريم الله لنا كأفضل مخلوقاته. لذا اسع في الأرض إعماراً وارسم شتى الطرق وتأكد أن اللحظة التي تُغلق بوجهك كل المنافذ أن الله بإعجازه سيفتح لك بابا ما كنت تدركه أبدا ً.