آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

بداخلك يكمن السر

عبد الله الناصر

بعد تأخير دام ثلاث ساعات عن إقلاع الطائرة المتجهة إلى أمريكا؛ بسبب تصليح عطل بسيط بها، صعد الركاب فرحين وفي نفس الوقت قلقين من سلامة الطائرة، وأنا منهم.

لم يكن هناك كرسيًا فارغًا، الطائرة ممتلئة بالكامل بكل الجنسيات الأجنبية، حلقت الطائرة بنا حتى وصلت إلى ارتفاع عالٍ جدا، وفجأة تبدأ الطائرة بالاهتزازات العنيفة؛ مما أدى لعلو صرخات الركاب خوفًا، وجاء نداء الطيار معلنًا عن دخولنا في منطقة مطبات هوائية قوية، وعلى الركاب ربط الأحزمة، وقراءة تعليمات الطوارئ والنجاة المرفقة بجانب الكرسي، وإذا استدعى الأمر ستكون هناك محاولة للهبوط الطارئ في إحدى الدول القريبة حتى تعتدل الأحوال الجوية.

شعور بالعجز أحاط الجميع، وتلك الاهتزازات تزداد قوة، تزيد معها دقات القلب، اعتقد أن الجميع شعر بقرب الموت له، كان الصمت سيد المكان، شاهدت أيدٍ متماسكة لدى البعض، وصوت تمتمات لا تفهم من البعض الآخر، ورؤوسًا مرفوعة للأعلى كأنها تدعو بصمت، وأعين أغلقت وكأنها ترجو أملاً بالنجاة. وأنا كنت اقرأ بعض الأدعية وآيات القرآن؛ ليطمئن قلبي، حتى قاطعني صوت قادم من الشخص الجالس جنبي، يسألني هل أنت مسلم؟ فأجبته بنعم، فطلب مني أن أدعو ربي أن يوصلنا بسلام من هذه الرحلة، خرجنا من منطقه المطبات بحمد من الله بعد ساعة من الزمن؛ لكنها كعشر ساعات من الخوف والقلق.

رغم اختلاف طرقنا بالتدين، إلا أننا شعرنا جميعا بشعور فطري تحرك بداخلنا في تلك الأوقات؛ دون وعي بالحاجة إلى الدعاء. هذا الإيمان الذي حل على المتدين، وغير المتدين أن هناك قوة ممكن أن تحميه، هو أقوى من قوة العلم والتكنولوجيا وتطوراتها، في لحظة كان غير المتدينين متعلقين بطريق لا يمكن أن يدركوا مصدره، وينتظروا منه الأمل بكل ما يملكون من مشاعر وأحاسيس.

قلوب غير المتدينين كانت متعلقة بمن لحظة الرجاء والحاجة؟ هل نحن نملك الدين بفطرة نولد بها؟، هل لدينا غريزة فطرية مشتركة للتدين رغم اختلافنا كبشر؟ هذا الأفق من المواضيع هو ما تناوله الشيخ حسن الصفار في محاضرته بعنوان «الدين وإدارة الحياة».

حيث أكد على أن الدين نزعة فطرية بدواخلنا يؤكدها علماء التاريخ والآثار؛ حيث كانت آثار المعابد حاضرة في كل الشعوب، هذا ما يثبت وجود «الجين الإلهي» المسؤول عن الشعور الديني بداخلنا لوجود الله سبحانه.

الدين من الأمور الضرورية في الحياة، فمهما تغيرت الأمور والأحوال تبقى الحاجة له مستمرة، فما هي يا ترى وظيفة هذا الدين؟

يجيب الشيخ الصفار على ذلك بعدة نقاط مفادها:

- الدين يجيب على تساؤلات الإنسان الوجودية التي تدور بفكره مثل من خلقني؟ ما هدف وجودي؟ باعتبار الإنسان عاقل تتردد عليه الكثير من الأسئلة والإجابة عليها هي ما يشكل قوة التدين في الفرد.

- الدين يعطي الإنسان الشعور بالأمان والأمل والراحة، عند إدراكه أن هذه الحياة تديرها قوة غير مرئية؛ لكنها منظمة ومرتبة مما يجعله يعيشها بطمأنينة مدركًا أبعادها، فالجهل بذلك وعدم إدراك هذا، والعيش ضمن المجهول والترقب يجعل الإنسان يعيش متوترًا قلقًا باستمرار.

- الدين يعالج مسألة حب الأبدية في الإنسان؛ فالإنسان بطبعه يحب الخلود، فلو كانت الحياة تنتهي بالموت؛ لتمسك الإنسان بالحياة بكل ما يملك؛ لكن الدين عالج ذلك بجعل الموت مرحلة تأتي بعدها تكملة حياة خالدة مما جعل الإنسان لا يقلق في هذا الجانب.

- الدين يغطي ويعزز الجانب المعنوي في شخصية الإنسان، لقد تميز الإنسان عن الحيوان بالفكر لذلك فهو يحتاج للماء والشراب؛ لتغذية الجانب المادي الجسدي ويحتاج للدين والعقيدة؛ لتغذية الجانب الروحي العقلي.

- الدين يرشد الإنسان إلى الأخلاق الفاضلة والسلوك السليم؛ وهذا الأمر اختلف فيه الإسلاميون، فهناك من يرى أن الأخلاق الحسنة والسيئة مستمدة من الله، وهو من يحدد ما الجيد والسيئ منها، وهناك اتجاه يرى القبح والحسن شيئًا ثابتًا في ذات الصفات لذلك الله ينهى عنهم.

وقدم الشيخ موضوعين في المجتمع منتشرين بكثرة «الإجهاض الذي يمثل خطرًا على الأم، والموت الرحيم للمرضى الذين يعذبهم المرض» اختلفت الآراء في نظرتهم الأخلاقية في تطبيقها بين مؤيد ومعارض، وهنا عندما يعجز العقل عن تحديد الصواب يأتي الدين ليساعده في ذلك.

الدين ليس مجرد لفظ يردد بالألسن، الدين يرتب الحياة بشكل متكامل، هو يديرها من كل الجوانب

ولكن هل هذا الدين المتكامل موجود بكل الديانات؟

وضح الشيخ الصفار ذلك بقوله إن معظم الديانات ليس لها تشريعات في إدارة الحياة؛ وإن أوسع شريحتين هي الإسلام واليهودية، وزاد محاضرة الشيخ إثراءً عندما تكلم عن «التلمود» الكتاب الضخم ب 12 فصلا، الذي يحوي أَحَادِيث، وقصصًا، وحكمًا، وأعرافًا، وآراء، وتشريعات علماء اليهود بكل جوانب حياتهم. حيث أنار عقولنا بشرح مختصر عن هذا الكتاب بشكل سلس وبسيط.

الإسلام هو الدين الذي جاء واضحًا وموجهًا؛ ليدير كل حياتنا بما فيها من مصاعب وعقبات، تحوي سور القرآن وأحاديث الرسول على نهج حياتنا،

وجاء من بعدهم أ هل البيت بحكمتهم، واليوم ومع التغيرات السريعة في العصر، ووجود الحركات المتطرفة التي تحاول أن تنشر أن سر تخلف المسلمين هو تمسكهم بالدين؛ يأتي دور المراجع العلمية بالاجتهاد بالعلوم الدينية ليضعوا الفتاوى الشرعية وتجديدها بما يناسب التطور الذي نعيشه؛ مما يجعلنا نواكب باقي المجتمعات.

ولنأخذ الإمام الحسين قدوة تترجم وجود الدين في تفاصيل حياتنا، فقضيته سياسية؛ لكنه لم يخطُ نحو معركته إلا لتثبيت دينه، وهذا ما يؤكد أن الإمام لم يقف خارج نطاق عقيدته. ونحن الشيعة أكرمنا الله بأهل البيت ، تركوا لنا إضاءات روحية وفكرية؛ تعيننا في محبتنا وتمسكنا وتفقهنا بالإسلام الحق.

إذا تصرفنا جميعا طبقًا لقوانين الدين؛ فإن طرق سعادتنا وراحتنا تتسع، لنتأمل جميعا بمن رسم الكون بهذا الجمال، لنفكر كيف أدار كل هذا النظام الكوني، لنبحر في أجسادنا؛ لنرى عظمة الخالق فيها، لنقرأ القرآن؛ لنفهمه، لنصغي إلى أحاديث النبي ففيهم سبل الحكمة الصالحة في كل زمان ومكان. أحب دينك ليس لأنه ما وجدت آبائك عليه؛ بل لأنك أيقنت أنه لا دين عظيم متكامل سواه يستحق الحب والانتماء له.